الأربعاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠١٩
قصة كوردية مترجمة
بقلم مكرم رشيد الطالباني

الإحتـضـــــــار

سآتي إليك يا فاطم، ألم أخبركِ بأننا سنلتقي حتى ولو كان في الآخرة، أصبري وهلة فسأصل إليكِ، لقد تأخرتُ وكان سبب تأخري كون والدتي كانت وحيدة، وإلاَ فإنني كنت أرغب في اللحاق بكِ قبل رحيلكِ. عزيزتي فاطم أتذكرين حين قدمتِ لي أول رغيف خبزٍ عند التنور قبالة داركن، فوضعت الرغيف على فؤادي وبدأت ُ أتشمّمه، كان يفوح منه عبقكِ وعبق الوفاء والهوى.

فاطم لقد كنا نحب بعضنا البعض مدة ثمان سنوات، كثيراً ما كنت أودّ أن اتخيل بأنكِ في حضني وأضمكِ لصدري وأنهال عليكِ قبلاً محتضنين بعضينا البعض، ولكن عرق الخجل سرعان ما كان ينهمر على جبيني وكنت أشعر بالخطيئة والندامة لاقول إننا نحب بعضينا حباً طاهراً ولا يجوز التفكير بافعال قذرة.. لقد غمرني الشعور بالخطيئة إلى الحد الذي لو كنتِ تطلبين مني ذلك، ألاّ أقترب منكِ، عفواً عزيزتي فاطم، ففي اليوم الذي ألتقينا فيه في مِتْبَنِكُنّ شعرت بأن جسدكِ غدا قطعة من الرغبة في الذوبان في جسدي، قرّبتِ يدكِ لتمسكين بيدي، لكنني أبتعدتُ عنكِ وقلتُ لقد عاهدتُ نفسي أن أحبكِ حباً طاهراً، والآن أدركُ كم ظلمتكِ وظلمتُ نفسي، ولكن لم يكن ذلك ذنبي، كانوا قد علموني بأن الحب الطاهر هو العلاقة بين الروح والروح وليس الجسد والجسد، وكنا قد علمونا جميعاً على هذا المنوال بأن العلاقة بين جسد الفتاة والفتى من الزنى، وخاصة وأنتِ يا فاطم كنتِ إبنة أحد الشيوخ وقد ترعرعتِ في التكية وفتحتِ عينيكِ بين الدراويش ذوي الشعور المسدولة، ورغم ذلك كنتِ أكثر خبرة مني، كنتِ تريدينَ الأخذ بيدي لتعليمي لذة القُبَل وإلتصاق الجسد بالجسد.

أعذريني يا فاطم، كان حبي وإخلاصي لك هو الذي دفعني أن أحرّمكِ وإياي من تلك اللذة، وإلاّ فإنني إبن المدينة الذي لم أكن لأعرف حتى ذلك الوقت ماهي القبلة وأين تقع وكم عدد فروض الصلاة. حين أحببتكِ حملتُ سجادة الصلاة وبدأت أصلي، وكنت أدعو الله أن يسعدنا بالإقتران ببعضينا، وكنت أتعذب كثيراً لمّا تناهت إلى أسماعي بأن الشيوخ يعقدون قران بناتهم على الشيوخ فقط ولا يقعدونها على الرعاع، ولكن لم يتسلل الإحباط إلى نفسي، فكنت أحاول التقرب إلى والدكِ، فكثيراً ما كنت أؤدي صلاتي في التكية عن قصد، كي يشاهدني والدكِ ليعرف مدى إيماني، ولكن فاطم لم اكن لأقرأ الفاتحة، بل كنتُ أذكر إسمكِ مراراً، وكنت أفكر في حبكِ إلى مالانهاية، كان سيمائكِ الملائكي يشمخ أمامي كالإله، لذا كنت أسجد غارقاً في البكاء. كنت أبكي لأنني كنت أتوجسُ خيفة الاّ نسعد ببعضنا وأن تغدو (المشيخة) شوك (مم وزين) فيما بيننا، غير إن الدراويش كانوا يعتقدون بأني غارقٌ في حب الله. حتى والدكِ، الذي كان الدراويش يعتقدون بأن الرسائل والإلهام تأتيانه من الغيب وهو عارف بالمصائر والمجهول، لم يكن ليعرف بأنّي متيمٌ بكِ. كنت أحادث نفسي يا ليته كان ذلك الحقيقة بعينها وكان الخوف من الرّب يكمن في قلبه ومن خوفه هذا كان يعمد لعقد قرانكِ عليّ.

عزيزتي فاطم لا تقلقي، لقد أنتظرتِ طويلاً، فأنتظري دقائق أخرى، سآتي لأعوضكِ عن كل الإنتظار والوحدة التي عانيتيها، ولن ارد طلبكِ فإن وددتِ الإمساك بيدي فلن أضع يدي في يديكِ فحسب، بل سأقَبِلُ شفتيكِ إلى مالا نهاية وأحتضنكِ إلى ما لا نهاية، لقد مرّرنا بتجربة مريرة علينا عدم تكرارها، إني اعتقد بأن الجسد والروح يمنحان الحياة للعشق، إن حب الروح دون الجسد حب ناقص. عزيزتي فاطم سآتي هذه الكرّة لأثبت لكِ بأنني أحبكِ من كل قلبي.
عزيزتي فاطم من ذا الذي كان يتوقع أن يأتي ذلك اليوم؟ من كان يتصور ذلك؟ فقد حدث كل ذلك في لحظات! ياترى أكانت تلك اللحظات لحظات أم براكين؟ ياترى أكان ذلك اليوم زمناً أم اسطورة ؟ من كان يتوقع أن يحدث لنا هذا؟ أتذكرين اليوم الذي كنا قد تقابلنا عند الينبوع، حين هوى عش عصفور من الشجرة على الأرض، وكيف تحدثنا عن ذلك؟ رأيت الدموع في عينيكِ المليئتين عطفاً ورحمة حينما كانت صغار العصفور تزقزق وترفرف بأجنحتها حول أمها وقد قمتُ واعدت العش إلى غصن الشجرة فأمتلأت عيناكِ بوميض السعادة؟! أتذكرين؟! من ذا الذي كان يتوقع أن يحدث هذا وتمر سنوات وسنوات ولا أراكِ ؟ آه كم كنت أجهش بالبكاء، كنت أبكي بصوت جهوري على شاكلة الغناء، وكنت أذوب مع تلك الأغاني، أسألي الجبال! كانت الجبال وحدها هي التي تحتضن حسراتي مع حسراتها. أسألي بندقيتي التي لم تفترق عني لحظة واحدة وكانت تصغي إلى آلامي الجهورية، أسألي زملائي المخلصين هؤلاء، والذين عانينا معاً الجوع والعطش والبرد القارس، وكنا في تلك الفيافي نعاني معاً.

عزيزي فاطم عند مجيئي ساروي لك كل شيء بالتفصيل، منذ ذلك اليوم الذي لم اركِ فيه بعدُ. لقد واجهت العديد من المصاعب لكنني أدرك بأن الصعوبات التي كنت قد واجهتها لن تصل إلى مستوى لحظة من الصعوبات التي عانيتيها انتِ، أنتِ الصافية كالنبع، أنت الفانتة كالحواري، التي فرضوا عليكِ ذلك الطريق اللآشرعي، إني ادرك لو كان القرار قراركِ أن تتبعيني ونرحل، ولكن لم يكن القرار لكِ ولم يكن القرار قرار أبيكِ، ولا قرار أخوتكِ هذه المرّة، عزيزتي فاطم كان القرار هذه المرة لأناس لم يكونوا ليملكوا أي حق عليكِ. لقد قاموا بنقلكم جميعاً. إني كنت أرى عند حافة الجبل كيف صعدوكم إلى العجلات، كنت ابكي بكاءً كانت النيران تشتعل في جسدي، وكان زملائي يبكون أيضاً، وكانت بنادقنا تبكي ايضاً، كادت قلوبنا أن تنفجر من فرط الضعف، كنت اشاهد بأم عيني اللهيب تتصاعد من أطلال ذكرياتنا، عزيزتي فاطم لقد احرقوا كل شيء، التكية، والمِتْبَنْ، الدور، الأشجار، لقد دمروا وأحرقوا كل شيء، ذلك التنور الذي كنتِ تخبزين فيه وكنت أنظر إلى قامتكِ، وفي كل مرة كنتِ تناولينني أول رغيف منه.

عزيزتي فاطم حين قدومي أسردي لي أنتِ قصتكِ أيضاً، ففؤادي مليء بالعقد ولن تحل إلاّ بوجودكِ، لقد تناهى إلى أسماعي الكثير من الأقاويل، لا أعرف كم منها هي الحقيقة عينها وكم منها إفتراء، أخبريني عنها لأطمئن، عزيزتي فاطم آمل الآّ تكون الأقاويل التي سمعتها صحيحة. آمل ألاّ تكون جسدكِ الطاهر العفيف الذي لم اكن لأجرؤ بمد يدي نحوه، قد تلطخ بأجسادهم! آه كم كنت أبكي في سري بكاءً حين كنت اسمع بأنهم كانوا يعرّونكن أنتن الحواري أمام انظار آبائكن وإخوانكن ليسلبونكن عذريتكن قسراً. عزيزتي فاطم أنتِ في نظري لا زلتِ كما عهدتكِ طاهرة، لازال جسدكِ طاهراً، إن كنتِ عذراء أم لا، فإن جسدكِ بحر مترامي لن ينجس بفعلهم، أصبري وهلة أخرى فإنني سأنقذك من ذلك الإنتظار الطويل ونغدو زوجين.

عزيزتي لا تقلقي، إن تأخري هذا لم يكن بسبب عدم الوفاء ونسيان العهد، بل إني كنت أعتقد أنه ببقائي في الجبال أستطيع إنقاذكِ بهذه البندقية، لكن آه لم استطيع فعل شيء يذكر، وكانوا يقومون بإبعادكِ أكثر بمرور الوقت، كانوا يرحلونكِ من صحراء إلى اخرى، كنت أراكِ في أحلامي مئات المرات كيف كانت رمال الصحراء تحرقكِ وتلدغ جسدكِ الرقيق في عز الظهيرة، حين كنتُ أنتفضُ من حلمي، كنت أكره بندقيتي التي لا حول لها ولن تستطيع فعل شيء وتعذبني أكثر. حين كنت أعود إلى رشدي بعد كل تلك الكوابيس كنت أبدأ بالصراخ كالثور الهائج واناديكِ ملء تلك الجبال. عزيزتي ماذا كان في وسعي فعله في تلك البراري المخيفة حيث كنت أنا ورفاقي المعدودين كأبطال الأساطير كنا نتجول بين أطلال وخرائب القرى والبيوت والأعشاش المتهدمة، عزيزتي فاطم لم تهدم (بنكة) لوحدها، بل تم تدمير جميع القرى الأخرى، آه ياترى كم هو عدد العشاق أمثالنا من الذين تم التفريق بين قلوبهم. كثيراً ما كنت اذهب لرؤية أطلال تيكتكم، والتنور، وبئر الماء في باحة داركم، والمِتْبَنْ، من كان يدرك بأن موعداً تم بين عاشقين متيمين في هذه الأماكن المقدسة دون أن يُقَبِلا بعضيهما.

سيدتي.. لم تكن مشاعري لتصدقني بأن جسدكِ، وأجساد الآخرين تم دفنها حياً في حفر الصحراء السوداء، لم استطع أن اصدق نفسي بأنهم قتلوك، لم يكن عقلي ليستطيع استيعاب ذلك بأن هناك أيادٍ تستطيع دفن حورية مثلكِ حياً في إحدى الحفر ـ لم اكن لأستطيع أن أصدق ذلك بأنكِ ميتة ـ يمكن أن يكون سبب ذلك إن روحكِ كانت معي دائماً، كانت تحادثني، تمنحني السؤدد والقوة وتشجعني وتدفعني للإصرار على التمرد والصمود في الجبال.

هذا هو السبب الذي دفعني للبقاء وتسهيل الصعوبات أمامي، حتى ذلك الوقت الذي أستطعنا فيه بفعل بنادقنا فتح طريق نحو المدينة وتحريرها، وقد سعدت بلقاء أمي البعيدة، أمي التي كانت على ما اتذكر في حداد، مرتدية السواد. لقد تخلصتْ برؤيتي ورؤية الحرية من الحداد وإرتداء السواد من أجل أخي، كانت تزغرد، أعتقد بأن ذلك الصوت ليس صوتها لوحدها، بل إنه صوت كافة الأمهات وقد أختلط بصوتها للتعبير عن ذلك الإنتصار. عزيزتي فاطم لو كنتِ ترين الأمهات في ذلك اليوم كيف كنَّ يقمن بإحتضاننا لألتأمتْ جراحكِ، لقد قضين سنين طوال دون أن يستطعنَ رفع نظرهن والنظر إلى الجبال والمرتفعات بحرية، النظر إلى هامات أبنائهن، وفي ذلك اليوم الذي تم فيه إبعاد أشباح العزرائيليين عنهن كنَّ يستطعن ليس النظر فقط بل وضع أبنائهن في مُقَلِ أعينهن .

آه آنستي، كم أنا سعيد وأنا في طريقي للإقتراب منكِ، وفي الوقت عينه حزين ومهموم لأنني سأدفع أمي للحداد وإرتداء السواد ثانية، هذه المرّة سأودعها إلى الأبد وسآتي إليكِ إلى الأبد.
آه عزيزتي فاطم.. لقد صفعتني أصوات القنابل هذه، حتى أن (باوه شاسوار) صعق مثلي وأصابت مئات القنابل صدره الرحب، لكنه لازال صامداً، وإني أقبع جنب هذه الصخرة منتظراً أن ترسم قطرات دماء فؤادي الذي لا يزال ينزفُ، خارطة وفائي في نهر ( بوغاز ) الضحل هذا، وأبدأ الرحيل، آه فاطم عزيزتي، آه عزيزتي... مدي يديكِ.. هلمي إلى حضني.. ألم أخبركِ بأننا سنلتقي حتى وإن كان في الآخرة..أ..لـ..م ..أ..خـ..بـ..ر..ك.. عـ..ز..يـ..ز..تـ..ي.. ف..ا..ط..م ..

هوامش:

1ـ فاطم تصغير(فاطمة) باللغة الكوردية أو للتدليع (المترجم).

2ـ بنكة : قرية تابعة لـ(كفري) .. دمرت سنة 1988 على أيدي القوات العراقية التابعة للنظام البائد في عملية الانفال السيئة الصيت.

3ـ باوه شاسوار : إسم جبل في مدينة (كفري).

4ـ بوغاز : إسم نهير عند حافة جبل شاسوار في كفري.

عن مجلة (رآمان) العدد(72) حزيران عام 2002 ص(171ـ172).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى