الثلاثاء ٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم طلال الشريف

التوحش !!

أثناء زيارتنا لأحد المعارف، الذي عاد من أميركا في زيارة مؤقتة للأهل، بعد غياب دام أكثر من ست سنوات، وبينما، كنا نحتسي الشاي، فإذا بصوت طلقات نارية كثيفة في محيط البيت، فتدافع الحضور إلى الخارج لاستطلاع الأمر، وللوهلة الأولى، تصورت أن هناك اجتياحاً إسرائيليا، لأن البيت كان على أطراف البلدة، وهمست لصاحبي، الذي أصر على هذه الزيارة، وقلت له لقد تورطنا هذه المرة، نحن الذين نسكن وسط مدينة غزة، ولم نر اجتياحاً من قبل، كتلك، التي كانت تحدث على الأطراف.

وما إن نظرنا من خلف الباب الخارجي لرؤية ما حدث، فإذا بمجموعة من المسلحين، وهم في حالة عصبية جداً، مستحكمين بمواقع استنفارية في الشارع ويطلقون النار، وبالقرب منهم سيارتان جاهزتان للانطلاق، وقد خلا الشارع من كل مخلوق.

وبعد أن هدأ وطيس المعركة، وانجلي غبارها، استطعنا الخروج إلي الشارع، وكان قد انسحب المسلحون، فتبين أن شقيق الرجل الذي نزوره، وهو يسكن بالقرب من البيت الذي تواجدنا به، هو المستهدف، وقد أطلق المسلحون النار للتغطية علي عملية ضرب مبرحة تعرض لها من قبل المهاجمين، وليس بدافع القتل.

وفهمنا بعد ذلك أن هذا الشقيق يعمل سائق كارة بحمار، ويعمل بسوق الخضار، وقد حدثت بينه وبين أحد الباعة إشكالية أثناء مرور الحمار بالقرب من بسطة هذا الرجل، وقد انتهز الحمار الفرصة ليشفي جوعه، فأكل بشراهة كمية من الكوسا والذرة من بسطة البائع، واشتبك سائق الكارة مع البائع وابنه بعد أن شتموه شر شتيمة ، ويبدو أنه لكمهم، فأطاح بوالدهم أرضا.

ولأن الناس في بلادنا، أصبحوا،جميعاً منتمون إلي الجيوش الجرارة الكثيرة المنتشرة في قطاع غزة، مما زاد من حالة الاستنفار والاستقواء التي تطورت بفعل الاغلاقات، والفقر، والحصار، ولزيادة الهم، والاستنفار، فإن الواحد منا إن لم يستنفر في اليوم الواحد مرة من الجيش الإسرائيلي، فمؤكداً، سيستنفر مرات، بفعل العائلة، والشلة، والفصيل، والجيران، التي أصبحت العلاقات بينهم، هي علاقات مسلحة، وعلاقات القوة، وليست علاقات جيرة كالسابق، مستعرضين عناصر قوتهم علي بعضهم البعض عمال علي بطال، وكأنه كتب علينا التخلص من كل الصفات الإنسانية إلا من هذه الصفة البغيضة من نصرة الأخ والصديق دون تدبر الأمر ( سلاحك واجري وين في طخ, طخ ) لأي سبب كان .

إلي هنا، لم أستغرب من شيء، فهذا حالنا منذ مدة ، فقد غابت السلطة، وغاب القانون، وانفلت عقال الفوضى، والقسوة، والتوحش، وأصبحت الحالة عامة والإصابة طامة، إلا ما رحم ربي، من عائلة صغيرة أو مجموعة ضعيفة لا تتغطرس بالقوة والعدد، أو من لم ينتم إلي أحد الجيوش وهم قلة رغم أن استطلاعات الرأي تصورهم بأنهم أغلبية.

وأقول جيوشاً وليست عصابات، ليس مواربة، أو مقتضيات السياسة، أو التلميح أو التجمل، ولكن حقيقة الأمر تستدعي تلك التسمية، حيث أن هذه المجموعات حتى العائلية منها، والحاراتية، تمتلك من البنادق والقنابل والصواريخ، والعربات ما لا تمتلكه السويد، أو النرويج، ولها قيادات ميدانية ومنظرين، وقادة صف أول، وصف ثاني، ولولا أن الطائرات لها حجم كبير، لا يمكن تهريبها، لكانت، شلة أو عائلة معينة تمتلكها. ولكن الشيء المحير، والذي لا نعرفه هو من أين يأتي المال لشعب فقير مثل شعبنا. سيارات ضخمة وثمينة ووسائل قتال واتصال ومصاريف جارية ولوازم كبيرة.

كل ذلك، لم يفاجئني حقيقة، فنحن نعيش المأساة، ولا نحس بغرابتها ، لكن، ما صعقني، أننا ذهبنا ضحي اليوم التالي لنكمل حديثنا مع أستاذ العلوم( .....)، القادم من بلاد الحضارة ، أميركا، لنطمئن عليهم بعد نيران الليلة السابقة، أو لعلنا، أيضاً، نستمع من البروفيسور إلي أشياء، أو حكايات من بلاد الحضارة، قد تخفف عنا، وطأة الحالة الغزاوية المتوحشة.

وما إن جلسنا مع البروفيسور ،حتى وجدناه غير الأمس تماما، فقد كان يحمل علي خصره مسدساً، ويضع إلي جانبه كلاشنيكوف، وشباب العائلة ملتفين حوله، ومستنفرين، بكل أسلحة الدمار الشامل،فقلت له ماذا جري لك؟ وما هذه الأسلحة التي تحملها؟ وتوقعت أن يقول لي، بأن أقاربه قد خافوا عليه لاعتبارات الثقافة، والعلم، والمقام المحترم، فحملوه هذه الأسلحة غصباً عنه للدفاع عن النفس عند الضرورة، ففاجأني بمصيبة أكبر من الأولي، بأن الأستاذ الجامعي الذي يحمل شهادة الدكتوراه، المتعلم كثيراً، والمثقف كثيراً، والذي يدرس لطلابه آخر تعريف للتعلم، بأنه تغيير للسلوك، بأنه هو الذي قرر، وخطط، ووضع الأهداف، ومول الأقارب لقتل المهاجمين، مهما كانت النتائج.

فقلت، أن الرجل قد يكون عمل هذه الألبندة لامتصاص النقمة من أقاربه، ثم يبدأ بتفكيك الموقف، فأخذته جانباً، وقلت له يا أستاذ هذا أسلوب غير حضاري، وغير طبيعي، ويجب عليك، أن تكون أعقل من الآخرين، الذين حكمت عليهم ظروفهم بالعصبية، والتهور، فما كان منه إلا أن تركني جانباً وأعطي الأوامر بالتحرك إلي منازل العائلة الأخرى، والتفت إلي ثانية، وقال كان معهم طبيب يطلق النار وما في حد أحسن من حد، فصرخت به قائلاً إذا كان طبيباً أخطأ التقدير ،فلا يجوز أن تفعل مثله، ولم يستجب، وركبوا سياراتهم، وهو في مقدمتهم، وانطلقوا للقتال.

عند ذلك، غادرت أنا وصديقي إلي بيوتنا، وفي الطريق أخذ صديقي يضرب كفاً بكف، ويقول ماذا جري؟ لسنا وحدنا كمجتمع فلسطيني تنتابه الحالة المتوحشة، فهذا ابن أمريكا، الذي تعلم الحضارة الغربية، ويحمل شهادة الدكتوراه، وفي العائلة الأخرى طبيباً تعلم في روسيا يهاجم بيت عربنجي ويطلق النار ويضرب مع الضاربين.
فقلت نعم هذه كارثة، أن يصبح البروفيسور والطبيب كليهما رئيس عصابة وذهبوا ليقتلون من أجل حمار .!!!!

أين العلم؟ الذي يقول عنه الدكتور جابر عصفور في كتابه" حلم الدولة المدنية"، "بأنه يخلق في الإنسان قلباً نقياً، وروحاً مستقيمة، ويجعله ظافراً بكل الصفات الصافية، وفاخراً عن كل ما يشين الجوهر الإنساني ، ولا يترك سبيلاً إلي التفكير في الأمور الدنية، والآمال المنحرفة وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر، وعليه تبني كل دعائم التوحش".
وأخذت أتساءل بصوت عال مع صديقي ، كم هي السنوات التي يقضيها الإنسان من عمره حتى يصبح طبيباً، أو بروفسورا، وكم من جهد يبذل، وكم من تكاليف تدفع طوال مدة تعليمهم، من المدرسة، وحتى، الجامعة ناهيك عن الغربة المرة ، فيرد علي صديقي ما بين عشرين وخمس وعشرين سنة قضاها هؤلاء، لينتهي بهم المآل إلي رئاسة عصابة للقتل من أجل الحمار.

أين هي الطريق يا شعبنا ؟ العقل أقوي من كل الأسلحة. عودوا إلي رشدكم والعود أحمد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى