السبت ١٨ آب (أغسطس) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

وجهٌ آخرُ

هكذَا ألقَى بي حظّي التعسُ، يومَ قررتُ تهذيبَ مظهرِي (ذقني) التي بدتْ كشجرةِ طلحٍ، أغصانهَا تمتدُّ خارجًا.

سرعانَ ما خرجتُ من بيتِي، واتّجهتُ إلى محلِّ حلاقةٍ صغيرٍ.. وعلَى الفورِ نظرتُ لأرَى عاملاً يبدُو من سحنتِهِ السمراءِ المحترقةِ أنّهُ آسيويٌّ.

تململتُ في بادئِ الأمرِ عن فكرةِ تبديلِ مظهرِي؛ وانتابتنِي حالةٌ من الترددِ سرعانَ مَا نفضتهُا.
جلستُ فوقَ كرسيٍّ أمامَ مرآةٍ بدتْ زاويتهَا متصدّعةً بعضَ الشيءِ.

دقائقُ وإذَا بالعاملِ يطوّق عنقِي بقطعةٍ بلاستيكيةٍ، بادلتُهُ ابتسامةً شاحبةً تساءلتُ: في نفسِي ربّما هُو ذاتُ الحلاقِ الذي سيعتنِي بمظهرِي.. دفعتُ من رأسِي الأفكارَ الغبيةَ التي استحوذتْ عليَّ.

نظرتُ إلى شعرِ ذقنِي وهُو يزهُو متناثرًا فوقَ خديَّ.. لحظاتٌ وأمسكْ الحلاقُ أدواتِهِ وعلَى الفورِ بادرَ عملَهُ دونَ أنْ يتفوّهَ بكلمةٍ.

من شريطٍ استعرضتهُ ذاكرتِي وسبحتْ بي الأفكارُ الهلاميةُ، وأخذتْ تتلقفُني بينَ اجتياحِ مدٍ وجزرٍ.

ما لبثتْ أن صُمتْ أذني. وتراءَى لي دوامةٌ تجذبنِي إلى عالمٍ وحلٍ تُعتمهُ الأشباحُ في رأسِي في مساحةٍ يغلّفها الصخبُ.. وكأنّني أغرقُ وحيدًا في تيهِ الموجِ.

في هذِه الرحلةِ القصيرةِ كانَ العاملُ قدْ أنهَى تهذيبَ ذقنِي، وقفَ هُنيهةً وكأنّهُ يستجمعُ أفكارَهُ، ثمَّ بدأ المرحلةَ الثانيةَ بتنظيفِ بشرتِي.

حرّكتُ رأسِي يمنةً ويسرةً لكنّه أمسكَ بهِ مثبتًا إيّاه. حينهَا سلّمتُه نفسِي طائعًا.. أغمضتُ عينيَّ لأرَى خواءً، وشبحًا يطلُّ برأسِهِ.

مرّتْ اللحظاتُ بطيئةً وأنَا بينَ يديهِ، بدأتُ أشعرُ بوخزٍ في وجهِي.. تأمّلتُ يدَهُ كانَ ممسكًا فرشاةً خشنةً، لمْ أستطعْ أنْ أتأمّلهَا جيدًا.

واصلَ ضغطَهُ علَى وجهِي، كنتُ أتألّمُ بصمتٍ.

فتحتُ عينيَّ لبرهةٍ، تأمّلتُ الأداةَ التِي استخدمهَا لتنظيفِ وجهِي.

كانتْ فرشاةً خشنةً بشعرٍٍ أسودَ مدببٍ.
إنها..

فرشاةُ تلميعِ أحذيةٍ!!

كانَ يضعهَا ويطليهَا بمادةٍ ذاتَ لونٍ أبيضَ.. ويحرّكهَا في اتّجاهاتٍ مختلفةٍ.

كنتُ اتّكأ على أسنانِي التي كادتْ تنكسرُ من شدةِ الألمِ.

مضتْ نصفُ الساعةِ عصيبةً أبطأ ممّا أتخيّل كأنّهَا سنةٌ..

بعدَ أنْ أنهَى تعذيبَهُ أمسكَ علبةً مدببةً. وأخذَ ينثرُ فوقَ وجهِي طبقاتٍ من البودرةِ طامسًا ملامحِي ببياضِهَا، أمّا أنَا فقدْ انتابنِي إحساسٌ أجوفُ، وتسربلتُ بالذهولِ.

قمتُ علَى الفورِ دونَ أنْ التفتُ للمرآةِ كَي لا يرعبُني مظهرِي..

دفعتُ لهُ قيمةَ مَا طلبَ بلا ترددٍ، وخرجتُ مسرعًا.

وإذ بحرارةٍ تلفحُ وجهِي، وتصفعُه بشراسةٍ.. كانَ الألمُ في البدايةِ مجرّد وخزٍ عابرٍ حتَّى صارَ عميقًا.

وعلَى الفورِ ركبتُ عربتِي لحاجتِي لهواءِ المكيِّف، علّه يمنحُني بعضَ البرودةِ.

مضيتُ إلى منزلِي..

توجهتُ مسرعًا إلى المرآةِ أرتعدُ خوفًا

نظرتُ مليًّا!

هالنِي منظرِي من تلكَ الثقوبِ التي أحدثهَا في بشرتِي، تراءَى لي ألوانُ قوسِ قزحٍ وربّما قطعة فاكهةِ "فراولة" فاقعة استلقتْ فوقَ وجنتي، عكستهَا المرآةُ.. هذَا ليسَ بوجهِي الذي أعرفُ جيدًا.

لمْ يكنْ في مقدورِي أنْ أفعلَ شيئًا سوَى أنْ قفز من داخلي ضَحك مُفرط
ندبتُ حظّي التعسَ.. الذي قادنِي لماسحِ أحذيةٍ وليسَ حلاقًا.. بَدَلَ وجهي . وأحدثَ فيه تشوّهاتٍ لمْ تَزُلْ إلاّ بعد مرورٍ مدّةٍ طويييييييييلةٍ.

قررتُ بعدهَا أن أتركه مغبّرًا متّسخًا.. وأتفادَى تعريضَهُ لعبثِ ماسحِ الأحذيةِ - يزعمُ أنّه حلاقٌ-!!
وأظلُ أدركُ شيئًا أقلٌّهُ (لستُ قبيحًا)..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى