الاثنين ١٨ آذار (مارس) ٢٠١٩
بقلم علي القاسمي

الجريمة الكاملة

1

وفي ثورة غضبي العارمة، عزمتُ على الانتقام من هذه المرأة. قرَّرتُ أن أقتلها شرَّ قتلة. صمَّمتُ على تصفيتها جسدياً وإلغاء حياتها، انتقاماً للألم الذي سبَّبتْه لي، والإهانة التي ألحقـتْها بي، ظلماً وعدواناً.

وبعد أن هدأتْ أعصابي بعض الشيء، وقلَّبتُ الأمر برويَّةٍ وأناة، وجدتُني مصرّاً على قتلها. ولكن، ولكن سأقتلها بطريقةٍ عبقريَّةٍ لا أدفع معها الثمن. سأرتكب الجريمة الكاملة التي تمنحني الرضا والارتياح، دون أن أترك أيَّ مؤشِّرٍ أو أثرٍ يدلُّ على الفاعل، أو حتى يضعني في دائرة الشكِّ والاتهام من قريب أو بعيد.

في تلك الليلة، بعد أن أخذتُ حماماً ساخناً في المغطس مدّةً طويلةً ثمَّ أويتُ إلى فراشي الوثير، رحتُ أفكّر في طريقةِ قتلها والخطَّة التي أتَّبعها في تنفيذها. وسرعان ما ومضتْ في ذهني فكرةٌ فذَّة، تأكّد لي أنَّ لا مُخبرَ في العالم، حتّى (شارلوك هولمز)، يستطيع حلّ طلاسمها، بل ولا حتّى المخبر البوليسي البلجيكي اللوذعي (بوارو) الذي استعانت به الكاتبة البريطانية الشهيرة (أغاثا كريستي) لحلِّ ألغاز جميع الجرائم الخطيرة في رواياتها التي يربو عددها على مائة وعشرين رواية. لن يستطيع شارلوك هولمز ولا بوارو ولا غيرهما من كبار المُخبرين وعظام المفتِّشين البوليسيِّين، العثور على أوَّل الخيط في عقدة جريمتي، حتّى لو تمتَّعوا بذكاءٍ خارق، واتَّبعوا أفضل طريقةٍ منهجيَّةٍ في التحقيق.

سأرتكب الجريمة الكاملة التي يحلم بها عتاة المجرمين وأفذاذ المخطِّطين الاستراتيجيِّين؛ يساعدني في ذلك مخزون قراءاتي لأكثر من ألف روايةٍ بوليسيَّة، ودراساتي الجامعية العليا في القانون الجنائي، وما عُرِف عني ـ بكلِّ تواضع ـ من ذكاءٍ متوقِّد، وكتاباتي عن القصة البوليسيَّة وقواعدها وطريقة بنائها، وكيفيَّة عمل المخبرين البوليسيِّين للكشف عن دروب الجريمة ودهاليزها المظلمة واحداً واحداً، وتصنيف الوقائع واحدةً واحدة، ووضع كلِّ واقعةٍ في مكانها، ثمَّ تُمحيصها كيما تقود إلى الواقعة التي تليها، دون إهمال أيَّةِ واقعةٍ مهما كانت صغيرة أو بدت تافهة لا أهمِّية لها، لتقودهم الوقائع في آخر الأمر إلى مرتكب الجريمة الحقيقيِّ.

لن يعثر جهابذة المخبرين ولا عباقرة المحقِّقين على الفاعل في جريمتي مطلقاً، لأنّ لكلِّ جريمةٍ دافع، وكلَّ جريمةٍ تنفّذ بسلاح: سكين، مسدّس، مادَّة سامة، إلخ.، ووراء كلِّ جريمةٍ مستفيد، وتقوم بين القاتل والمقتول علاقة ما. وهذه العناصر كلُّها يصعب التأكُّد منها، أو حتى الوصول إليها، في حالة جريمتي.

ولكن لماذا عزمتُ على قتل تلك المرأة وقرَّرتُ تصفيتها جسدياً بأبشع طريقة؟ سأضع التفاصيل كلَّها أمامك بكلِّ أمانة. وأنا واثقٌ من أنَّك ستقرّني على ما عزمتُ عليه، بل ستساعدني على قتلها إنْ لم تبادر أنتَ إلى قتلها بكلتا يديْك الكريمتيْن. إليك القصَّة بكلِّ أمانةٍ وصدقٍ، ولكن بشيءٍ من الاختصار حرصاً على وقتك الثمين:

2

في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، كنتُ رئيساً لأحد الأقسام الجامعية في إحدى دول الخليج التي كانت ما زالت تعاني الفقر والعوز قبل الطفرة البتروليَّة. فأبنية عاصمتها ما زالت آنذاك من الطين، وشوارعها تنتشر فيها الأزبال. وترزح الدولة تحت فكرٍ دينيٍّ ظلاميٍّ متزمّتٍ موروثٍ من عصور الانحطاط. فالترفيه محرّم، فلا وجود لتلفزيون ولا سينما ولا مقاهٍ ولا حدائقَ عامَّة، بل لا أشجار في الشوارع، فكلُّ ما تراه العين بلون الرمل الشاحب الذي يغطّي الشوارع ويحيط بالمدينة في صحاريها الشاسعة. وطبعاً كانت المشروبات والسجائر من المحرمات التي يعاقَب مستهلكها بأقسى العقوبات. ومن حسن حظَّي أنَّني لم أكن من متناولي المشروبات الكحولية ولا من مدخِّني السكائر، ولا أقرّهما بتاتاً للضرر الذي يلحقانه بالإنسان. ولم يكُن في وسع النساء السير في الشوارع ما لم يكنَّ مبرقعات ومتلفعات بالعباءات السوداء. ويشعر الوافد من خارج هذه الدولة أنَّه دخل سجناً كبيراً.

بيدَ أنَّ الدولة كانت تطمح إلى شيء من التغيير البطيء والتطوير اليسير. ففتحت جامعةً في العاصمة، واستقدمت أساتذةً وخبراءَ من البلاد العربية والغربية. وكانت من الذكاء بحيث سمحت للجاليات الغربية بفتح نوادٍ خاصَّة بها، كيما تخفِّف من رتابة الحياة على أبناء تلك الجاليات. فكان للأمريكيّين والبريطانيّين نادٍ خاصٌّ بهم، وللفرنسيّين مثله، وللألمان ناديهم. ويرتاد الخبراء الغربيون وعائلاتهم هذه النوادي في الأماسي بعد انتهاء العمل، حيث يجدون المشروبات الكحولية وغيرها، والعروض السينمائيَّة اليوميَّة، والمسبح المختلط، وغيرها من وسائل الترفيه التي اعتادوا عليها في بلدانهم. وهذه النوادي لا يرتادها عادةً غير أبناء تلك الجاليات. وطبعاً كانت محرمّةً على أبناء البلاد.

3

ذات يوم، قال لي أحد زملائي الأمريكيِّين، الدكتور روبرتسون:

ـ ماذا ستفعل هذا المساء؟

ـ لا شيء، لماذا؟

ـ أودُّ أن أدعوك للذهاب معي إلى النادي حيث سيعرض اليوم فيلم " كازبلانكا". وإذا لم تكُن قد شاهدته من قبل، فإنّه يستحقُّ المشاهدة.

قبلتُ الدعوة شاكراً. وفي المساء، اصطحبني معه بسيّارته إلى النادي. حالما دخلنا النادي، وقعت عيناي على فتاة هندية رشيقة القوام، أنيقة الهندام، سمراء هيفاء، رائعة الجمال، ترتدي سارياً هنديّاً أخضر اللون، وقد تركت بطنها الضامرة عاريةً، ومن أُذنيْها الصغيرتيْن تدلّى قرطان أخضران على جيدها العاجي الطويل. كانت تقف عند نضد المشروبات، ويحيط بها مجموعة من روّاد النادي معظمهم من الرجال. التقت عيناي بعينيْها الواسعتيْن الكحلاويْن الجريئتيْن. فشعرتُ برعشةٍ تسري في جميع أوصالي. وأحسستُ في أعماقي أنَّ شعوراً مماثلاً قد خالجها، وبدا ذلك جلياً من الاضطراب الذي بدا عليها وعكسته عيناها النجلاوان اللتان اعتراهما رمشٌ متسارع.

أوقفتُ زميلي الأمريكيّ، قبل أن نصل إلى النُّضد، وسألته:

ـ مَن هي تلك الهنديّة الجميلة؟

ـ مدرِّسةٌ بريطانيةُ الجنسية تعمل في كلَّية الطبّ هنا.

وأضاف بابتسامة تحدٍّ:

ـ وهي عزباء.

ـ كيف؟

ـ سأشرح لك لاحقاً.

كنتُ سأسأله عن الكيفية التي تعمل فيها تلك الشابة العزبة في البلاد، لأنَّ السلطات لا تسمح بقدوم أيّة امرأة إلى البلاد مالم يرافقها مُحرِم، أي زوجها أو أبوها أو أخوها عادةً، بل لا تسمح بسفر المواطنات داخل البلاد دون أن يرافقهن مُحرِم. ولكنَّ زميلي واصل السير نحو نضد المشروبات، وقدّمني إلى تلك الهندية قائلاً:

ـ دكتورة مادهو، يسعدني أن أقدّم لكِ الدكتور سمير، رئيس قسمنا.

رحّبت بي بهزةٍ خفيفة من رأسها الجميل، وبابتسامةِ فرحةٍ خفيفة ارتسمتْ على شفتيْها.
ثمَّ التفتَ إليّ وقال:

ـ الدكتورة مادهو.

فأضافتْ مبتسمة:

ـ ويعني الاسم باللغة الهندية: العسل.

قلتُ، وأنا أمدّ يدي لمصافحتها:

ـ تشرّفتُ وتلذّذتُ.

كنتُ أعرف الرجال المحيطين بها فقد كانوا من زملائي في الجامعة، فاكتفيت بهزة رأس وابتسامة، لئلا أقطع حديثهم مدَّةً طويلة. واصلوا الحديث وبقيتُ أنصتُ إليهم دون أن أشارك فيه.

سرعان ما قُرِع جرسٌ داعياً الحاضرين إلى التوجُّه إلى صالة العرض السينمائي التي كانت في الهواء الطلق. دقّ ذلك الجرس في اللحظة التي كنتُ أهمُّ فيها بالتوجّه إلى دورة المياه. فقلتُ لزميلي الدكتور روبرتسن:

ـ سألتحق بكم بعد لحظات، أرجو أن تحجز لي مقعداً بينك وبين الدكتورة مادهو.
فقال إنَّه سيفعل.

ولكنَّني عندما عدتُ إلى مكان العرض، وجدتُ الدكتورة مادهو والآخرين قد جلسوا في الصفوف الأمامية الأربعة، ولا يوجدُّ أيُّ مقعدٍ شاغرٍ بجانب الدكتورة مادهو. لا بُدَّ أن زميلي قد ترك كرسياً فارغاً بينه وبينها ولكنَّ أحدهم جلس عليه، ولم يجرؤ زميلي على الكلام معه لمنعه لأنَّ عرض الفيلم قد بدأ. ولهذا فقد جلستُ في الصف الخامس وحدي تقريباً.

بعد لحظاتٍ قليلة، التفتتِ الدكتورة مادهو إلى الخلف، وما إنْ وقع بصرها عليَّ، حتّى هبّتْ واقفةً، واتَّجهت نحوي، وجلست في المقعد الشاغر بجانبي، دون أن تقول شيئاً. أُخِذتُ بجرأتها. فلم أقُل شيئاً، بل عبّرتُ بابتسامةٍ خفيفةٍ عن شكري وعرفاني. بتلك الجرأة العجيبة، وضعت الدكتورة مادهو نهايةً للمطاردة التقليديَّة اللذيذة التي تجري عادةً بين الرجل والمرأة، قبل أن يتأكّدا أنهما قد وقعا في الحبِّ. وبعد ذلك تبدأ مطاردةٌ من نوع آخر.

أكّدتْ لي حركتها الفريدة تلك بأنّها تتمتَّع بشجاعةٍ أدبيَّة، بل بجرأةٍ كبيرة، وثقةٍ بالنفس لا حدَّ لها، جرأة كانت تتوهَّج في عينيْها مند البداية مثل جمرتيْن عسليتيْن. فشعرتُ بشيءٍ من الوجل.

4

أصبحتُ ومادهو صديقيْن حميميْن. كنا نلتقي مساء كلِّ يومٍ بعد العمل تقريباً. لم نكُن نلتقي في مقهىً أو حديقةٍ عامّة، فليس ثمَّة مقاهٍ ولا حدائق عامَّة، بل كنا نلتقي إمّا في شقَّتي أو في الفيلا التي تسكن فيها. كانت الجامعة قد اكترت فيلا لسكنى أربع أُستاذات بدون مُحرِم، وعيّنت حارساً يجلس أمام باب الفيلا، طبعاً لمنع أيِّ رجل من الدخول. والظاهر أنَّ الجامعة كانت من الغباء بحيث اختارت لشغل هذه الوظيفة شيخاً ضعيف البصر، أو ربَّما فقد بصره منذ مُدَّةٍ طويلة. ولكن بعد أن فكّرتُ في الأمر مليّاً، تأكَّد لي أنَّ الجامعة كانت تتمتع بالذكاء والدهاء، فاختارت الحارس ضعيف البصر ثقيل السمع عن قصد وتدبير، كيلا تشدّد الخناق على الأستاذات الأجنبيات الأربع فتنفّرهنَّ من البقاء في البلاد، وهي التي بحاجة إلى خدماتهنَّ لتدريس قسم البنات في الكلية الطبية، فسمحت لهن بالقدوم إلى البلاد من غير أن يرافقهن مُحرِم.

لهذا، كنتُ اتَّفق مع مادهو على موعد زيارتي، وتحرص هي على ترك باب الفيلا مواربا غير موصد لأدخل بكلِّ هدوءٍ عند وصولي، دون أن أسلّم على الحارس القاعد أمام الباب. كانت الفيلا مكوّنة من جناحيْن يشتمل كلُّ جناحٍ منهما على غرفتَي نوم وبقية المرافق. وكانت زميلتها في الجناح أستاذةٌ إنكليزيَّة اسمها مورين غالباً ما تشارك هي والأُستاذتان الأخريان في الاحتفالات التي تنظّمها الدكتورة مادهو بمناسبة بعض الأعياد الهندية. والهنود من أكثر الشعوب عناية بالأعياد والمهرجانات، فهم يغتنمون جميع المناسبات، أو يخلقون المناسبات، للاحتفال بها غناءً ورقصاً. فهناك أعياد كثيرة بمناسبة ميلاد آلهتهم وما أكثرهم، وبمناسبة زفافهم، وبمناسبة سفرهم، وبمناسبة حروبهم، وبمناسبة انتصاراتهم. والهنود لا يحتفلون بأوّل أيام السنة فقط، بل يحتفلون بأوَّل كلِّ شهرٍ، وببزوغ القمر، واكتمال القمر، وأفول القمر، وبمولد الأطفال، وبلوغ الأطفال سن البلوغ، وبالحبّ والزواج. فكلّما زرتُ مادهو في فِلّتها، ألفيتُها وزميلتَها مورين قد أعدتا بعض الأطباق الهندية والإنكليزية للاحتفال بمناسبة ما. وكنتُ استمتع بسماع الموسيقى الهنديَّة مع رقصات تؤدّيها مادهو الجميلة.

كانت مادهو طبّاخة ماهرة. ومعها أخذتُ أتعرّف على الأكلات الهندية اللذيذة، وأنمّي ذوقاً خاصّاً بها. كانت مادهو تجيد إعداد الأكلات الهنديَّة الشهيرة مثل برياني الدجاج مع الروب، ودجاج تكا مسالا، والدجاج بالكاري، والكباب التندوري، والأرز البسمتي بالجمبري. وطبعاً مع السلطات الهنديَّة اللذيذة وخبز النان الطازج. والأطباق الهنديَّة حافلةٌ بالتوابل والبهارات، عابقةٌ بالروائح الزكية، مزركشةٌ بالألوان الزاهية.

وبالرغم من كثرة الأطباق التي تعدّها مادهو، فإنَّها لم تكُن تأكل شيئاً يُذكَر. كانت تمضي معظم الوقت على المائدة لا بتناول الطعام، بل بسرد الحكايات المسليّة والمضحكة. في بداية الأمر، ظننتُ أنّها تكتفي بالقليل من الطعام للمحافظة على قوامها الرشيق وخصرها الناحل الذي تُبرِز جاذبيتَه فتحةُ الساري عند البطن، ولكنَّها أوضحت لي، وهي المتمرِّسة بدراسة الطبِّ وتدريسه، أنَّ الطبَّ الهندي يختلف عن الصينيِّ والغربيِّ. فإذا كان الطبُّ الغربيُّ يعزو الأمراض أساساً إلى دخول الجراثيم إلى عضو من أعضاء الجسم فتصيبه بالمرض، والطبُّ الصينيُّ يعزوها إلى عدم وصول الطاقة (الدم) إلى أحد أعضاء الجسم فيمرض ذلك العضو؛ فإنَّ الطبَّ الهنديَّ يعزو الأمراض إلى دخول الطعام إلى الجسم، وأنَّ سرَّ الصحَّة يكمن في التقليل من الطعام ما أمكن.

وشيئاً فشيئاً، أخذتُ أعرف الكثير عن مادهو وحياتها السابقة. والدها، بهاراتا جاكهاري، من أُسرةٍ كبيرةٍ من طبقة البراهمة في الهند. والطبقات الاجتماعيَّة من مخلفات العقائد الهندوسيَّة القديمة التي اخترعها الغزاة الآريون لإحكام سيطرتهم على البلاد والاحتفاظ بالمزايا الاقتصاديَّة والسياسيَّة لهم. وتزعم هذه المعتقدات أنَّ الإله براهما قد خلق أربع طبقات من البشر: خلق من فمه البراهمة وهم رجال الدين، وخلق من ذراعه الشاترية وهم رجال السلطة والجيش، وخلق من بطنه الويشية وهم التجّار والزراع والمهنيّون، وخلق من قدمه الشودرية وهم يمارسون الأعمال الوضيعة. وهناك طبقة المنبوذين (الشانتالة) الذين لا يمسهم الآخرون ولا يختلطون بهم. وهذه الطبقات متوارثة ولا يمكن للإنسان أن ينتقل من طبقةٍ إلى أخرى. وعلى الرغم من أنَّ دستور الهند حالياً لا يعترف بالطبقات ويقرُّ بالمساواة بين جميع المواطنين، فإنَّ كثيراً من الهنود يمارسون هذه الطقوس الطبقيَّة، ويتأثَّر وضع الفرد الاجتماعيّ والاقتصاديّ بها، كما يمارس كثيرٌ من العرب في الدول العربيَّة التي تؤكِّد دساتيرها المساواة وحقوق الإنسان، انتماءاتهم العشائريَّة وتقاليدها البالية أو ولاءاتهم الطائفيَّة وطقوسها الخرافيّة. درس والدها القانون في جامعة لندن وعاد إلى الهند ليعمل في السياسة والإدارة حتّى أصبح حاكماً لولاية إندور وسط الهند. ولمادهو خمسة إخوة أكبرهم عضو في البرلمان الهندي، وهي الأصغر والوحيدة في العائلة، ولعلَّ هذا أحد أسرار الدلال والغنج اللذيْن تتسم بهما. وبعد أن تخرّجتْ في كلِّية الطبّ في إندور، سافرتْ مع زميلةٍ لها اسمها، نيليما، إلى إنكلترة، للتخصُّص في الجراحة الباطنية. وبعد أن نالتا الشهادة، حصلتْ زميلتُها على عملٍ في أحد المستشفيات البريطانية في مدينة كولتشستر، في حين لم يحالفها الحظُّ في ذلك، على الرغم من حرصها على البقاء في بريطانيا وعدم العودة إلى الهند. ولهذا قبلت المجيئ إلى تلك الدولة الخليجيَّة للتدريس في كلِّية الطبِّ. وقبلتْ تلك الكلّيةُ طلبَها للعمل فيها على الرغم من قلّة خبرتها وعدم وجود مُحرِم معها، لأنَّ تلك الكلِّية لم تحصل على عددٍ كافٍ من الأستاذات للتدريس في قسم البنات، فالكلِّية تفصل الإناث عن الذكور في الدراسة، طبقاً لقاعدة: ما اختلى رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. والكلية حريصةٌ على مطاردة هذا الشيطان الرجيم، وحماية الناس منه ومن أحابيله اللعينة.

كانت مادهو في ربيعها الثلاثين من العمر، جميلة، جذابة، طليقة اللسان، حاضرة البديهة، مثقَّفة، تمارس هواية الرسم، وتهوى القراءة، وتحبُّ الشِّعر وتكتبه أحياناً. وكانت لقاءاتنا ممتعة، استمتع فيها بالاستماع إلى أحاديثها التي غالباً ما تدور حول أيام دراستها في الهند وبريطانيا؛ وكانت تكثر من الحديث عن صديقتها الهنديَّة، نيليما، فلم تخلُ رحلةٌ لها من نيليما، ولم تفعل شيئاً ممتعاً إلا ونيليما تشاركها المتعة والهناء.

وبمرور الشهور، غدوتُ ومادهو صديقيْن حميميْن، وأظهرتْ هي عاطفةً نبيلةً حارةً بل متأججة. ولم أعلم أن الهنود يتحلّون برومانسية ومحبة عارمة تضاهي ما نشاهده في الأفلام الهندية. وبادلتها بدوري المحبَّة والاحترام.

5

بعد أن توثَّقت أواصر المحبَّة بيننا، أخبرتني مادهو بطريقةٍ لبقة أنَّ أمنيتها أن تقترن بي، ولن يكون اختلاف الدين عائقاً في طريق سعادتنا؛ لأنَّها على استعداد لاعتناق الإسلام، فالهندوسية، على حدّ تعبيرها، ليست ديناً سماوياً، بل مجرَّد أساطير عن آلهةٍ متعدِّدة بعضها يروم الخير للإنسان وبعضها الآخر يبغي إلحاق الضرر بالناس، ولهذا تندلع المعارك بين الآلهة باستمرار. وهؤلاء الآلهة لا حصر لهم حتّى إنَّ الهند تُسمّى بأرض الآلهة، أو أرض البقرة المقدسة، لأن كثيراً من الهنود يعبد بعض الحيوانات، ومنهم مَن يعبد بعض الأشجار، أو بعض الأنهار، لاعتقادهم بأنَّ مياهها مقدَّسة تغسل أدرانهم وذنوبهم. وأكَّدتْ لي مادهو أنَّها من خلال قراءة الكتب التي قرأتْها عن الإسلام والعرب قبل التحاقها بعملها في الكلّية، أخذت تفهم مبادئ الإسلام وتشعر بانجذابٍ نحوه.

لم أكُن أفكر في الزواج في تلك السنِّ المبكرة من العمر. وفي أعماقي كنتُ أفضل الزواج، في الوقت المناسب، من امرأةٍ عربيَّة تنتمي إلى الثقافة نفسها ليسهل التفاهم بيننا. فقد وقفتُ على كثير من الزيجات المختلطة التي باءت بالفشل، لأنَّ الزوج أو الزوجة أو كلاهما يضطر إلى التحدُّث بلغةٍ أجنبيَّةٍ في المنزل فلا يشعر أنَّه في بيته، إضافة إلى اختلاف الخلفيّات الفكريَّة والنفسيَّة والقِيميَّة لكلٍّ منهما.

قلتُ لمادهو إنَّني بعد أن أنهيتُ دراستي العليا في الولايات المتَّحدة الأمريكية، أُصِبت بمرض " الحنين إلى الوطن"، وعزمتُ على أن أعود إلى البلاد العربية وأخدم البلاد العربية وأتزوج من البلاد العربية، لأنَّني لا أريد أن أعاني الغربة والاغتراب مرَّةً أُخرى. ولأنّي أَكِنُّ لها محبَّةً خالصة، فأنا لا أريد لها أن تقاسي الغربة بالعيش أبداً في رحاب ثقافة لا تنتمي إليها، مع رجلٍ لا ينتمي إلى ثقافتها.

حاججتني مادهو في أنَّها أعرف بمشاعرها، وأنَّها ستكون سعيدةً معي حيثما كنتُ. ولكي تقنعني برأيها، سردت لي حكايةً حكميَّةً من التراث الهنديِّ، مفادها أنَّ فتاةً رائعةَ الحُسن ميسورة الحال كانت تساعد رجلاً أعمى بين الحين والاخر، ثمَّ عرضت عليه الزواج منها. فأخبرها أنَّه يحبُّها حقّاً ولهذا فهو لا يريد لها أن تمضي حياتها كلَّها مع رجلٍ أعمى. فافترقا. وبعد مدَّة، استطاع طبيبٌ أن يعيد البصر إلى عينيِّ ذلك الرجل الأعمى. فقرّر أن يعود إلى تلك الفتاة التي أحبَّته ويتزوَّج منها. فذهب يبحث عنها، فقيل له إنّها انتقلت إلى بلدةٍ أُخرى، وحصل على عنوانها. ولما طرق باب دارها، فتحه رجلٌ أعمى، واكتشف صاحبنا أن حبيبته المنشودة قد تزوَّجت بذلك الرجل الأعمى.

لم تستطِع مادهو أن تقنعني بحججها المستقاة من الثقافة الهنديَّة. ولم أستطع إقناعها بحججي المقتبسة من الثقافة العربيَّة. فبقينا أصدقاء نستمتع بالصحبة والعواطف الدافئة المتبادلة. وظلّ الأمل يراودها في أنَّني سأغيّر رأيي ذات يومٍ وأطلب يدها للزواج.

6

اقتربتِ السنة الدراسيَّة من نهايتها. وكنتُ في تلك السنوات أمضي عطلتي الصيفيَّة التي تناهز ثلاثة أشهر إمّا في باريس أو في لندن. في باريس، كنتُ التحق عادةً بإحدى الدورات الصيفية التي تنظّمها جامعة باريس الأولى (السوربون) وأقيم في المدينة الجامعية بشارع جوردان وأُمضي أوقات الفراغ في حضور الحفلات الموسيقية التي تقيمها مدينة باريس في إطار ما يُسمى بـ (فَسْتِڤال أَسْتِڤال دي پاري). وكانت جامعة باريس قد أعلنت ذلك العام أن كلية الحقوق التابعة لها والواقعة في ساحة البانتيون في الحيِّ اللاتيني بباريس ستنظم دورةً صيفيةً لمدَّة شهر حول القانون الجنائيّ. أمّا في لندن، فكنتُ أقيم في شقَّةٍ يمتلكها أحد أصدقائي الخليجيّين من رجال الأعمال، ولكنَّه لا يجد الوقت الكافي للإقامة فيها أو في غيرها من شققه الأخرى في بيروت والقاهرة ومراكش. ولهذا كان يعيرني شقَّته اللندنيَّة برحابة صدر خلال العطلة الصيفيَّة. وفي لندن أمضي الوقت في البحث في مكتبات جامعة لندن والمتحف البريطاني، وفي التنزّه. وكنتُ أميل ذلك العام إلى تمضية العطلة في لندن في شقَّة صديقي الخليجيّ.

تقع تلك الشقّة في أحد أحياء لندن الراقية الهادئة يُسمى " هَمستِد ڤيليج". وكنتُ أمارس رياضة المشي في أرجاء مدينة لندن. فأخرج حوالي الظهر من الشقّة، وأسير في شارع "فتزجونز أڤنيو" في اتجاه " سويس كوتيج". ومن هناك أسير إلى منتزه " ريجنت بارك" ومنه أتوجّه إلى شارع "أكسفورد ستريت" الذي ينتهي بحي السوهو الشهير الزاخر بالمسارح ودور السينما ومحلات الترفيه والمطاعم المختلفة من كلِّ نوع: الصينيَّة والهنديَّة والإيطاليَّة والفرنسيَّة وغيرها (لأنَّه لا توجد مطاعم بريطانيَّة ذات خصوصية مميزة، فالأكلة الإنكليزيَّة الشعبيَّة هي "فِش أند تشبس" أي السمك المقلي والبطاطس المقلية).

كنتُ في غاية السعادة وأنا أتناول ألذَّ الواجبات. في حقيقة الأمر، لم يكُن حي السوهو يشبع نهمي إلى الأكل في مطاعمه المتنوِّعة، بقدر ما كان يشبع نهمي المعرفي بمسارحه ودور الأوبرا والفرق الموسيقية المنبثّة في أرجاء حدائقه والمتاحف المتنوعة القريبة منه. كان حي السوهو يعوِّضني في أشهُر الصيف عن جفاف الصحراء الذي أقاسيه طوال شهور العام الدراسيّ. كنتُ سعيداً في لندن. ولكن لا توجد سعادة كاملة. ما كان ينقصني في لندن، الرفقة الطيّبة. كنتُ أجلس وحيداً إلى طاولة الأكل في مطعمٍ فاخر، وأتمنّى أن تكون معي رفيقةٌ تشاركني الطعام والحديث.

تحدّثتُ مع مادهو عن العطلة الصيفية فأخبرتني بأنّها ستمضيها في بلدة كولتشستر في إنكلترة حيث تسكن مع صديقتها نيليما في شقَّتها، وأنهت حديثها بابتسامة وهي تقول:

ـ إلا إذا كان لديك اقتراحٌ أفضل.
عند ذاك، أخبرتها عن احتمال تمضيتي العطلة في لندن في الشقَّة التي يعيرني إياها صديقي رجل الأعمال، واقترحتُ عليها أن تمضي عطلتها معي في لندن.

قفزتْ مادهو فرحاً وهي تقول:

ـ طبعاً، فأنا أفضّل أن أكون معك. وأنا أحبُّ لندن ومتاحفها ومسارحها. والسفر من كولتشستر إلى لندن يستغرق أكثر من ساعة بالقطار، وأجور السفر باهظة.

7

كنتُ سأسافر إلى لندن قبل مادهو بعشرة أيام. فأعطيتها رقم هاتف الشقّة في حي " همستيد فيليج" في لندن، واتَّفقنا على أنَّها ستهاتفني حال صولها إلى مطار هيثرو في لندن، ثمَّ تستقلُّ حافلةً إلى حي همستيد ڤيلج، حيث ستجدني في انتظارها في الشقَّة.

في يوم وصول مادهو إلى لندن، بقيتُ انتظر مهاتفتها طوال الصباح. وخرجتُ بعد الظهر من الشقَّة لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم القريبة. ثمُّ عدتُ إلى الشقَّة وقد انتابني شيءٌ من القلق. وفي العصر، هاتفتُ استعلامات مطار هيثرو سائلاً عن الطائرة، فأخبروني أنَّ الطائرة قد وصلت بعد الظهر، متأخِّرة بضع ساعات عن موعدها. وما إن وضعتُ سماعة الهاتف حتى رنّ جرس الهاتف. التقطتُه بلهفةٍ، فسمعت مادهو تقول بشيءٍ من الامتعاض:

ـ أين كنتَ بعد الظهر؟ لقد هاتفتكَ حال وصولي إلى المطار عدَّة مرّات، وكان هاتفك يرنُّ ويرنُّ،

ولا من مُجيب.

قلتُ:

ـ آسف جداً، فقد انتظرتُ طوال الصباح، ثمَّ خرجتُ بعد الظهر لتناول طعام الغداء، ولم أعلم أنَّ طائرتكِ قد تأخّرت. أين أنتِ الآن؟ في المطار؟ استقلي الحافلة إلى همستيد ڤيلج.

ـ لا، لقد سئمتُ الانتظار في المطار، فركبتُ القطار إلى كولتشستر. وأنا الآن في شقَّة نيليما.
قلتُ بلطف:

ـ لا بدَّ أنَّكِ متعبةٌ من السفر هذا اليوم. أقترح أن تستريحي هذه الليلة هناك، وفي الصباح سأكون في انتظارك في محطة قطار فيكتوريا.

قالت:

ـ لا أستطيع أن أعدكَ بذلك.

قلتُ باستغراب:

ـ لماذا؟

ـ لأنَّ نيليما الآن في المستشفى تقوم بنوبتها الليليّة. وسأتحدث إليها في الأمر غداً صباحاً عندما تعود من عملها.

كان عليّ أن أنتظر حتّى صباح اليوم التالي. فطلبتُ منها رقم هاتف شقَّة نيليما. وأوَّل شيءٍ فعلته في الصباح هو مهاتفة مادهو:

ـ صباح الخير، مادهو. أيُّ قطار ستستقلين هذا الصباح، كي أنتظرك في المحطة عند وصولك؟
قالت مادهو بانكسار:

ـ آسفة، سمير. لا أستطيع المجيئ اليوم.

ـ ومتى تتمكنين من المجيئ؟

ـ لن أستطيع زيارتك هذا الصيف مطلقاً؟

قلتُ باندهاش:

ـ لماذا؟

ـ لأنَّ نيليما تريدني أن أبقى معها طوال العطلة الصيفيَّة.

ـ لا أفهم. هل أنتِ مضطرةٌ للانصياع لأوامرها ورغباتها.

ـ نعم، لأنَّها صديقتي الحميمة.

ـ ولكنّي أنا أيضاً صديقك.

وهنا لاذتْ مادهو بالصمت.

شعرتُ بدماء الغضب تتصاعد حارَّةً إلى رأسي، فآثرتُ إنهاء المكالمة وأغلقتُ الهاتف. فعندما يضع الإنسان خطَّة أو يبني أملاً، ثمَّ يجد فجأةً أنَّ الخطَّة لا تُنفَّذ وأنَّ الأمل ينهار، فإنَّه يُصاب بخيبة شديدةٍ، وبإحباطٍ كبير، وألمٍ نفسيٍّ عميق. فمنذ أسابيع وأنا أحلم أن أمضي هذه العطلة الصيفيَّة مع صديقة جميلة ترافقني في نزهاتي في الحدائق، ومشاهداتي في المسارح، ووجباتي في المطاعم. والشعور بالوحدة يشتدّ حينما يلفي الإنسان نفسه وحيداً في مكان يعجُّ بالشبّان والشابات، وهم يتعانقون في الأسواق، ويتبادلون القُبل في المنتزهات. الحبّ ينتشر في لندن انتشار العصافير على أشجارها في الصيف، كأنَّه بإشراقته ودفئه يعوّض عن سماء لندن الغائمة دوماً، المعتمة أبداً. ونحن نؤمُّ لندن وباريس وغيرهما من العواصم الأوربية لا بحثاً عن الشمس، فشمسنا أكثر إشراقا من شمسهم، وإنَّما انجذاباً لثقافتها وفنونها وجمالها والشعور فيها بالحرِّية والانعتاق من القيود.

في صباح اليوم التالي، قرَّرتُ أن أهاتف مادهو مرَّة أُخرى، لأذكِّرها بوعودها، وأحاول إقناعها الالتحاق بي في لندن.

رنَّ جرس الهاتف في شقّة نيليما. وأملتُ أن ترفع مادهو سماعة الهاتف. ولكن الصوت الذي صدم أُذني صوتٌ خشنٌ جافٌّ مثل صوتِ رجلٍ لئيم.

ـ نعم.

قلتُ بلطف:

ـ صباح الخير سيدتي. أنا الدكتور سمير، أودّ أن أتكلَّم مع الدكتورة مادهو، من فضلكِ.

أجابت بصوتٍ متوتِّرٍ عالٍ أقرب إلى الصراخ:

ـ مادهو لا تريد أن تكلِّمك.

وأغلقتِ الهاتف في وجهي.

استشطتُ غضباً، وبعد فترة ٍمن التفكير المضطرب، قرَّرتُ أن أحاول مرَّةً أُخرى لعلَّ مادهو (العسل) ترفع السماعة، وليس نيليما (الزرقاء) المسمومة. وخمّنتُ أنَّني إذا اتصلتُ هاتفياً في الليل، ستكون نيليما في نوبتها في المستشفى، وستردّ مادهو على الهاتف. ولهذا حوالي الساعة التاسعة مساءً، عاودتُ الاتّصال. رفعتُ السماعة وأدرتُ الرقم. وحالما قلتُ " هلو"، جاءني صوت نيليما مرعداً مزبداً تنطلق منه الكلمات مدوِّيةً مثل مدفعٍ رشاش:

ـ اتركنا، أيّها الكلب، لا تزعجنا. أنتَ تنغِّص سعادتنا، أيّها الحقير...

أُصِبتُ بشيءٍ من الذهول، فلم أغلق الهاتف بسرعة، بل بقيتُ استمع بغير إرادة مني إلى أصناف الشتائم البذيئة وأنواع السباب المنحطِّ، وسيل الإهانات المتلاحقة.

طوال حياتي، لم يجرؤ أحدٌ على شتمي أو الإساءة إليّ. لا لقوَّةٍ جسميَّةٍ أتحلّى بها، أو سلطةٍ كبيرةٍ أتمتَّع بهيبتها، بل لأنّي رجلُ تعلُّمٍ وتعليمٍ، أحترم الآخرين، وأخاطبهم بأدبٍ ولطف، فيبادلونني أدباً بأدبٍ ولطفاً بلطفٍ. ولهذا جاءت شتائم هذه الزرقاء المسمومة مفاجئةً مؤلمةً لي حزّتْ في أعماق نفسي وسبَّبت اضطراباً في صميم وجداني. ولأوّل مرة في حياتي، شعرت بالحقد يجتاح ذاتي، وبرغبة عارمة في الانتقام.

سأنتقم منها شرّ انتقام، لما ألحقتْه بي من ألمٍ ممضٍّ، ولحرمانها لي من صحبة مادهو، بحيث تحوّلتْ قصور أحلامي بعطلةٍ صيفيةٍ رائعةٍ إلى فتاتِ حطامٍ وأشلاءِ أوهامٍ. سأفكّر ملياً في أفضل طريقة للانتقام.

بيدَ أنّي لا بدَّ لي من أن أتحدث مع مادهو أوّلاً، لأعرف السرَّ في عدوانيَّة هذه المرأة اتجاهي، والأهمُّ من ذلك لأعرف ماهيَّة العلاقة بين المرأتيْن، بحيث تستطيع نيليما أن تملي إرادتها على مادهو بكلِّ سهولة.

ولهذا أخذتُ اتَّصل هاتفياً عدّة مرّاتٍ يوميّاً بشقة نيليما في الأوقات التي أحسب أنَّ نيليما ستكون في المستشفى، لعلّي أقع على مادهو مرَّة واحدةً. وكنتُ أغلق الهاتف سرعان ما أسمع صوت نيليما.

وأخيراً، وبعد أيامٍ عديدةٍ من محاولات فاشلة، رفعت مادهو السماعة ذات مرَّة. فقلتُ بلطفٍ بالغ.

ـ صباح الخير، حبيبتي الرائعة. لماذا لا تتكلّمين معي هاتفياً.

قالت بنبرة اعتذار:

ـ آسفة، نيليما لا تريدني أن أتحدّث معك. وآخر مرّة كلمتك فيها، أصيبت نيليما بنوبةٍ عصبيةٍ، وأُغمي عليها، ولكنَّها الآن في المستشفى.

قلتُ:

ـ أُغمي عليها؟ لماذا؟ وما هي طبيعة علاقتكما؟

وهنا لمعتْ في ذهني فكرةُ الجريمة الكاملة، كما يلمع البرق في ليلةٍ شتائيةٍ غائمة. سأقتل هذه الحقيرة نيليما عن بُعْد. ولم استوعب الشرح المطول الذي أدلت به مادهو حول علاقتهما، فقد كان ذهني شارداً يضع تصوُّراً كاملاً لخطّة الجريمة.

قلتُ:

ـ مادهو، أنا آسف لأنَّني سبّبتُ لكما الإزعاج عن غير قصد. ولكنّي أُحبُّك، يا مادهو. أحبّك حتّى الموت. فبعد فراقنا وخلال هذه الأيام القليلة التي حُرمتُ فيها منك، أدركتُ كم أنا مغرمٌ بك، منجذبٌ إليك، كما ينجذب النحل إلى العسل. إنّني لا أستطيع الآن أن أتصوَّر العيش بدونك. فالحياة لا مذاق ولا طعم لها بغير وجودك إلى جانبي. إنّني أريد ان أتزوج منك، وبعد ذلك لن نفترق أبداً.

سمعتُها تقول:

ـ صحيح؟!

قلتُ بحرارةٍ وحرقة:

ـ طبعاً صحيح، فأنا أتعلَّم من الأيام والتجارب. لقد أدركتُ مدى حبّي لكِ، وعذَّبني الشوق إليك، خلال أيام الفراق. سأذهب هذا الصباح إلى وكالة الأسفار لأحجز لنا تذكرتيْن إلى الهند، لأتشرف بمقابلة والديْك العزيزيْن، وأطلب يدك منهما. ولنعقد قراننا هناك في احتفال هنديّ.

فأنا ـ كما تعلمين ـ تسحرني الاحتفالات الهندية. نعم، يا مادهو، لنفرح بشبابنا وصحّتنا، فالحياة قصيرة لا تحتمل الغضب والحزن والنكد، ولنرفل بأثواب السعادة.

8

اتَّفقنا أنا ومادهو على أن تأتي إلى لندن بالقطار صباح اليوم التالي عندما تكون نيليما في نوبتها في المستشفى، ودون أن تخبرها بعزمنا على الزواج، لئلا تعرقل مجيئها بطريقةٍ أو بأخرى. وأسرعتُ من ناحيتي إلى التوجّه إلى وكالة أسفار قريبة من شقتي في حي "همستيد فيليج"، حيث طلبتُ تذكرتيْن (لندن ـ بومبي ـ إندور) بالدرجة الأولى التي تليق بعروسيْن، على أن نستريح في بومبي مدّة 24 ساعة على الأقل. وطلبتُ من الموظَّف أن يحجز لي جناحاً في فندق خمسة نجوم على شاطئ البحر، فقال في الحال:

ـ فندق "أميرة البحر". هو الأفضل. فقد حجزتُ فيه من قبل أجنحةً لرجال أعمال فحاز رضاهم، ونال ثناءهم.

في اليوم التالي ظهراً، كنت أنتظر مادهو في محطَّة قطارات فيكتوريا في وسط لندن. ووصلتْ في الموعد المتَّفق عليه. قبّلتُها بشوقِ عاشق، وعانقتُها بلهفةِ عريس، وضممتُها إلى صدري مثل هديّةٍ ثمينةٍ هبطتْ من السماء، فبدت ابتسامة رضى على محيّاها، وازدادت عيناها العسليّتان بريقاً. حملتُ حقيبتها الصغيرة، وسرتُ معها إلى مطعمٍ هنديٍّ فاخر قرب المحطَّة حيث تناولنا طعام الغداء ممزوجاً بعبارات السعادة باللقاء والأمل في مستقبلٍ زاهرٍ، ولم أفُه بكلمةٍ تنم عن ألمي وغضبي لبقائها في كولتشستر وتفضيلها الحقيرة نيليما عليَّ. وبعد الغداء، تمشّينا إلى موقف سيّارات الأُجرة، لنستقلّ سيّارةً إلى مطار هيثرو.

وفي سيّارة الأجرة، رحتُ أُمطرها بكلمات الغزل، ولمسات الحنان، وقُبلات الشوق. فأراحت رأسها على صدري ويدها تحيط بخصري، كأنّها تبحث عن دفء جسدي في جوِّ لندن الغائم الممطر.

بعد إتمام إجراءات السفر في المطار، قلتُ لمادهو ونحن نتناول كعكة الجبن اللذيذة والقهوة في أحد مطاعم المطار:

ـ حبيبتي، هل تركتِ رسالةً لصديقتك الدكتورة نيليما تخبرينها فيها عن سبب غيابك.
ـ لا.

قلتُ:

ـ حبيبتي، أخشى أن تفتقدِك صديقتك، فينتابها القلق. أقترح أن تبلّغيها بسفرنا هذا. وأنا متأكِّد من أنَّها ستطير فرحاً بمناسبة زفافنا...

قالت مادهو:

ـ لا أظنُّ أنَّها ستطير فرحاً، بل على العكس، فقد تموت كمداً. ولكنّي أتَّفق معك على ضرورة إبلاغها بسفري.

قلتُ:

ـ إذن سآتي إليك باستمارة برقيَّة من مكتب بريد المطار.

ونهضتُ لأتوجّه إلى مكتب البريد، فسمعتها تقول:

ـ أرجوك اجلب استمارتيْن، لأبعث ببرقيّة كذلك إلى والديّ أعلمهما بقدومنا.

وضعتُ الاستمارتيْن على المنضدة أمام مادهو. تناولت مادهو قلماً وملأتْ خانة عنوان المُرسَل إليه باسم الدكتورة نيليما. ثمَّ تردَّدت بعض الوقت. فقلتُ لها:

ـ عزيزتي مادهو، أنا أفهم شعورك تماماً. ولكنَّه مجرد واقع لا بُدَّ من أن تحيط به صديقتك الدكتورة نيليما. دعيني أملأ هذه البرقيّة، وخذي أنتِ البرقية الأُخرى واملئيها إلى والديْك العزيزيْن.

أعطتني استمارة البرقية، وتناولت هي البرقية الثانية.

استللتُ قلمي كما لو كنتُ استلّ خنجراً مسموماً، وبعد هنيهة من التفكير، دوّنت ما يلي:

"عزيزتي نيليما، بغامر الفرحة، أخبركِ عن عزمنا أنا وسمير على الزواج. نحن الآن في مطار هيثرو لنسافر بعد قليل على متن طائرةٍ متوجِّهة إلى بومبي، ثمَّ نسافر إلى إندور حيث سيقام حفل قراننا بعد أسبوع. تحياتي ومودتي. مادهو."

القت مادهو نظرةً سريعةً على ما كتبتُ. وبكلِّ الثقة الواجب توافرها بين عروس وعريسها، هزَّت رأسها موافقةً، فتوجّهت إلى مكتب البريد لإرسال البرقيتيْن.

في ذات نفسي، حرصتُ على أن تكون صياغة البرقية هادئة محايدة، ولكن في الوقت نفسه صادمة مفاجئة، أملاً في أن تفعل مفعولها المأمول في تهييج الحقيرة نيليما، فتؤدّي فجائيّة الخبر العابق بنغمة الفرح المبالغ فيه إلى نوبةٍ عصبيَّةٍ حادَّة، فتُزهَق روحها غير مأسوفٍ عليها. وأكون بذلك قد نفذّت جريمتي الكاملة، دون أن يخامر أيَّ فردٍ شكٌّ في وجود أسبابٍ خارجيةٍ للوفاة.

9

في بومبي، أمضينا بقية تلك الليلة في فندق " أميرة البحر" المطلِّ على بحر العرب. وفي الصباح كنتُ ومادهو نتناول الفطور في حديقة الفندق المحاذية لشاطئ البحر، ما فتح شهيتي ورغبتي في الحياة. فالماء هو سرّ وجودي وسعادتي، وملهمي، وباعث انفعالاتي بجميع أطيافها وأشكالها. فطوال حياتي كنتُ أبحث عن الماء، في مطرٍ أو نهرٍ أو هورٍ أو بحيرةٍ أو بحرٍ أو محيط. فانسياب الماء ودفقه وزرده وتموّجاته ومدّه وجزره وكلُّ رعشةٍ فيه تمثّل لي نبض الحياة وحركتها. قلتُ لمادهو:

ـ آمل أن الفندق قد أعجبك؟

ـ جداً. شكراً لاختيارك.

قلتُ بإخلاصِ محبٍّ:

ـ إنَّ بومبي تمثّل طيب العلاقة بين العرب والهند. فهي عاصمة الهند التجارية وفي الوقت ذاته فهي تقع على شاطئ بحر العرب. فمنذ أقدم العصور، يا عزيزتي، كانت التجارة البحرية مزدهرة بين العرب والهنود. وكان السومريون، في الألف الثالث قبل الميلاد، يصنعون السفن العملاقة في ميناء الفاو وفي موانئ الساحل الشرقي لجزيرة العرب، لتنقل بضائعهم إلى الهند، وتعود محملةً بالتوابل والبخور والعطور والسيوف. وقد أحبَّ العرب الهند منذ القدم حتّى إنّهم أطلقوا اسمها " هند" على الجميلات من بناتهم. أمّا اليوم، فإنَّ بومبي هي كذلك حاضرة صناعة السينما الهنديَّة التي تجد إقبالاً من المشاهدين العرب.

بعد الفطور خرجنا لنزهةٍ قصيرة في مدينة بومبي التي تتألَّف من سبعِ جُزرٍ مندمجةٍ وتأوي أكثر من عشرين مليون نسمة. وعند خروجنا من الفندق أسَرَ عيوننا نصبٌ تذكاريٌّ يُسمَّى " بوابة الهند"، وهي بوابة حجرية فخمة بُنيت سنة 1911 احتفاء بزيارة ملك بريطانيا جورج السادس للهند، درة التاج الاستعماريّ البريطانيّ آنذاك. تنزّهنا في منتزه "سنجاي غاندي الوطني"، وتمشَّينا في السوق المركزيّ وسوق التوابل والبهارات الكبير في بومبي. وعدنا بعد الظهر إلى الفندق لتناول طعام الغداء ونيل قسطٍ من الراحة قبل التوجُّه إلى المطار لنسافر على متن طائرةٍ هنديةٍ إلى إندور.

في مطار إندور، كانت إحدى سيارات العائلة في انتظارنا، وقد وقف السائق في الصفِّ الأوَّل من صفوف المنتظرين في بوابة الوصول في المطار. عرفته الدكتورة مادهو، وخفّ هو نحوها ليسلّم عليها ويتناول الحقائب من أيدينا.

انطلقتْ بنا السيّارة. وفي تلك اللحظة حلّق فكري عائداً إلى انكلترة، وأنا أقول في ذات نفسي: لا بدَّ أنَّ الحقيرة نيليما قد استلمت البرقيَّة التي بعثتْ بها مادهو من مطار هيثرو. ورحتُ أؤمِّل نفسي في أنَّ تلك البرقية فعلتْ مفعولها، فصعقت الحقيرة نيليما بحيث سبَّبت لها صدمةً وكمداً يودي بحياتها. ولكن الآمال لا تتحقَّق دائماً، والأحلام لا تصدق كثيراً.

يبدو أنَّ مادهو لاحظت صمتي وشرود ذهني، فمدّت يدها لتغلق النافذة الزجاجية التي تفصل المقعد الخلفي عن السائق، في إشارة منها لرغبتها في التحدُّث معي بصورةٍ حميمةٍ، فالمطار يبعد عن ضيعة أهلها حوالي ساعة ونصف الساعة. قالت:

ـ هل أنتَ مسرور بقدومكِ إلى الهند؟

قلتُ بابتسامةٍ عريضة:

ـ أتعلمين أنّني كنتُ قبل لحظات أفكِّر في أنَّني محظوظٌ جداً، لأحظى بزوجةٍ مثلك. وكنتُ أتساءل في نفسي كيف استطاع حظّي أن يعمي الهنود والإنكليز من قبل عن رؤية حسنك الباهر وجمالك الفتّان وشخصيتك العذبة، إلى حين أن ألتقيك لتكوني من نصيبي.
ابتسمت مادهو بانشراح وقالت:

ـ لعلّنا كنّا عاشقيْن في حياةٍ سابقة، ثمَّ التقينا في هذه الحياة عاشقيْن كذلك.
وكأنّها بذلك تشير إلى عقيدة (الكارما) الهندوسية التي تنظّم تناسخ الروح في دوراتها المتكرّرة، عندما يفنى الجسم وتعود الروح إلى الحياة في صورة بشرٍ أو حيوانٍ أو حشرة، تبعاً لعمل صاحبها السابق في الحياة، كنوع من الثواب والعقاب.

قلتُ:

ـ ولكن ألم يتقدَّم أحد لخطبتك طوال هذه السنوات؟

ـ أتعلم، يا سمير، عندما كنتُ ما أزال في الكلِّية الطبيَّة، أعلن والدي في الصحف مرَّتيْن عن استعدادي للزواج، وبعث إلينا كثيرون برسائل تعبّر عن رغبتهم في الزواج مني، واختارتْ العائلة خطيباً لي في كلّ مرَّة، ولكنَّ الزيجة لم تتم..

قلتُ:

ـ هذا من حسن حظي. ولكن ماذا تعنين بإعلان والدك عن استعدادك للزواج؟

ـ العادة لدى الطبقات الموسرة في الهند أن يُعلِن الأب في الصحف عن استعداد ابنته للزواج، محدِّداً في الإعلان طبقته الاجتماعية، وعمر الفتاة، ومهنتها، ومقدار المهر الذي يقدِّمه للعريس، وبعض المعلومات الأخرى ذات العلاقة؛ ثمَّ يتلقّى عروضاً من الخاطبين، وتختار العائلة الخطيب الأنسب، وترتب لقاءه مع الفتاة.

قلتُ:

ـ كيف يقدّم والدُ الفتاة المهرَ للعريس؟ لعلَّني فهمت العكس.

ابتسمت مادهو وقالت:

ـ ما فهمتَه هو الصحيح. ففي الثقافة الهنديَّة والثقافات الآسيوية التي تأثرت بها، كما في تايلند والفلبين، أهل الفتاة هم الذين يقدِّمون المهر للعريس. وعندما لا يفي أهلها بدفع المهر الذي وعدوا بدفعه بعد الزواج، تقوم أم العريس أحياناً، خاصَّة في الطبقات الفقيرة، إلى إحراق العروس في المطبخ، كما لو كان الأمر حادثاً مؤسفاً. وعلى كلٍّ، فهذه الطبقات ما زالت تمارس طقوساً هندوسيَّة قديمة. والمحزن أنَّ بعض هذه الطقوس يقضي بإحراق الزوجة حيّةً مع جثة زوجها المتوفى، ويُسمى هذا الطقس بـ (الساتي)، على الرغم من أنَّ القوانين الهندية الحديثة تحرِّمه وتجرِّمه. ألا ترى لماذا أنا منجذبة للدين الإسلاميِّ الذي كرّم المرأة وساواها بالرجل في الخَلق والحقوق، وأنَّني في طريقي إلى الإسلام.

قلتُ لها:

ـ لنعُد إلى قصَّة زواجك المفترض. ماذا حلّ بخاطبيْك.

قالت:

ـ كان أحدهم طبيباً، وحدَّدت العائلة له موعداً لاستقباله للاتِّفاق على تفاصيل الزواج. واقترح والدي أن أذهب بسيّارتي إلى المطار لاصطحابه كي تتاح لنا فرصة التعارف. وعندما كنا، أنا والخاطب، في منتصف الطريق إلى ضيعة أهلي، أبدى الدكتور الخاطب ملاحظةً سلبيَّة حول قيادتي السيّارة، ربما ليريني رجولته ويُظهِر مهارته. فما كان منّي إلا أن أوقفتُ السيّارة، وقلتُ له: "انزلْ حالاً من فضلك". لم يصدّق ما سمع، ولكنّي أنزلته، وعدتُ إلى المنزل لتناول طعام العشاء الذي أعدّته العائلة للخطيب المحترم.

قلتُ لها وأنا أضحك:

ـ أنتِ عجيبة يا مادهو. وماذا عن الخاطب الآخر؟

ـ بعد الإعلان الثاني اختارت العائلة من بين الرسائل مهندساً شابّاً، وقال والدي ليذهب أحد إخوتي لاستقباله في المطار واصطحابه إلى المنزل، لئلا تُنزله مادهو في منتصف الطريق.

وهكذا كان. واستدعوني من غرفتي للالتقاء به في صالة الاستقبال في إقامتنا، حيث كان أفراد العائلة والضيف الخاطب يتناولون المشروبات قبل العشاء. وقبل أن أدخل الصالة لاحظتُ أنَّ الضيف يدخِّن سيكاراً، فلم أدخل الصالة، وإنّما ركبتُ سيارتي وذهبت لتمضية الأمسية مع صديقتي. فأنت تعرف أنَّ لدي حساسية من الدخان، ولا أعدّ المدخِّنين من المثقَّفين. وبعد ذلك توقّف والدي عن الإعلان عنّي، وقال إنّ مادهو هي التي تأتينا بعريسها. وها أنا اتيتُ بك، فما مقدار المهر الذي تريده، يا سميري؟

ضحكتُ لنكتتها، ثم قلتُ بنوعٍ من الجدّية والوقار:

ـ أنتِ، يا عزيزتي مادهو، أغلى مهر في العالم، أنتِ جوهرةٌ نادرةُ الوجود.

10

في صالة الاستقبال الواسعة المشرعة الأبواب على الجهات الأربع في إقامة العائلة، استقبلني والداها وثلاثةٌ من إخوتها. وقد لمحتُ شيئاً من الدهشة على وجوه أهلها عند رؤيتهم لي، أو هكذا خيل إليّ. ولكنّهم رحَّبو بي وأكثروا من الترحاب.

وبعد وقتٍ قصير من الاستراحة في غرفتي، جاءت مادهو تدعوني لتناول العشاء مع أهلها وعددٍ من الضيوف. اصطحبتني إلى باحة المنزل. وفي الطريق إلى المائدة الطويلة المقامة في الهواء الطلق، رأينا في الحديقة سريراً واسعاً تعلوه ناموسية (أو كُلّة، بالهندية). فأشارت مادهو إلى السرير، وقالت إنّ أهلها فهموا من البرقية التي أخبرتهم بمجيئها مع " FRIEND“ أنها فتاة، ولهذا أعدّوا سريراً مزدوجاً مع ناموسية في الهواء الطلق لأنَّ الجوَّ حارٌّ جدّاً في الصيف والناس ينامون في الحدائق وعلى السطوح. وعندها فهمت أمارات الدهشة التي علت وجوه أهلها عندما اكتشفوا أن من يرافق ابنتهم "صديق" وليس "صديقة".

جلس والدها وسط المائدة، فأجلسني إلى يمينه، وجلست مادهو إلى يميني. وعلى يساره جلس رجلٌ قدّمه إليّ أبوها باسم الدكتور كاظم، طبيب العائلة ومعه زوجته وإلى جانبها أمُّ مادهو. وجلس إخوتها الثلاثة على الجانبين. ووقف خلف المدعويين ثلاثةٌ من النُّدل، كان أحدهم يقف مباشرةً خلف السيد جاكهاري. وأمام المائدة، جلس رجلان يمسك أحدهما بآلة السيتار الموسيقية الهندية، والآخر يضع يديْه على طبلٍ صغيرٍ أمامه. وجلست معهما ثلاث راقصات. وبعد أن انتظمت المائدة واكتملت، أعطى السيد جاكهاري إشارة من رأسه لتبدأ الموسيقى والرقص. وانهالت الأطباق المتنوعة على المائدة. ثمَّ التفت إليّ وقال:

ـ على الرغم من أن إندور مركزٌ ماليٌّ وصناعي هامّ في وسط الهند، فإنَّها ليست مدينةً سياحية، أضف إلى أنّني لا أعيش في قصر حاكم الولاية باستمرار، بل أفضل أن أعيش مع العائلة في ضيعتي هذه، وهي بعيدة عن المدينة نوعاً ما. ولذلك لا توجد ملاهٍ أو فرقٌ موسيقيةٌ بالقرب منا. ولكنّي طلبتُ هؤلاء الفنّانين من المعبد الهندوسي المجاور، إكراماً لك.

لا أدري لماذا تسحرني موسيقى آلة السيتار الهندية وآلة الكورة الإفريقية، فكلما استمعتُ إليهما، شعرت باسترخاءٍ في بدني وثقلٍ في جفوني كأنّي على وشك النوم. ألأنّهما آلتان وتريَّتان لهما نسبٌ بآلة العود التي ابتكرها السومريون قبل آلاف السنين والتي أدمنتُ على سماعها في طفولتي حينما كان أخي الأكبر يعزفها باستمرار وأنا في فراشي على وشك النوم؟

في الصباح تناولتُ الفطور مع العائلة على مائدةٍ داخل الصالة، ولم يكُن ثمّة ضيوف، وكان ذلك اليوم عطلة نهاية الأسبوع. وجّه السيد جاكهاري كلامه إليَّ قائلاً:

ـ سأقوم بجولتي الأسبوعيَّة في مزرعتي، هل تودّ مرافقتي للنزهة؟

ولم يدعُ أي شخص آخر من الحاضرين، ففهمتُ أنّه يروم التحدُّث معي على انفراد، فقلتُ:
ـ بكلِّ سرور.

كانت ثمّة عربة "حنطور" بحصانٍ واحد جاهزةً، والحوذيّ واقف عند بابها كما لو كان في حالة استعداد، فحالما خرج السيد جاكهاري من الصالة، أسرع الحوذي إليه وتناول يده اليمنى وقبّلها بنوع من الخشوع. وعند مرور العربة بالفلّاحين والمساعدين، لاحظتُ أن بعضهم يجري إلى العربة ليقبّل يد السيد جيكهاري الذي يتبادل معه كلمة أو كلمتين" تيكا، تيكا"، وبعضهم الآخر لا يقبّل يده، بل يلمس حذاءَه، وأحيانا يغطّي أصابعه بِكُم سترته قبل أن يضعها على الحذاء، فخمّنت أنَّهم من طبقة المنبوذين الذين لا يجوز لهم لمس حذاء سيّدٍ مثل حاكم الولاية من طبقة البراهما.

كانت المزرعة واسعةً جداً فذكّرتني بمزارع تكساس الشهيرة باتساعها (Ranches). وبعد أن تحدّث السيد جاكهاري إليّ عن محصولات مزرعته التي ورثها عن أبيه، وعن ذكرياته في لندن خلال سنوات دراسته في جامعتها، وعن مسيرته السياسية والإدارية إلى حين توليه منصب حاكم ولاية إندور، سألني بصورةٍ تكاد تكون مفاجئة:

ـ منذ متى وأنت تعرف الدكتورة مادهو؟

ـ منذ سنة تقريباً.

صمتَ لحظةً كأنّه يفكِّر فيما سيقول، وقال:

ـ أنا أعرفها جيّداً منذ ولادتها قبل حوالي ثلاثين سنة.

قلتُ:

ـ طبعاً، فأنتَ والدها.

قال:

ـ إنّها ذات شخصيةٍ قوية، وتفعل ما تحسبه صواباً.

ـ لعلَّها ورثت بعض صفاتك الحميدة.

قال:

ـ ولهذا فإني لا أتدخَّل في مسألة زواجها. ولكن لديَّ نصيحة أسديها إليك أنتَ.

ـ تفضّل، سأستمع إليك بكلِّ سرور.

قال:

ـ قبل كلِّ شيء، أنا لا تمييز ديني أو طائفي لديّ. فكما لاحظتَ على مائدة العشاء الليلة الماضية، طبيب العائلة، الدكتور كاظم وزوجته مسلمان، مع أنَّ كثيراً من أقاربي الهندوس أطباء، ولكنّي اخترته لكفاءته. وما سأقوله لك لا علاقة له بالاختلاف الدينيّ بيننا.

ـ أعلم ذلك.

ـ أنتَ والدكتورة مادهو الآن في ريعان الشباب، والحبُّ هو كلُّ شيء بالنسبة إليكما. ولكن بعد بضعة شهور من الزواج، ستخمد جذوة اللهفة والرغبة، وستواجهان الحياة سافرة الوجه بواقعها المؤلم. وبما أنَّ الثقافة الهندوسية تسري عميقاً في كيان الدكتورة مادهو وشرايينها حتّى أخر شُعيرة من شُعيراتها الدمويّة، فإنّها ستجد نفسها غريبةً في مجتمعٍ لا تنتمي إليه ولا تنسجم تقاليده وعاداته مع منظومتها الفكرية. وحينذاك ستشعر بغربةٍ تلقي بظلالها القاتمة على نفسيّتها وسلوكها. وستمسي تعيسةً بائسة، وتسبِّب لك قلقاً وهمًّا وشقاءً، بدل السعادة التي تحلمان بها اليوم.

وختم كلامه بقوله:

ـ أنا لا أريد جواباً منك الآن، ولا أتوقَّع قراراً تتَّخذه. ولكن كلّ ما أرجوه هو أن تتمهّل بعض الوقت، وتفكِّر في النصيحة التي أسديتُها إليك.

قلتُ:

ـ سأفعل، وشكراً لاهتمامك.

بعد أن عدنا من المزرعة استقبلتني مادهو باشةً وهي تقول:

ـ كيف كانت جولتك في المزرعة؟

ـ رائعة جداً. تمنيتُ لو كنتِ معنا.

ـ نساء العائلة قلما يذهبن إلى المزرعة.

سألتُها بابتسامةٍ ودود:

ـ هل وصلتك برقيَّة تهنئة من صديقتك العزيزة الدكتورة نيليما.
قالت:
ـ لا، اتّصلتُ بها هذا الصباح ولم تكُن في الشقّة.

ـ لعلّها في المستشفى، أو لم تتوصَّل ببرقيتك بعد. لماذا لا تتَّصلي بها الآن في مقرِّ عملها فيما أسعد أنا بالتحدُّث مع أخيك.

قالت:

ـ سأفعل.

وتوجَّهتْ إلى آخر الصالة حيث الهاتف.

وفيما كنتُ أتحدَّث إلى أخيها، كانت إحدى عينيّ تنظر إلى حيث الهاتف لعلّني ألمح ما يسرّني.

بعد بضع دقائق عادت مادهو وهي تسير الهوينى، مطرقةً، وأمارات الأسى بادية على وجهها.
نهضتُ من مقعدي، وقلتُ لمادهو:

ـ عزيزتي، ما بكِ؟

قالت بصوتٍ فيه رنَّة حزنٍ:

ـ نيليما..

وصمتت لحظة، ثمَّ استأنفت قائلة:

ـ نيليما في غرفة العناية المركزة في المستشفى.

قلتُ باندهاش ظاهر:

ـ ماذا؟

ـ نعم. شرحت لي الممرضة في مكتب استقبال المستشفى أنَّ نيليما نُقلت إلى المستشفى أمس الأوَّل وقد أُصيبت بنزيفٍ في الدماغ.

ـ نزيف في الدماغ؟!

ـ نعم.

ـ آمل أن يكون عابراً، وتتماثل للشفاء عاجلاً.

قالت:

ـ لا أظنُّ ذلك. يستغرق العلاج بعض الوقت، وقد يتسبّب النزيف بالشلل أو يؤدّي إلى سكتة دماغيَّة.

وهنا شعرتُ في أعماقي بفرحٍ شيطانيّ، ولكنّي تظاهرتُ بالأسف وسألتها بصوت حزين:

 ولكن لماذا أُصيبت الدكتورة نيليما بنزيف في الدماغ؟

ـ إمّا لضعفٍ في جدران الأوعية الدمويّة لديها، أو لارتفاع مفاجئ في ضغط الدم خرج عن السيطرة، فسبَّب خللاً في إمداد المخِّ بالدم وعدم وصول الأوكسجين اللازم لأنسجته.
في تلك اللحظة، قلتُ في ذات نفسي إنّ الحقيرة نيليما قد نالت العقاب الذي تستحقُّه جزاء وقاحتها وعدوانها عليّ. ولكنّها لم يكُن في إمكانها الإساءة إليَّ لو أنَّ مادهو تصرَّفت بطريقةٍ معقولةٍ طبيعيَّة، والتحقتْ بي في شقّتي في لندن بدون أيّة تعقيدات. ولهذا فإنّ مادهو، هي الأخرى، مذنبة، ويجب أن تنال العقاب العادل. وهنا التفتُ إلى مادهو قائلاً:

ـ ومَن الذي يعتني بالدكتورة نيليما حالياً؟

ـ أطباء المستشفى وممرضاته.

قلتُ:

ـ أعني هل يوجد أحد من عائلتها أو أصدقائها هناك يقف إلى جانبها في محنتها ويعودها بانتظام.

 لا.

قلتُ:

ـ عزيزتي مادهو، ينبغي أن تكوني أنتِ إلى جانبها الآن. ليس من المعقول أن تكون صديقتك الحبيبة ترقد في غرفة العناية المركزة في المستشفى هناك، وأنت هنا في فرح واحتفال. الوفاء يتطلَّب أن تكوني إلى جانبها.

ـ هذا ما كنتُ أفكّر فيه، ولكن...

قاطعتُها قائلاً:

ـ لا تقلقي من ناحيتي. سنؤجل احتفال زفافنا، حتّى تتعافى صديقتك العزيزة. لا تتردَّدي في العودة إلى لندن ومساعدتها، فواجب الصداقة يفرض ذلك. ووفاؤك لها الآن يؤكِّد لي أنك ستكوني وفية لي كذلك في المستقبل، وأنَّكِ ستكونين بجانبي في السراء والضراء.

ـ وماذا ستفعل أنتَ؟

ـ سأذهب إلى باريس للالتحاق في الدورة الصيفية لجامعة السوربون.

كان قصدي طبعاً الابتعاد عن مكان نيليما وما يتعلّق بها، ليكون انتقامي منها جريمةً كاملة. ومن ناحية أخرى لأتعمّق في دراسة القانون الجنائي لمعرفة ما إذا كان فعلي تنطبق عليه أوصاف الجريمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى