السبت ١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم رشيد سكري

بُوثًلـْمسيردين

1. قلت: من الواجبِ أن تتحجَّجَ إلاَّ بما ترَاه العين، فالأذنُ خديعة والعينُ بصيرة.

قال: هذا يكفينا من الوساوس و المحن. حورياتٌ البحر بشعْرهنَّ السَّابغ من نور يُضئـْن سماء آيت عبو، رأيتهن بأم عيني، فجر ذاك اليوم الأغبر، يتوضَّأن، ويُطرْطشن أجسادَهن العارية بماء عين بُوثـْلمْسيردين.

قلت: إنَّ الملائكة تطوفُ مجالسَنا، فلا فزع و لا حزن إذن، وأينما وليت وجهك، تجدُ كلامَه جلَّ علاه.

قال: عينُ بُوثـْلمْسيردين،عينٌ جَلاَّبة الأدَى... لِمَ لمْ تقل طلعُ دُغلها كرؤوسِِ الشياطين؟ موضع تحفه أقدام... لا كالأقدام، تبقى راسخة أبدا كجُذور الطـَّلح في الفلاة.

2. عند الحجرة الملساء، مجلس ينشط كلما ضاقت القرية ضائقة، جلسوا جميعا، قابعين وراء الهمِّ و الغمِّ، تسري فيهم رجفة خوف تعْتلجُ في صدورهم. صورٌ تثرى في أذهانهم عمَّا تجلبُه هذه العين المائيَّة من الدَّهشة والأسى، غير أنها فيَّاضة بماء رقراق زُلال ينعش الروح و البدن.
لم يتوانَ عَبّو في تغوير هذا الجرح الدَّامي بحكي مستفيض، حول ما لقاه في بُوثـْلمْسيردين ليلة النُّحور، ليلةٌ قدَّاحة ريح صَرْصر عاتيَّة... جلس فيها بين الأشنَّة والدُّغل يتوضَّأ لصلاة العشاء قبل أن يصعدَ عبر المسالك الوعرة إلى المسيد، حيث ترك محافل أقدام تتراقص لأجساد يَسْبغُ لها شعرها، حتى كاد أن يغطي باحة العين المائية كلها. من الفزع... والوجل... والضَّيْم أيضا...قام من مجلسه ملسوعا، كأنه أصيب بهمس جنون، دون أن يتمم فرائض وضوئه، و قـُطيرات ماء عين بُوثـِلْمْسِيرْدين تلمع كالكريستال، وتتندى على وجهه المُصحَّن، مُخللة ًلحيته الشعتاءَ الشمْطاءَ.

ـ وا كبدي! أضنى الأسى كبدي، ونالني ما يشبه القـُداد، إنه يعتصرني...
ذاك الرقص بتلك الوجوه، وبذاك المكان...لازال يزلزل ذهني، و يذكرني باليوم الموعود، يوم القيامة. يُستعادُ كشريط مُلفِح لا يكفُّ عن الدوران... مررتُ بمدن كثيرة، وصادفت وجوها عدة في الشوارع والطرقات وعند وصائد المساجد و الكنائس و المعابد القديمة. لاحقتُ أطيافا بنفسجيَّة تحوم في سماءات مدن نائمة، و عند المطارات و في صور جوازات السَّفر... وفي عيون القتلى والمجرمين و المهجَّرين من أوطانهم و النشَّالين والفاسدين والصَّالحين، ولم أعثر عليهن... اِستيقظ جمالٌ عابرٌ تحت جلدي، واخترقني كشعاع قرمزي فاتن.

3. سمعتُ من نداءاتٍ بعيدة وغامضة أن ماءَ عين بُوثًلـْمسيردين، أوجدها اللهُ كي تكون بجوار الرُّموس، فجاءت إليكِ يا عينيَّ الرَّوامسُ، لا تبقي و لا تذر. تقدح شراراتها، فتدفن ما تبقى من البشر والحجر.

4. عين بُوثًلـْمسيردين ستبقى عينُ الله...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى