الثلاثاء ٩ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم إسراء أبو زيد

رسالتي قبل الأخيرة

الحياة لا تمنحك الكثير من الحظ، وعلى ما يبدو أن العالم ليس مكاناً لتحقيق رغباتك وأمانيك، هذا الدرس تعلّمته مقابل حياتي.

نشأت بدار للأيتام كانت عائلتي وكانت حياتي، لم أعرف غيرهم أخواتي، كانت الحياة بين يديّ ألعب وألهو وأمرح، الحياة بدور الأيتام ليست قاسية كما بالتليفزيون، فهناك رحماء وهناك ربّ آمنّا به ويرعانا بالمقابل.

ولكن كفتاة نشأت يتيمة الأحلام ليست حقّاً من حقوقي، ولم أفكر أن أحلم كنت راضية تمام الرضى بحياتي.

مرّت الأيّام سريعة متعاقبة وكبرنا وأصبحنا نُفكّر بالحبّ، ليس فقط من يحبّنا ولكن من نحبّه أيضا.

فالرغبة بالاختيار شعور لن تفهمه مثلي، كنت أودّ الاختيار ولو مرّة بحياتي حتى لو كانت الأخيرة.

ولكن وكما أخبرتك العالم ليس مكانا لتحقيق الرغبات ومثلنا لا يملك الحلم.

ومع ذلك كل ما عليك فعله هو الإيمان بما تريدين، سيصبح حقيقة يوماً ما، الإيمان فقط وكنت أملك الكثير منه.

طبعاً ولأني فتاة قاهرية تربّيت بالجيزة فكل ما كنت أتخيّله وأسمع عنه القاهرة لم أكن أعرف الكثير عن المحافظات أو أتخيّل وجود عالَم آخر غير الجيزة.

إلى أن أتى إلينا يوماً ما مُشرف بالدار جديد يُدعى محمود من محافظة اسمها كفر الشيخ، كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها عنها ولم أكن أعرف الكثير عمّا يُقال حولها من نكات عرفت فيما بعد، أنتم لم تُكفّروا الشيخ أنتم أطيب ناس فقط كان قليل الإيمان.

ضحكت والدموع تملأ عيوني لهند تلك الفتاة التي تعرفت عليها صدفة وكأنّه ساقني شيء ما لها لتعلمني درساً، بفراش موتها الأخير أجلس بجانب سريرها تقصّ لي حكايتها.

لما يلفت محمود نظري كثيرا، لم يكن وسيماً لم يكن مثل الهنود أو الأتراك، وكنت طموحة بأحلامي،لإدراكي التامّ أنّني لقيطة لن أنالها يوما ما.

ولكن لسبب مجهول لا أعرفه وقع بحبي هذا الشابّ، ولم أقاوم إعجابه، في الحقيقة هو أول من أحبّني بصدق، شعرت بذلك.

ومثلي لا تمتلك الكثير لتخاف عليه فلم يكن لي عائلة أو أخوة أو أب أو أم، لم أمتلك سوى حبّي.

ومثل هذه الأمور لا تعيش بالسرّ طويلاً سرعان ما عُرف الأمر. وفاجأني محمود بأنّه سيتزوّجني، وتركني وعاد لبلده ولأهله وعائلته ليواجههم بحبّه من فتاة مجهولة النسب.

وكما يقولون الحبّ أعمى وهو كذلك فعلاً لم يضع بالحسبان ردة فعل الآخرين لم يتوقّع كم المعارضة وحجم الرفض . فرحته أخرست لساني.

ومرّت ثلاثة شهور كدت أجنّ، وفقدت الأمل، وأدركت أنه لن يعود، جميع من في الدار قالوا ذلك، ولكن قلبي كان ينبض حبّاً وشوقاً.

وفي أحد الأيام طلبت فتاة غريبة لا أعرفها من قبلُ رؤيتي، كنتُ بحالة يُرثى لها،لأني اكتشفت إصابتي بسرطان الغدة الدرقية المرحلة الرابعة ومتأخّرة واستسلمت لأمري وحالي.

وجدتها صديقة محمود أرسل لي معها هاتفاً محمولاً سرّاً حيث إنّه ممنوع بدور الأيتام، وعادت روحي لي مرّة أخرى، وهاتفته ونسيت كل شيء مرضي وموتي. استيقظت أحلامي مرّة أخرى، فأحياناً يمكن العيش مع الألم كرفيق.

وحدث ما توقعته، أمه ترفضني تمام الرفض أخبرته نصاً: إنها تريد نسباً يشرف وليست فتاةَ ملاجئ الله أعلم بحالها.

أمّا والده فكان أكثر رحمة، أخبر محمود أنّ أمه هربت من بلدها بورسعيد ومن أهلها و أخواتها وجاءت معه لكفر الشيخ من أكثر من 30 سنة وتزوجنا وعشنا قصة حب صمدت عبر الزمن، لا تتخلى عن فتاتك أبداً يا محمود فالحبّ كنز والكنوز فرص.

وهنا اعتبرناها موافقة ضمنية خاصة بعد ما منعته أمه من العمل بالدار والعودة للجيزة مرة أخرى.

فقرّرت الهرب من الدار لما تسمى كفر الشيخ طبعاً،لكِ أن تتخيّلي بنت يتيمة لم تخرج من الدار وحدها يوما ما أو تعرف حتى الطريق لأي مكان ولا حتى الموقف!

هربت من الدار ذات نهار وسألت عن الطريق، لم يكن بيني وبين محمود ترتيب أخبرته أنّي وصلت الموقف وسأستقلّ الميكروباص لأجده بانتظاري، طارَ فرحاً بالتليفون.

وبالطريق مرت حياتي كلّها أمامي، وبالنسبة لمرضي فتوقّفت عن المأكولات البائسة للعلاج، أنا سأموت وإن كنت كذلك فيجب أن يكون بين أحضان محمود، محمود الذي ربّما يقف قلبه إذا علم بالأمر.

وصلت لكفر الشيخ وجدته بانتظاري، ساعدنا الأصدقاء واستضافونني عندهم، وكانت هي حياتي التي عشتها عشرة أيّام حرّة، حرّة بقراراتي وبحياتي وباختياراتي، لم أندم كان قراراً صائباً وتطلب مني شجاعة كبيرة لإخباره بمرضي وأخبرته.

فأسرع بترتيبات الزواج أستأجرنا شقة واشترى والده لنا العفش كاملا حباً وساعدنا الأصدقاء، كم قابلت بهذا البلد كرماء!

وتزوّجنا خلال أسبوع وكأنه حلم سريع، ومع حملي زاد مرضي وجنّ جنوني، الحياة ما زالت أمامي وما زال لدي الكثير لأفعله ولكنها مشيئة القدر.

الأطبّاء أكّدوا أنّي لن أعيش والجنين أيضاً، أصبحت ممتنّة للأيام السعيدة التي عشتها مع محمود.

وذات صباح وكنت بشهري التاسع وصلنا خبر وفاة محمود بحادث سير، أغميَ عليَّ حينها وتمّ نقلي للمشفى ووضعتُ ابنتنا أسيل كما اتفقنا على تسميتها، ودُفن محمود ودُفن قلبي معه.
بعد مرور أسبوع من الولادة توفيت وأسيل بخير خالية من السرطان وهي الآن تعيش مع جدّها وجدّتها عمرها ستّ سنوات الآن.

أكثر ما كانت تخشاه هند أن تُنسى وحبيبها كلّنا نتمنى ألّا نُنسى بشكل أو بآخر.

أمّا عن رسالتها الأخيرة في أسبوع وفاتها فهي (أوصيكم بابنتي خيراً، علّموها الحبّ، ذكّروها أنّه كان لها أبوان مُحبّان قليلا الحظّ).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى