الأحد ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم صبري هاشم

برق في صدر النادل

من عناوين حانة القصب

1 ـ كلّما أتينا الماء صهل النهر

تفضّلي هو بيتي الذي شيدته بيديّ.. هو بيتي يزخرُ بالعطاء.. على الطريق أقمته، بكلّ الندى، للقادمين من أعالي أكتاف الضياع.. على ضفّة نهر شيدته للمتعبات العابرات مع الموج.. عند ملتقى الرياح.. ما بين سبأ وتدمر.

تفضلي هي من بيتي تخرج حرقة الأنفاس. هو بيتي يعبق به الطيب كلما اشتاقت له امرأة وكلما اشتاق للنساء.. شُيِّد من عذوبة الجوز وحلم الكستناء.. من جَفْلَة الصندل ولوعة الأبنوس.. من رائحة التاريخ وأنفاس المساء الكريمة. حوله إنْ عصفت ريح لا طير يغادر المائدة وإنْ غدر به نهر لا تندثر إليه السبيل. هو بيتي يستقبل القادمين بالغناء، وبأطواق الزهر يأسر الصبايا.

تفضلي هو بيتي الذي أيقظ في صدر زنوبيا الحنين فجاءته عارية بمركبة ملكية فاجرة الصدر.. فيه اعتصمت زمناً وغادرت تجرّ وراءها ثوباً من نسيم.

تفضلي يا سيدتي هو بيتي الذي نزعت بلقيس، بالنورة فيه، شَعراً فاحشاً ولسليمان أرسلت على جنح الخصام خاتماً غامض المعنى. هو بيتي الذي تشرق في سمائه فاطمة كلّ مساء.

تفضلي

تفضلي

يا سيدتي

2 ـ الطبل

هذا الطبل خُذْه فهو عذب الإيقاع حلو الصحبة.

هذا الطبل من صمت الدار لا يحتلّ شيئاً.. ومن فضائها لا يسكن مكاناً.

هذا الطبل من دون الآلات رعيته.. من همسي غذيته، برقتي طوقته ومن طيبي نفحته.

خذه..

هذا الطبل لن تجد مثله.

هذا الطبل جميل.

قالت بائعة شقراء في متجر تبيع موسيقى الريح. تبيع الآلات. قالت بائعة كالشمس :

لا تتردد يا سيدي فأنا، مراراً رأيتك تتعشقه من وراء واجهة.

وأنا رأيتك تطعن بعينيك راحة الزجاج.

خذه ولا تتردد فهذا الطبل عندي مدلل.

لكن ما عيبه يا سيدتي الفاتنة؟

من فم الشمس نطقت : عيب وحيد يا سيدي

ما هو يا حلوتي؟

هذا الطبل ينمو.. كالإنسان يكبر.. هذا الطبل الصغير ينمو كالصبيان

احذر يا سيدي وحاول أن لا تمنحه حجماً أكبر فهو ضئيل

احذر.. احذر لئلا يكبر

وإن كبر الطبل فقد صوته الجميل

خذه لكن احذر

ولتعلقي به أخذته.. في الحافلة إلى جواري وضعته

رأيتُ منه تململاً. قلتُ ربما سئم المجلس.. إليّ رفعته.. في حضني وضعته.. لكنه نهض واستنكر

على رأسه مررتُ بحنوّ يدي، إنما أبى واستكبر.. نقرتُ على وجهه.. سمعتُ صوته تغير

الطبل من صوته العذب يفقد شيئاً وصار حجمه يكبر

الطبل.. الطبل.. ماذا أفعل؟

حذرتني البائعة ولم أحذر

صار يخنّ ويتضخم.. الطبل يا سيدتي تضخم ومن إيقاعه الجميل لم يبق شيء. قبيل البيت فقدتُ قدرتي على حمله فتركته لرغبة الطريق بلا صوت.. بلا رغبة أو حذر.

3 ـ حمّامنا شجرة الكستناء

نزلنا، مثل غجر هبطوا من السماء، على ضفّة جدول. في ظاهر المدينة نصبنا الخيام نحن القبيلة السوداء.. قبيلة الخمرة والنساء وعبر الماء صادفتنا شجرة الكستناء. كانت ضخمة، عظيمة، مجوّفة الجذع، فعملنا من تجويفها حمّاماً لنا.. به ننزع وسخ الأيام ونتدثر باللذة. أثثنا الجدران ورفعنا عليها المرايا ثم فرشنا الأرض بحصباء ملونة أهداها لنا الجدول حين آخيناه وحين ألفَنا واطمأن لنا. كنّا ندخل فرادى أو إنْ شئنا ندخل أزواجاً، نساء ورجالاً فتهمس المرأة منّا في منتصف رجل غيور وينفخ الرجل منّا بمنتصف امرأة من نار. كنّا أزواجاً تحرسنا المرايا وبعض الجذور النافرة من أصل الجذع. كنّا فرادى نتمرأى خلف أستار الريح. مرّة دخلتُ وحيداً فرأيتُ المرايا تتعرّى مثلي ورأيتُ المرايا تلهث مثلي ورأيتُ المرايا تشتاقني. مرّة دخلتُ المرايا فرأيتُ الأجنة تعبث بالحصاة وترشق برفيفها وردة الماء. مرة كنّا نتجوّف مثل جذع الكستناء فتدخلنا المرايا كالنساء. نحن القبيلة السوداء نرتشف من عيون الليل عشقاً ونُدفع للنماء.. نحن القبيلة السوداء، الهابطة من السماء كالغجر لا نعرف إلاّ الرحيل والغناء.

4 ـ قصتنا مع الفأر

هُتكتْ مأربُ، فالفأر خرّب السدَّ، والسدّ دمّر حقولنا الخضراء.

فاض الماء.

إلى أعالي السماء طاردَنا الفأرُ

إلى صيحةٍ في رأس الجزيرة

نحو لوثة القمر

في تلك الأيام شرّدنا الفأرُ

وصرنا في بلادٍ لأبناء عمومتنا

ما بين نهرين أو ما بين جرحين

أنخنا الجِمال.. صرنا في جنح الهلال أو في شوق الخصب.

إنّا صرنا في شتات وإنْ رضعنا من أثداء نوق الشام وأكلنا من تمر نخل العراق.

الفأر العاشق يعرف عنّا ما يعرف الماء الساكن خلف السدِّ.

الفأر الفاسق هاجمنا في تلك الأيام

وبنا استبدَّ

الفأر النابح وراءنا مازال يطاردنا

حتى هذه الأيام

حتى هذه الأيام

يطاردنا الفأرُ.

من عناوين حانة القصب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى