الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٨
بقلم إبراهيم خليل إبراهيم

من الجزئية للتوليد

إما أن تكون الكلمة فارسا نبيلا ، أو خائنا عميلا ، تصدق هذه المقولة _ إلى حد كبير_ على ديوان ( بساتين البوح ) للصحفي والشاعر والمؤرخ / إبراهيم خليل إبراهيم ،حيث آل على نفسه أن تمطر سماء قلمه ، لأرض وطنه ، وجعل كل اجتهاده في سبيل توجيه أبناء الوطن ، فدائما يغرس أشجار المبادىء ، والقيم النبيلة ، في الأرض الخصبة .
شاعر ملتزم بهويته المصرية ، ووسيلته لغته الصافية ، وغايته تنقية الفكر والمعرفة العربية ، فهو ينتقي البذور ، وينقي الجذور .
ليس الشعر قافية ووزنا ، أو صورة وبديعا ، إنما الشعر معرفة للواقع ،وسبر لأغوار النفس ،وحكمة تلزم من يتعلمها ،ذلك ماجعل الشاعر / إبراهيم خليل إبراهيم راسما ذاته شاطئا للنيل ،حارسا للأرض،مدافعا عن الحرمات والأعراض،منتجا شعرية عربية جديدة ، تغير وظيفة الشاعر العربي فقد كانت الغنائية القديمة وصفا موسيقيا ، يعتمد الإيقاع التقليدي ، من هنا جاءت مقولة ( الشعر ديوان العرب ) وتجاوز شاعرنا في ديوانه المقولة ليصبح الشعر عنده ،قدرة عقلية على تنظيم المعارف والمعلومات ، والخروج بنتائج ،مع المحافظة على حدود النسق الثقافي المتعارف عليهما بين المبدع والمتلقي ،ولتصبح رسالة الشعر مؤطرة في مساحات تبادل المعرفة ، (فالشعر فكر ومعرفة) بدلا من (الشعر ديوان العرب ).
هذه الشعرية الملتزمة بالتفكير كعنصر تقنية ، وبالمعرفة كرسالة إبداع ، جعلت نصوص الديوان متنوعة ،بين التقليدية في ثوبها الكلاسيكي المتقعر في القدم ،والرومانسية في بستانها المغرق في الغربة والرمزية ،وشعر التفعيلة كلوحة تنتمي لرصد حركة الواقع الإجتماعي .
كما اعتمد الشاعر / إبراهيم خليل إبراهيم النص النثري كتجريب غير مسبوق ولامطروق في الشعرية العربية فقصد قصدا إلى جمع التاريخ الشعري كمنتج في نصوص متجاورة ، كتجربة لبيان مراحل التطور من ناحية ،وإصرارا منه على تغيير وظيفة وتقنية الشعرية العربية من ناحية أخرى ، في محاولة لتقديم التطبيقات الفنية ، باعتبارها المؤثر الأعلى في ذاكرة الوجدان الجمعي ، وربط منهجية الشعر بمنهجية التجريب في العلوم الطبيعية .
هذا شاعر يقدم المنتج ،ولا يعتني بتنظيرات غيره ،حيث إنه مهتم بمنطقة الوعي في الشخصية المصرية ، وهذه المنطقة لم يدخلها معظم شعراء العرب ، من نفس مدخل الشاعر / إبراهيم خليل إبراهيم ،حيث يرى شاعرنا أن الشخصية المصرية تحمل سمات البشر جميعا ، وكذا بها سمات ومفردات الطبيعة ،فعطر الزهور ، وضوء النجوم ، وغذاء الطيور ،ورقة الماء، وخضرة الزروع ،كل ذلك في الشخصية المصرية فجاءت نصوصه متابعة لتطور الشعرية العربية ، من التفرد والريادة ، إلى التميز والاندماج في الشعرية العالمية ، لتصبح شعرية العربية مؤسسا مميزا ، وسابقا مندمجا في شعرية الواقع العالمي .
يشتمل الديوان على عشرين نصا تجريبيا ، فيبدأ بقصيدة (وزير الأشواق) وينتهي بنص (أتيت) واعتمد الشاعر / إبراهيم خليل إبراهيم التقنيات المتعددة ،والتجريب المتعمد لسبر أغوار كيفية التلقي للذائقة الجديدة ، فتأتي القصيدة الأولى على بحر المتدارك ،وتفعيلته (فعلن) مكررة في الشطر أربع مرات وكذا قصيدته (طهر) تأتي من مجزوء الرمل ، فيقول :
أبلغوا عني عفاف ... حبها ملك الشغاف .
فتاتي تفعيلة (فاعلاتن) مكررة مرتين في الشطر ، ويميل شاعرنا / إبراهيم خليل إبراهيم إلى بحر الكامل باعتباره من أتم الصيغ الإيقاعية في شعرنا العربي فيقول في قصيدته ( يامصري ) :
يا طلعة البطل الجسور الغاضب
يا خير جند الله من عهد النبي
يا من أنرت إلى الوجود كشمسه
وحفظت إيمان الحياة بكوكبي
فجاءت تفعيلة ( متفاعلن ) مكررة في الشطر ثلاث مرات ، ولحقها من تسكين الثاني المتحرك لتصبح (مستفعلن) في مواطن عدة من القصيدة .
وحينما ينسج شاعرنا التطبيقات التطورية للشعرية العربية في إطارها التراثي الأصيل ، يخرج من التأطير والتحديد إلى شعرية الكون في تناسق الوجود لا تناسق مفردات النص ، وهذا ما جعله يرسم الواقع والرؤية في تنظيمها الوجودي ، لا تنظيمها اللغوي ، فجاءت اللغة عنده لتعبر عن ذاتية الوجود ، لا تقنية الذائقة الجمالية ، وهذا ماتهتم به الشعرية العالمية ، التي خرجت من عباءة هيدجر الفلسفية ، حين هرب الأوربيون المحدثون من اللغة المحددة الأبعاد ، وبالتالي من موسيقاها الصارخة ، والابتعاد عن المعاني الجزئية في محاولة للوصول إلى توليد اللغة ، وانشطارها من خلال التعالق بين العوامل في النص .
وقد أسس شاعرنا / إبراهيم خليل إبراهيم لطقوس جديدة تحمل الخصوصية للشعرية العربية ، فالميل إلى الدلالات والإيحاء ، من خلال الاستدعاءات العقلية لترابط الدلالات ، بدلا من الفهم الجزئي للمعاني ، حيث الارتباط بين ذات الشاعر والعالم من حوله ، وقد قام الشاعر بالتجريب في الموضوعات القديمة ، كتراث يقبل إعادة التشكيل ، كما جاء في نص ( أماه ) فيقول :
نقشت في دروب الكون اسمك
لأني لم أر رسمك
ذكرت كل أسمائي
فضاقت أن تصف .....
وسمك .............
أنا منك فضميني
فقلبي خافق باسمك .
وكذا في قصيدة ( هى ) :
فلتنهمر الموسيقى .......
بلغة جديدة ...............
على قدرها ...............
فمنها تبدأ الأغنيات
وعندها .......
تقف المواويل .................
وينبع النهر .................
يا كفك المنهمر بالياقوت ...
والروعة ...................
يا وجهك المكسو ............
بالسجدة والركعة ............
يا صوتها الملكي .............
في الصباح ....................
وفي المساء ...................
ويأتي نص (مساحات) ليعبر عن بهاء الجسد ، فأضحى يدعم فكر النبلاء في تعاملهم مع الوصف الجسدي ،ويدحض الفكر المعياري الوجودي للجسد ، فهو يرفض نظريات الذكورة والأنوثة للجسد الإنساني ، ويلفت وجهات النظر إلى ثراء المعاني التي يمكن أن يتكىء عليها الفكر الإنساني من الرحمة والتعالق الروحي غير المعلل ، كما يعيد تسمية الأشياء ، فيقوم بأنسنة الوجود على قدم مشروعه المعرفي ، ليصبح الإنسان عالميا متحاورا مع العالم حوله ، منصتا ودالا فيقول في نص ( مساحات ) :
مساحة المحيط ................
أصغر من مساحة البهاء ......
في عينيك ........................
وسحر النجمات ..................
في الليالي المظلمة ...............
شظايا من سحرك أنت
كيف يمكنني الإجابة ؟
حين ينتفض الخصر
معلنا عن جلسة
تحت جفوني
تقسط لي في حقوقي
وتمتد شفاهي ناحية
العشب الإلهي .
فالشاعر يكسب اللغة جديد الفكر ، ونبيل المعرفة ، في محاولة للوصول بالمتلقي إلى درجات ثقافية أعلى ، وبساتين أدبية جديدة العطر ويمتطي صهوة جواد الفكر الفلسفي في نص بعنوان ( ما ... ) ويختار لعنوانها أن تكون استفهامية ، فيبدأ من التعرف على كونه موجودا وينتهي إلى ما وراء الميتافيزيقا ، وكأنه يذكرنا برسالة جوته إلى صديقه كلاندا حين قال له : ( إن الله أحبني حين أهداني الوجود ، وانتقم منك حين تركك فيما وراء الوجود ) .
فالأديب / إبراهيم خليل إبراهيم هنا يرى ان غربة الإنسان في عدم فهمه لحكمة الكثير من علامات الاستفهام في هذا العالم .
لا يمكنني إنكار أن ديوان ( بساتين البوح ) للشاعر / إبراهيم خليل إبراهيم هو ديوان جديد في استراتيجيات الشعرية العربية ، بل هو المرحلة الأعظم في شعرية صاحبه الذي يقدم ذاته كمفكر
ومؤرخ وباحث عن التطور في الفكرة الاجتماعية .
فهو يبحث في تاريخ الشعرية العربية والعالمية كبحثه الدءوب في مصادر التنوع في الشخصية المصرية ، وتأتي مرجعياته إلى القائم ، ليلتزم طريقا تصاعديا في سماء العقلية العالمية .
إن الشكر لايفي بالقليل لهذا الشاعر الرائد والصحفي الصادق والمؤرخ المحقق .
د .رمضان علي منصور
أستاذ الأدب والنقد والبلاغة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى