الأربعاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٨

المجنون والسحاب

سمير الاسعد

للمرة الأولى في حياتي أتوه عن وجهتي داخل المدينة القديمة. الأزقة الضيقة تحولت إلى سراديب مليئة بالأتربة والقاذورات ومخلفات بضائع التجار في كل مكان تضيق المساحات. تدلت عدة خيوط من أشعة شمس ظهيرة احد أيام شهر شباط من احد ثقوب الغطاء البلاستيكي المعرش لتصنع انعكاسات تلألأت بلون ذهبي كزغب خيوط العنكبوت. وهناك رأيته يقف قرب دكان العطارة المغلق في زاوية مكشوفة من ناحية سوق التوابل الشرقية.

كان واقفا وعيناه الى الأعلى ويداه تتقاطعان فوق رأسه بإشارات دون مغزى. يعتمر قبعة مهرجين ويرتدي بنطالا ممزقا عند الركبتين مما يوحي بأنه غير طبيعي. اقتربت منه مترددا كي اسأله عن الطريق وتنحنحت، استدار برأسه وأشار لي كي اقترب منه وقال:

 هل ترى ذلك الأسد هناك في الأعلى؟

مسحت بنظري السماء دون ان أتكلم. فأعاد سؤاله.

كان لدي الوقت الكافي لأجاريه، فقلت له وقد استحضرتني فكرة تجربة جديدة قد تضيف شيئا ما الى رسالة الماجستير التي احضرها عن حالات التوحد

.. أظن انه اقرب الى وحيد القرن منه الى الأسد.

اشرأب برأسه الى الأعلى وقد ضاقت عيناه وهو يتفرس في الغيوم المتشكلة أثناء سيرها البطيء، ثم اخذ بقياس أشياء وهمية بكلتا يديه كأنه يحمل مترا او مسطرة.الا ان هز رأسه بالموافقة وهو يقول:

.. نعم انه وحيد القرن.

لم أتوقع هذه النتيجة السريعة واحترت بكيفية الاستفادة القصوى من هذه التجربة بعد ان فتح أمامي منفذا للدخول الى ساحة تفكيره.

.. أنا لست مجنونا كما يقولون. وأنت ما رأيك؟ الا ترى معي المشاهد السماوية التي تعكس ما يحدث في كل بقاع الأرض؟ كل ما تراه هو انعكاس حقيقي لأرض الواقع. فهناك سرب من طيور البجع تتجه الى أماكن الدفء، وهناك خنزيرة برية مع أطفالها. وهناك شخص يطلق النار على قطيع من الغزلان، وفوقنا تماما ما يشبه الطائرة. أنا أرى كل شيء، لا نحتاج الى معدات الرصد والتتبع اذا ما قرأنا حركة الغيوم لنعرف ماذا يحصل في العالم. ولكن المشكلة هي تحديد مكان الحدث. انت أول شخص يرى ما أراه. لذا أبقى معي وساعدني في حل أسرار السماء.

.. باغتتني الفكرة. الا أنها كانت فرصة طيبة كي استثير عقله واسبر أغوار مداخله النفسية.

قطع حبل أفكاري وهو يطلب مني ان أقف مقابله وأراقب الغيوم بعد ان هبت رياح حملتها على زيادة سرعتها.

قلت ان لا بد لمتابعة التجربة وقبل ان أتحرك اخرج من كيس كان يضعه في الزاوية وراءه عدة
أوراق للرسم، سلمني إحداها وقال بعد ان مسح شفته العليا بسبابته:

.. ارسم ما تراه بكل صدق وإلا لن تخرج من هنا سالما.

رأيت جحيما احمر يتوهج في حدقيته وشعرت برعشة خفيفة ساطت خدي كأنها رصاصة خدشته

الا أنني صممت على التجربة تدفعني رغبة جامحة.

لم اعهد بنفسي تلك الجرأة التي واتتني فجأة وأنا امسك بيده وأشده ناحيتي بقوة وأنا أقول:
 لماذا نرسم ما دامت المشاهد تتنقل ولا تثبت؟

بكل بساطة أجابني ودون تفكير وكأنه يتوقع السؤال:

 لأنها تنتقل الى أماكن أخرى من العالم وتدور مع دوران الأرض الى الأبد.

 هل تعود هنا الى نفس المكان؟

 نعم.. نعم. هيا ارسم ذلك العلم الذي يرفرف هناك.

 وماذا نستفيد؟

 لحظة الاقتران. هناك الحل.. والمعركة الفاصلة

 ماذا تقصد؟ هل..

تجاهلني وهو مستغرق تماما في الوقت الذي مر بقربنا شخصان يتحدثان لم يعيرانا أي اهتمام. كان احد المحلات يفتح وصوت قرقعة الأقفال يملأ المكان الخالي.

حاولت ان ارسم ما تهيأ لي انه شخص يقود قطيعا من الجمال، وأنا أفكر في نهاية منطقية لهذا اللقاء غير المتوقع الا ان هبة هواء قوية أفلتت الورقة من يدي، فركضت ورائها كي التقطها فاصطدمت به وأوقعته على الأرض وطارت الأوراق من يده، وهنا رأيت تلك النظرة القاسية في عينيه وهو يلاحق أوراقه التي تناثرت في كافة الاتجاهات.

لم يمض وقت طويل حتى عاد بقربي وهو يتفوه بعدة شتائم وأشار الي بعصبية وهو يقول:
 لقد أضعت ثمرة جهدي بحماقتك.

لم افهم سر تلك الابتسامة التي لاعبت شعاع الشمس الذي غمر وجهه وهو يستدير مواجها السماء ثم انطلق اتجاه السوق المغلق وتركني وحيدا.

حاولت اللحاق به الا انه كان قد اختفى، وعند وصولي باب الحانوت المفتوح خرج منه شخص اعترضني وهو يبتسم. وقفت وأنا مندهش، وزادت دهشتي لدى رؤيتي مسنان يجلسان على مقعدين من القش داخل الحانوت يحمل احدهما كاميرا كبيرة الحجم. دخلا دون ان ألحظهما أثناء انشغالي بمراقبة السحاب. يا لي من أبله. أضعت وقتي مع جنون.

خاطبني الشخص الجالس بجانب حامل الكاميرا قائلا:

 هل أوقعك في فخه؟ لقد كنت كفأر تجارب.

تلعثمت وأنا اسأل حامل الكاميرا:

 هل كنت تصور؟ ما الذي دفعك لذلك، ومن هو ذلك الشخص الأبله؟

حدق بي ثلاثتهم باستغراب ثم انفجروا بنوبة ضحك لم تنقطع حتى بدأت بالمسير داخل الزقاق الذي اخترقه ذلك العالم الزائف.

 هو امهر طبيب نفسي في المنطقة. يقيس ردات الفعل التلقائية لأي عابر سبيل عند مقابلة مريض نفسي مفترض ويسجلها بالصوت والصورة. يعمل على تقديم رسالة دكتوراه من نوع خاص.

لم اعد اسمع الا صوت قهقهاتهم فأسرعت في خطوي لأداري إحراجي متمنيا لو تنشق الأرض وتبتلعني. وجاءت منة الله ورحمته بأسرع مما توقعت حينما بدأت حبات مطر ثقيلة بالهطول تلقفها جسدي برعشة قبل ان تلمع السماء وترتج بقصف رعدي تكرر صداه طويلا.. لقد نشبت حرب السحاب في الأعالي.. ولكن هل تنهي معارك الأشكال السحابية جنون الأرض ؟

سمير الاسعد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى