الثلاثاء ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

هُنَّ … هُنَّ

لم تمضِ أيام ثلاثة على انسحاب دبابات الغزاة من نابلس حتى رأيتهن.
أخذت في اليوم الأول أجوب شوارع المدينة لأشاهد ما خلفه الغزاة من دمار. رأيت مباني كثيرة قد هدمت. رأيت الشوارع التي خربت أرصفتها يملؤها الطين والغبار. أبصرت صور الشهداء القدامى ولم أبصر، في اليوم الأول، صور الشهداء الجدد، الشهداء الذين ودعوا الحياة في ربيع 2002، فلم يكن الوقت، بعد، يسمح بتعليق صورهم، وهذا ما تم بعد أربعة أيام تقريباً.

نظرت في اليوم الأول، إلى بنطالي وحذائي فأبصرت الطين عالقاً بهما، وحين عدت إلى منزلي نظفت ما علق بهما من طين، ودلفت إلى الحمام لأغسل رأسي وجسدي مما علق بهما من غبار.

وكان منظر المدينة محزناً ومؤلماً. ومن يقدر قيمة المدن التاريخية ونابلس منها، يتحسر على نابلس، عدا تحسره على الشهداء، مرتين؛ مرة على المباني التي يحتاج ترميمها إلى ملايين الدولارات، ومرة على المباني التي ستفقد شيئاً من بريقها التاريخي. وكنت أتحسر على المدينة مرتين.

لم تمض أيام ثلاثة على انسحاب دبابات الغزاة من نابلس حتى رأيتهن. على ساحة الدوار رأيتهن. كانت الفصائل الوطنية تلملم جراحها وتعلن أنها هزمت، ولكن الاحتلال لن يقضي على الإرادة الوطنية.

ولم ألتفت كثيراً للشعارات التي انطلقت من صوت شخص يقبع داخل سيارة ( فولكس فاجن )، الشعارات التي توقفت للحظات، ربما لخلل فني ألم بـ ( الميكروفون ). والتفت إليهن. أبصرت وجوههنّ. رأيتهن. هنّ هنّ. وتذكرت بائع الحلوى في السوق الشرقي. تذكرت عباراته يخاطب أهل الريف طالباً منهم أن يشتروا الكنافة: " إلكم .. إلكم " اشتروها اليوم قبل الغد، فهي لكم أيضاً، هي لكم إن مَرَّ يوم فهي لكم، وإن مرّ أسبوع فهي لكم أيضاً. هذه الكنافة خصيصاً لكم.

على ساحة الدوار رأيتهنّ. رأيت نساءً في الخمسينات أو يزيد عشراً. رأيت بينهن نسوة ارتدين الجلباب الشرعي، وهذا ما أخذ يبرز منذ عشر سنوات بروزا لافتاً. رأيت صبية صغيرات السن، وغالباً ما كانت صغيرات السن حاضرات، غلباً ما كن حاضرات منذ خمس وعشرين سنة، لكن أكثرهن كن يغبن، ربما لأنهن تزوجن، ربما لأنهن تركن اليسار الذي انتمى إليه المئات للحظة عابرة، وربما كن – أي الصغيرات – يساريات عابرات. وأكثر الحاضرات كنّ هنّ هنّ. هن اللواتي أراهنّ منذ خمسة وعشرين عاماً. وهمست، وأنا واقف على الرصيف: غدا، بعد عشر سنوات، من سيخلفكنّ؟
رأيتهنّ وأنا أمعن النظر في الخراب الذي خلفه الإسرائيليون وراءهم. الدمار متعدد الأشكال. سحق الأرصفة. تحطيم اللافتات. اقتلاع الأشجار. انتزاع حديد السياج. تدمير بعض المباني. كسر بعض أبواب المحلات. ومنذ خمس وعشرين سنة أراهنّ في المظاهرات. منذ انتفاضة الطلبة في عام 1976 حتى مسيرات ما قبل الاجتياح 2002.

أراهنّ، وأنا أشارك معهنّ، من قريب أو بعيد، في المظاهرات، مشاركة عابرة. نسوة متعلمات. بعضهن عوانس. بعضهن متزوجات لم يخلفن. بعضهن مثقفات تعرفت إليهن في الندوات التي كانت تقام في المراكز الثقافية في المدينة، الندوات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. بعضهن انحدرن من أسر برجوازية معروفة في المدينة، وبعضهن انحدرن من أسر فقيرة أثبت أفرادها أنفسهم من خلال التعليم. وأنا على الرصيف أنظر إلى المتظاهرين والمتظاهرات تذكرت ما قلته، ذات يوم، لبعضهن؟ كنت يومها، أنهيت محاضرة حول صورة الأنا والآخر في الأدبين الفلسطيني والعبري، وأخذت أحتسي الشاي معهن. قلت لهنّ: ليحفظكنّ الله، ليحفظكنّ الله ذخراً للمدينة، فماذا إذا امتد بي العمر عشر سنوات. هل سألقي محاضرة عامة في المدينة؟ هل سأجد من يدعوني؟ وإذا وجدت من يدعوني فهل سأجد من يصغي إليّ؟ أنتنّ. انتن. ولا أحد يأتي إلى المحاضرة سواكنّ. لا أحد يشارك في المظاهرات، من نسوة المدينة، غيركنّ. أراكنّ في المحاضرات. أراكن في الاحتفالات الجماهيرية، ولا أرى، إلا نادراً، غيركنّ. ومنذ توفيت فلانة وفلانة بدأ عددكن يتضاءل. رحمة الله على فلانة وفلانة وفلانة. كن دائماً يأتين. لقد فقدت المدينة، بغيابهن، معالم ثقافية بارزة. لقد فقدت نسوة متعلمات يجادلن في الأدب والسياسة.

لم تَمْضِ أيام ثلاثة على انتهاء احتلال المدينة حتى رأيتهن. يسرْنَ خلف الرجال. كأن المجتمع ما زال منقسماً إلى عالمين: عالم الرجال وعالم الحريم. ثمة تحرر جزئي. ثمة إنجاز نسوي، ولكنه ما زال أسير عالم مضى. عالم كتبت عنه ابنة المدينة الشاعرة الكبيرة في سيرتها. الرحلة جبلية وصعبة. خرجت المرأة بعد نكبة 1948 من قمقمها ولكن خروجها ما زال خروجاً جزئياً. هكذا تقول لك المظاهرة. هكذا يقول لك استقلال الحافلة. تجلس المرأة إلى جانب المرأة. يجلس الرجل إلى جانب الرجل، وحين تصعد امرأة إلى الحافلة وتجد رجلاً هنا ورجلاً هناك تطلب من أحدهما أن يترك مقعده ليجلس إلى جانب الآخر حتى تجلس هي وتجلس امرأة إلى جانبها. يسرن خلف الرجال الذين يسيرون منذ خمسة وعشرين عاماً أو منذ عشرة أعوام، فالأخيرون عادوا إلى فلسطين منذ اتفاقات ( أوسلو )، وأخذوا يسيرون في مظاهرات نابلس ومسيراتها، بعد أن كانوا يسيرون في شوارع بيروت أو دمشق أو عمان. وأغلب الرجال من بقايا اليسار. أغلبهم تخلى عن منظمته أو حزبه أو تنظيمه، ولكنهم ظلوا قريبين من البقايا. يسرْنَ ويسيرون. يسيرون في مسيرة تضامناً مع أسرى لم تطلق السلطات الإسرائيلية سراحهم. يسيرون في مسيرة احتجاج على قتل قائد أو مناضل. ينددون معا بالاحتلال. يطالبون بإطلاق سراح السجناء الذين ما زالوا يعانون كما كان بقايا اليسار يعاني.

والنسوة هُنّ هُنّ. يعرفن بقايا اليسار. كان النسوة وبقايا اليسار وبعض أفراد تنظيمات غير يسارية يتهاتفون معاً ليقولوا: ما زلنا على مبادئنا. ما زلنا نمتلك حساً وطنياً. ما زال هناك من يسأل عن هذا الوطن وأبنائه ممن يستشهدون. كأن الجميع يريد أن يقول: خمسة وسبعون شهيداً سقطوا في الدفاع عن الوطن، وهناك في الوطن من يشارك في تشييع الجثامين التي شيعت. أن هناك من يقول للغزاة: ما زال فينا نبض ما، لم تقتلوا منا سوى خمسة وسبعين. والنسوة هنّ كن أيضاً يقلن. كن أيضاً يرفعن الأعلام. كن يرفعن أعلاماً حمراء وأخرى خضراء، وثالثة تجمع الألوان الأربعة: الأحمر والأخضر والأبيض والأسود، ألوانَ العلم الوطني. وكان اليساري الذي يهتف في كل مظاهرة منذ عشر سنوات، كان يهتف للوحدة الوطنية. اليسار يهتف واليمين يستشهد. هذا ما قالته الأحداث الأخيرة. كأن اليسار وغير اليسار من غير اليمين اكتفى بالهتاف، تماماً كما اكتفيت أنا بالإصغاء، والسير أحياناً قليلة جداً في المسيرات. ها هو اليسار وها هي النسوة، ها هُمْ يهتفون ويسيرون في مسيرات استشهاد اليمين.

وها أنا أقف على الرصيف أصغي إلى الشعارات وأشاهد المسيرة لأكتب قصة ما. كان هَتّاف اليسار يهتف للوحدة الوطنية. كان يقر بالهزيمة العسكرية، ويصر على انتصار الإرادة. وكان اليسار الباقي، وكانت النسوة، كانوا يهتفون.

وهَنّ كُنَّ يهتفْنَ. هُنَّ. هُنَّ. وقد زدْن نسوة قليلات العدد ربما كنَّ زوجات شهداء اليمين. ربما كنَّ أخوات الشهداء. كنَّ يسرن في شوارع المدينة التي ما عادت شوارع، شوارع المدينة التي دمرتها دبابات الاحتلال كما دمرت الأرصفة واقتلعت أشجار الزينة التي أعتقد أنها تقض مضاجع اليهود الذين يصرون على أنه حيث يوجد العرب توجد الصحراء، وأن الخضرة هي، في فلسطين، من ثمار اليهود الذين حولوا الصحراء إلى جنة.

ولم تلتفت بعض النسوة إلى أنهن أخطأْنَ وهنّ يرتدين اللون الأسود. لعلهن لم ينظرن إلى رجالهن وهم يعودون من شوارع المدينة في اليوم الأول بعد انسحاب الغزاة، لعلهن لم يلتفتن إلى رؤوس الرجال وملابسهم وقد شعَثها الغبار الذي سيغبّر ملابسهنّ. وكن يسرن. كن يهتفن. كان سيرهن يعبر عن إرادة وعزيمة. كأن هتافهن سيثقب آذان الجنود الذين ما زالوا قابعين على قمتي جرزيم وعيبال، الجنود الذين يقولون دائماً: لا تظنوا أن مدينتكم محررة، إنها ما زالت محتلة وها نحن هنا. ها نحن مسمار جُحا.

وكنت أقف على الرصيف، رصيف الدوار الذي لم يعد دواراً ولم يعد رصيفُه رصيفاً. كنت أقف أراقب المسيرة وأراقبهن. هنّ هنّ. وكنت أعرف أكثرهن. منذ خمس وعشرين سنة وأنا أعرف أكثرهن. يأتين حين تكون هناك جلسة، يوم الخميس، لمناقشة كتاب ما، في مقر وكالة الغوث، حيث نكون خمسة ذكور وثلاثين امرأة. يأتين حين تلقي فدوى طوقان قصائدها. نكون عشرة رجال ومائة امرأة. يدعون الله أن يمد في عمر الشاعرة التي يشنّف صوتها آذان الذكور وآذانهن. يأتين حين تكون هناك ندوة عن العولمة. حين يأتي شاعر عاد لتوه من المنفى، حين يتحدث روائي عائد عن تجربته الروائية. يأتين حين تُناقش كاتبة في مجموعة قصصية أصدرتها حديثاً، كاتبة هي واحدة منهنّ. يأتين حين ألقي محاضرة عن الأنا والآخر في الأدبين العربي والعبري. يأتين هُنّ هُنّ. منذ خمسة وعشرين عاماً هُنّ هُنّ.
وهُنّ، هُنّ نسوة برجوازيات أو نسوة متعلمات مثقفات يشاركنَ في النوادي الاجتماعية أو في مراكز نسوية. هنّ نساء هتفن لجمال عبد الناصر وأحببن شاعراً وطنياً حتى أن إحداهن، كما حدثتني غامرت وسافرت إلى مصر يوم هاجر الشاعر من حيفا إلى مصر. كانت أحبته من بعيد، وحين عاد أهدته باقة ورد تعبيراً عن حب خفي لم تفصح عنه. هكذا باحت لي ذات محاضرة لتعلن عن جنونها زمن الجنون الذي ولّى.

وهُنّ غَيْرُ هُنّ. وَهُنَّ الأخريات كنَّ يملأن بيوت المدينة. يتزوجن وينجبن ويغدون جدات. ينظفن البيوت ويجدن طبخ العكوب وصنع الكنافة، وهؤلاء اللاتي يخرجن من بيوتهن، كنّ أيضاً يسرن في شوارع المدينة. كنَّ يسألن عن أسعار البطاطا والبندورة وأسعار الذهب، وكنَّ يسألن أيضاً عن أدوات زينتهن، ولم يكن يسألن عن المسيرة، فالمسيرة لا تشغل بالهن وتفكيرهن. وحين مرت بي إحداهن سألتني لماذا لم أذهب لزيارة قريبها حتى أهنئه بالسلامة. ولم تسألني لماذا لم أشارك في المسيرة، لماذا أنظر إليها عن قرب.
من على الرصيف الذي ما عاد رصيفاً، الرصيف الذي أفسدته الدبابات، كنت أراقب المسيرة. وكانت النسوة يهتفن. وكانت المدينة تلملم جراحها. كان التجار ، يحصون خسائرهم، وكان المصورون يصورون ما خلفه الغزو من دمار. وكن يبتعدن، وكانت أصواتهن تعلن: وحدة وحدة وطنية. وكنت أسأل نفسي: من سيشارك، بعد عشر سنوات، في المسيرات الوطنية. وحين اختفين كانت المدينة تلملم جراحها. كان الباعة يبيعون، وبعض أصحاب المحلات ينظفون محلاتهم مما علق بها من غبار، ويصلحون الأبواب التي دمرت والزجاج الذي تكسر، وكنت أهمس: ما زلن هنّ هنّ!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى