الاثنين ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

الحب في العناية المشددة

رجاءً لا تتمسّكوا بيدي وأنتم تلفظون أنفاسكم الأخيرة.. قد تسحبوني معكم.. ولست جاهزاً بعد لمواجهة حتفي.. ولست مستعدّاً للقاء ربي!

لا.. لا تتشبّثوا بي.. تملّصوا منّي كمَليصٍ ذي سطوحٍ زلوقة

لا تنظروا في وجهي وأنتم في الرّمَق الأخير ..قد تنطبع صورتي في شبكية عيونكم كصورةٍ أخيرة من الدنيا الدنيئة.. اشخَصوا بأبصاركم نحو السماء التي ستنطلقون إليها أيها الطُّلقاء من سجن الأرض

ولتكن رحيماً بهم أيها الموت بينما تستلّ أرواحهم

كن سريعاً كلمح البصر.. فالألم قبل الموت أشدّ وطأة من الموت بعينه

لا تعذّبهم وتعذبني معهم.. لا داعي لعمليات الرّقص حول المريض وتجريب الحقن المتنوعة والصدمات الكهربائية فأنت أقوى من كل خزعبلاتنا الطبية ..ومازال الموت حتمياً ولو استأخرناه طبياً

ومن منا عالمٌ بساعته

آهٍ.. لو أضافوا في صحيفتنا تاريخ وفاتنا المؤكّد إلى جانب تاريخ ميلادنا.. لكانت حياتنا أكثر برمجة.. ويحسب كل منا حساباته لساعة الرحيل.. لكن الموت مازال مصرّاً أن يأتيك كاللص
ويعلم الكثيرون ممّن تمدّدوا في أسرّة العناية المركزة أنّ نهايتهم أزفت لا محالة.. وحانت الساعة.. والصلاة إن تردّدت كثيراً على الألسنة وفي القلوب قد لا تجدي.. ووضع المصحف على وسادة مريضٍ مسجّى لا معنى له لأنه لن يقرأ والصواب أن يقرؤون له بل وعليه.. ويطلب المريض اللطف في القضاء إن كان لا مناص من ردّه.

البرودة والزرقة والخفقان والرعدة علاماتٌ معروفة.. والتحاليل والتخاطيط وأجهزة المراقبة القابعة فوق المريض قد تنبئ بتبدلات ينبغي معاكستها.. ولكلّ علامة ترياقٌ يُستطَبُّ اللجوء إليه ..والصدمة الكهربائية إن نفضت الجسد قد لا تنفض القلب فلا يستجيب آهٍ .. وذلك الإحساس بأنني سأفقد مريضاً يجعل قلبي ينفطر .. والشِّعر والأحاسيس المرهفة لا مكان لها هنا.. يجب أن تعمل كالآلة .. وفقدان المرضى في حلبة العناية المركزة أمرٌ روتيني

لطفاً..اقطعوا الكهرباء عن جهاز المنفسة الإصطناعية، فالصدر يتحرك صعودا وهبوطاً ..ولكن القلب قد توقف ، والروح صارت في مهبّ الريح

لا تنسوا إغماض عينيه ..أسدلوا تلك الستارة فقد انتهت مسرحيته

رجاءً أفلت يدي واذهب إلى آخرتك.. ودعني أنتظر آخرتي في حينٍ آخر.. والأصابع المتشنّجة قويّة كمن يعلق بك قبل السقوط في الهاوية.. بصماتي عليك ولست أنا القاتل ..ووجهي آخر من رأيت ولست أنا من أودى بك ..أفلتني ودعني أغسل آثار بصماتك ..ودعهم يغسلونك لتذهب انطباعات أصابعي عن صدرك وساعدك ..والقفازات صارت ضرورة لإخفاء آثاري عن جثمانك.

صوتي آخر صوتٍ سمعته .. وأنينك إن نسيته فلأنّ زحام الراحلين متشابه .. والآهات لها نفس اللحن في كل الأصقاع .. وإيقاع الموت على اختلافه ينتهي بالسكون الرهيب
رجاءً لا تتمسّك بي كغريق .. فأنا قد لا أحسن العوم أمام موجتك الجارفة ..الدوّامة ستبتلعك وأنّى لي مقاومتها ..والبحر دوامات ولو بدا لك ساكناً أيها البحار

افتحي الأبواب والنوافذ على مصراعيها أيتها الممرضة الحسناء.. ودعي الشياطين والأرواح الشريرة تخرج من ظهرانينا

قالت الممرضة ساخرة:

 كلما مات مريض كأنك تموت معه .. حساسيتك فاقت الحد ..وكأني بك جديدٌ في هذه المهنة .. وأنت ما كنت كذلك ..ألا تذكر تشبيهك لعمليات الإنعاش بأنها مجرد رقصات مجنونة حول الآيل للموت كرقصة أكلة لحوم البشر حول الأسير الذي يطبخونه.. ألا تذكر كيف شبّهْتَ الحقن الإسعافية بمجرد توابل وطعوم إضافية تضاف للذبيحة التي سيأكلها الموت..

 نعم .. وكل مريض يموت بين يديّ يثبت لي من جديد بأنه لا جديد تحت الشمس ..ومن جديد أصرخ مازال الموت قوياً يا بشر، وحتمياً فاتعظوا..

ومازلت أرى نفسي ضعيفاً ووحيداً في حلبات الموت فأنسحب منكسراً.. وأشتاق إليكِ عندها شديد الاشتياق.. وأطلب مساعدتكِ كامرأة وأنثى وليس كممرّضة.. كما كنت أشتاق لأمي كلما غلبني رفاقي الصغار، فأدفن رأسي في صدرها

ضحكَتْ وأمسكَت بيدي لتفرّغ بعض شحناتي عبر جسدها.. وقالت:

 تعال إليّ أيها الطفل المغلوب على أمره ..لا تبتئس فالجولة اليوم كانت عليك ..ولن تربح في منازلة الموت إلا إن تدخّل الله لصالحك

وقادتني من يدي نحو زاوية في غرفة العناية المركزة ، وأشارت إلى سجادة للصلاة ..وتابعت هامسة:

 استغفر ربك واطلب هدايته ..اضرب رأسك بالأرض وعفّر جبهتك جاثياً بين يديه فلا حول ولا قوة إلا به

قلت:

 ما أحوجني الآن إليكِ ..تعالي معي إلى تلك الزاوية التي نحتجب فيها عادة عن المرضى ..أكثري لهم من المنوّمات والمخدّرات فيرتاحون.. ويغفلون عنا..

أعطني جرعة مخدّرٍ من شفتيك أولاً ..وضمّيني إلى صدرك كما عوّدتِني بعد كل انتكاسة ..وبعد كل عملية جراحية فاشلة أخجل بعدها من مواجهة أهل المريض.. لا.. لا أريد فنجاناً من قهوتك ولا سيجارة أنفث دخانها على الشرفة .. أريد أن أختبئ قليلاً ..كلاعبٍ خسر السباق لتوّه فانسحب من أمام الجمهور الذي راهن عليه

ويستهجن البعض عشق الطبيب لممرضته في الشدائد .. ولا يعرفون أنه يحتاج إليها احتياجاً.. فهي معه في السرّاء والضرّاء كجنديٍّ مرافق لضابط كبير.. يرافقه ويذود عنه كملاكه الحارس.. ومسحة العرق التي تمسحها الممرضة عن جبين الجرّاح غالية ولا تتقنها زوجته ..وصياحه في وجهها وتأنيبه لها الذي تردّ عليه بابتسامة تعجز عنها أي امرأة.. وممرّضتك لا تنتظر اعتذاراً حتى ولو شتمتها.. ليس لأنها مرؤوسة لديك بل لأنها قد تقدّر مبلغ الأسى الذي تواجهه وهول الشدائد التي تمرّ بها.. تفرح لانتصارك وترتكس لانكسارك

قد تحتضنك في لحظة ضعف ..وتسمح لك أن تلعب بشعرها

ولا تخجل أنت من جسدك المبلل بالعرق أو الدم إن كنت بين يديها .. ليس حبّاً جنسياً بين ذكر وأنثى .. ولكنه تعاطفٌ بين رفاق السلاح وهم في خندقٍ واحد .. والمرأة إن تعاطفت معك أعطتك كل شيء!

لحظاتٌ قد يستسلم فيها الطبيب لاحتضان ممرّضته (وقد تكون طويلة الزمن)..ومديدة ولذيذة ..في غرفة عمليات معزولة أو في زاوية محتجبة من غرفة العناية المشددة ..يلوذ بها فتخفّف من غلواء نفسه

كالأم تخرج ثديها من مكمنه وتعطيه للرضيع فيسكت ..وما كان جائعاً ..ومن يرضع يغمض عينيه فينسى محيطه المعجون بالآلام ..وإرضاع الكبير قرأت عنه وآمنت به كإرضاع الصغير

قالت:

 رويدك ..تلك المريضة قد رأتنا وقد تظن أننا نفعل منكراً

ولم أبالِ بذلك ..ولن أشرحَ لأحد ولن أبرّرَ لكم كيف يكون الحب ضرورياً في أحلك الظروف وأضيق الأماكن..ولو كان في وحدة العناية المركزة

إنها استراحةٌ وقتية للمحاربين .. يستأخرون بها عن الرّكب ويغيبون قليلاً عن الأعين.. ويعودون إلى المعركة أقوى شكيمةً

في الجولة الصباحية على المرضى كنا سويّة ..وكانت تكتب ملاحظاتي وتوصياتي ..وعندما وصلنا إلى المريضة التي شاهدتنا ابتسمْتُ وقلت:
 الحمد لله على سلامتك يا أمي

وقابلتني المريضة العجوز بابتسامةٍ غريبة يختلط فيها الرضى بالتأنيب.. وقالت:

 تلك الليلة كانت عجيبة فقد زارنا ملاك الموت وملاك الحب.. تزوّجها يا بنيّ فذلك خيرٌ لكما

لم أخجل من قصتي وإن كنت أعترف بها بعد عشرين سنة.. ولم أخجل من رواياتٍ ستنسجها تلك المريضة عن علاقاتٍ غير شرعية بين طبيب وممرضة لتقول أن الشيطان كان ثالثهما

والآن .. وإن كنت كبرْتُ عن عشقٍ ممنوع وعن علاقاتٍ عابرة.. وإن استكبرْتُ على انحرافاتٍ انجرفتُ إليها سابقاً .. إلا أنني مازلت أميل للحب في لحظة انهيار..وعندما تتكاثر عليّ الأسنّة.. كعنترة الذي يتذكّرها عندما كانت الرماح نواهلٌ منه وبيض الهند تقطر من دمه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى