الأحد ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم محمد السموري

أدعياء الثقافة... ومحنة انفلات المعايير!

كثيراً ما يدقُّ مسامعنا سؤال يطرحه الجّميع على الجّميع، ولا سيما هؤلاء المشتغلين والمعنيين بالشأن الثقافي، ولو أن َّالإنسان مهما كان اهتمامهُ أو اختصاصه هو معنيٌ بالشأن الثقافي بشكل أو بآخر، لأن جانباً منها يعنيه بحكم الصّيرورة، لكنـّه يعني المشتغلين بهذا الشأن بشكل أكثر إلحاحاً، السؤال يأتي اعتباطياً في بعض الأحيان وجاداً في أحيان أخرى، وتقليدي أو تمثيلي،أو تسايري، تشم منه روائح مختلفة عند سماعك دويِّه يباغتك ويدك قلاع إمبراطوريتك الحصينة التي هي خصوصيتكَ وعنوانك، فتشم رائحة التحدي، كالبارود، أو رائحة المفاخرة والمناظرة كالدخان، أو رائحة الازدراء كالعفن الرطب، فيفجّرُ فيك طاقات لإجابات متعددة ومتباينة، وكل منها موجه حسب مصدر ورائحة السؤال، فما الجواب لسؤال، هل تملك مكتبة في بيتك؟ سوى ما يناظره تماماً، ونعيد على السائل سيل من الأسئلة من قبيل الدفاع بالهجوم، وعلينا أن نبني بيتا كبيت العنكبوت حول سؤاله ونبدأ بالأكثر عنفا:

هل قرأت مكتبتك؟ ما عمر مكتبتك قياسا إلى عمرك ؟ هل اشتريتها دفعة واحدة؟ أم أخذتها كتاباً كتاباً، بين الواحد منها والذي يليه شهوراً، وأشحت بوجهك عن أشياء أخرى، وتطارشتَ عن سماع طلبات تسبّبُ لك الصمّم، كل ذلك لتقرأ كتاباً، ومن ثم تحتفظ به رصيداً، وعزاؤك أن ولدك سيراك فيه، تخاطبه بلغة الصّمت التي تعني أشياء كثيرة لا يفهمها الجّميع، ولا سيما هؤلاء الذين اشتروا مكتباتهم بصفقة واحدة، فراحوا يتشدقون بأعداد الكتب التي يملكونها، بغض النظر عن محتوياتها وأسمائِها، وأما ذلك المسكين، فبشيء من الاستكبار والمكابرة يطلق دفاعاته الباهتةِ، وكأنـَّه يتخلص من بصمة أريدت له ليواجه مستعرض ثقافة من نوع آخر يدعي أنـّه يملك أكثر من ألف كتاب في قرص واحد، فيسفـِّه القائل بالادعاء أنـّه لا يساوي كتاباً واحداً، أقلـِّب صفحاته فيبادلني المودّ ة، وأعود إليه متى أشاء بدون كبسة تشغيل، وكلمة مرور، وشاشة مضيئة، وجلوس القرفصاء يعقبه روماتزم، وقصر نظر، وأرغَم على تركه إذا انقطعت الكهرباء.

لكنَّ لا أحد ينكر أنَّ كتاب القرص يصلح للبحث السريع عن مفردة أو معلومة محددة، ولأنه لا زال لا يعتمد كمصدر مقبول في البحث والتوثيق المرجعي، لكنَّه بذات الوقت يجد المعلومة ويقدِّمها لك قبل أن يرتد إليك طرفك،أو قبل أن تقوم من مكانك، باحثاً في مئات الكتب، مما يعجز عنه العقل، وهو بهذا لا يصلح للقراءة المتواصلة كبديل عن الكتاب.
لهذا كيف يمكن قبول مسألة اعتبار الكتاب من أدوات زينة غرفة الضّيوف؟ أو مجالاً لمزايدة أدعياء الثقافة، وضروبهم المختلفة ومنها على سبيل المثال، المثقف الاستعراضي، ومثقف اللحظة، ومثقف العناوين، ومثقف اللقف، والمثقف المناسباتي، ومثقف تحت الطّلب، والحشري، والمهووس، والمتصنع، إلخ. ولا شك أنَّ لكل منهم سمات ومواصفات تميزه.

وقبل أن نعرج إلى توصيف مقنعي الإنترنت الوهميين الذين يكتبون بأسماء لم يسمهم بها آباؤهم من قبل، نجد أن سمات هؤلاء الأدعياء متقاربة، فمنهم من يتأبط عدداً من الكتب أينما حل ورحل، حتى لو دعي إلى وليمة عرس، أو وكيرة بناء، ومنهم من يشارك في كل حوار بعد أن يصغي إلى طبيعة الحوار فيلتقط لقفا ًبعض العبارت ليكررها مجترّاً، فيربك المتحاورين أو يغير مجرى الحوار إلى مساجلة لا نفع منها. ومنهم من لو نشرت له إحدى الصحف مساهمة ظن نفسه فوق الزّهراوي في فن الترسل النثري، فيقيم الدنيا من كثر ترديده لها ويقدم نفسه على أنّه كاتب أو أديب وشاعر وناقد. وبعضهم ممن له نتاج حقاً لكنـّه غير مصدق لنفسه أولاً، فيعتقد أن لا أحد يعترف به وبنتاجه فتجده ما برح يلهج به. أما الصنف الأكثر إيلاما فهؤلاء الذين (يصلحون) لكل لون وصنف، رواية، قصة، شعر، نقد، مسرح، بحوث ودراسات، وفوق هذا وذاك يميلون حيث يميل الرِّزق، فمن يتبنُّ فكرة ويرفضها بنفس الوقت، ما هو بأكثر من بائع جوال، ينادي على فاكهة الموسم. ومنهم ما بات يعرف في الخطاب الثقافي العربي بالمخبر المحلي أو المثقف البوق، الذي يقول ما يطلب منه قوله، فيتم توليفه تماماً كجهاز الخدمة الآليِّة.

لقد برزت أسماء كثيرة في مجال الكتابة من خلال الجّوائز المعدة، وتسويق الإعلام الظالم، والدعاية الكاذبة، والتبني غير الشرعي من قبل نافذين، أوهمَ بعض العاطلين عن العمل أنهم ُكتّابٌ فعلاً، فتعربشوا كالطحالب على منابر الثقافة، في ظل غياب وانفلات المعايير النّاظمة لمعطيات الإبداع على أنها حراك تنموي، وكأن قيم الانفلات العولمي باتت تلقي بظلالها حتى على منظومة الإبداع إلى جانب الاقتصاد والسّياسة. وأمام محنة الانفلات الثقافي هذه نوصّف معاناة المشهد الثقافي العربي على أنها تكمن في خطر النتاج الذي يقدّم عبر هذا الانفلات مما يخرِّب الذائقة، فلا القصيدة قصيدة، ولا المقالة مقالة. فكيف بمن لا يحفظ بيتا ًمن الشعر يكتب شعراً، وأي شعر هو؟

أما مقياس ( إبداعهم ) أن تطلب إلى أحدهم إعراب ما كتب أو شرح معانيه، كما بات يتصدى للنّقد من يجهل
قواعد وشروط النقد الأدبي، من اتباع مقولة خالف تعرف؟ إن هؤلاء الذين يكتبون ولا يقرؤون إنما يعتقدون أنهم خلِقوا كتاباً وحسب، ولا حاجة لهم بالقراءة، وما المكتبات النائمة في بيوتهم سوى وسائل احتيال وتمويه، وغش للذّات قبل غش الآخرين.

إن الكتابة ليست مجرد هواية ومهنة، إن لم تستحوذ على استحقاقاتها الموضوعية وأولها القراءة، التي تهب الكاتب زاده المعرفي وتوسع مجالات آفاقه ومداركه، وتجعل له ذخيرة معرفية متواصلة بتواصل القراءة، وعندما تنقطع تنفد ذخيرة الكاتب كما تجف البئر تماما ً، فيكون نتاجه هذراً لا نفع منه، أو اجتراراً لمقولاته السّالفة،وإن خرج بأثواب جديدة فإنـّه أبعد عمّا يسمى إبداعا. ورغم كل هذا وذاك فلا يفهمن أحد دعوتنا هذه للتخلّص من الكتب ( الأسفار )
التي حُمّلوها البتة فقد يرثها من أصلابهم قرّاء يفيدون بها يوماً، ولا هي دعوة لإحباط الناشئة والمبتدئين. إنها مجرد دعوة لنفض الغبار عن مكتبات البيوت لنجوب بها لباب العقول التي أبدعتها، والبيان الإلهي الذي ورد على صيغة الأمر، اقرأ باسم ربك الذي خلق [ العلق1 ] إنما لتعظيم شأن القراءة. فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات وعلم الإنسان ما لم يعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في اللسان وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي فلهذا قال: ( اقرأ وربك الأكرم الذي علَّم بالقلم علَّم الإنسان ما لم يعلم [ العلق3-5 ]) وهذه دعوة إلى الامتثال للثقافة في الحياة والسّلوك العام بمعنى تطابق الفكر مع الواقع، فلا يكون مثقف طقوس ومناسبات وحسب، كمن يقول ما لا يفعل .

كتب عبد الحميد الكاتب رسالة إلى الكتّاب يوصيهم فيها قال: (إن الكاتب يعرف ما يَرِد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدُّ لكل أمر عدته وعتاده ويهيئ لكل وجه هيئته،وتفقهوا في العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزِّهوا صناعتكم عن الدناءات وإياكم والعظمة فإنَّها عداوة مجتلبة وتحابّوا في صناعتكم وتواصوا عليها، فإنَّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء فإنِّ أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أنَّ صاحبه أعقل منه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا تكاثر على نظيره.) (جمهرة خطب العرب ج: 2 ص: 508)

إن َّهؤلاء المتثاقفين بمختلف صنوفهم، دائهم واحد، وهم بالذات يشكلون داء الثقافة، وأحد مشكلاتها الراهنة في زمن انفلات المعايير. ولعل السرعة وزمنها السبب المباشر لظاهرة الابتذال الثقافي التي يبشر بها القرن الحادي والعشرين، قرن (الما بعديات العولمية) في الثقافة بمختلف تجلياتها من التاريخ والاجتماع والقيم، إلى الأدب والفكر والفن والقادم أعظم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى