الخميس ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
عندما يتحول النقد الى جعجعة بلا طحين
بقلم عيسى شريط

انطباع حول ظاهرة المصطلحات التصنيفية للأعمال الروائية

يحدث في الساحة الأدبية الجزائرية أحيانا، جدال حول جملة من المواضيع عديمة الأهمية في جوهرها، ولكن الجدال الحاصل حولها يحفها بكل أهمية الكون لتأخذ لها أبعاد القضايا الأدبية الحقيقية، على الرغم من أنها قضايا مزيفة، كموضوع "سرقة العناوين" مثلا، الذي عرى نرجسية مفرطة يعاني منها بعض كتابنا الذين كنا ومازلنا نعتبرهم رواد بعض الأجناس الأدبية في الجزائر..والغرض المستهدف من هذا الجدال لا يتعدى هاجس الهيمنة على الساحة عبر الوجود الإعلامي والجسدي فقط والغياب شبه الكلي للوجود النصي..وغيرها من المواضيع التي تفتقر الى الأثر الإيجابي والنافع للفعل الأدبي..من بين هذه المواضيع التي انحرف الجدال حولها الى مستوى اللجاجة التي لا فائدة منها ترجى سوى الجعجعة الجوفاء، وهو موضوع ما يسمي بالأدب الاستعجالي..

سيقتصر رأيي حول هذه القضية المزيفة على مجرد الانطباع بعيدا عن أي طرح أكاديمي لا يستخلص منه سوى الكثافة الاصطلاحية.. الأجيال الراهنة من الكتاب في كل المجالات الأدبية وأجناسها، أكدت حضورها بشكل ملفت للانتباه ومحيّر أيضا، لم تعرف مثله الساحة الأدبية الجزائرية عبر كل مراحلها، وهذا الوجود تجسد عبر فعل الكتابة بغض النظر عن جودة العمل أو رداءته..فعل الكتابة الذي كان يغط في سبات عميق، لم يعرف انتعاشا مكثفا مثلما عرفه عبر أقلام كتاب الراهن، وهي ظاهرة صحية تستدعي الدعم والتشجيع، لأن أثرها على الفضاء الأدبي لا يمكن أن يكون سوى إيجابيا، وذلك لما يمكن أن تتيحه من بروز أقلام قد تكون لها الريادة وشرف تمثيل الأدب الجزائري في المحافل العربية والدولية..

مصطلح "الاستعجالي" ظهر ليلصق بحقبة زمنية محددة، وهي الحقبة الإرهابية في اعتقادي، وكل ما كتب من أعمال أدبية تمحورت حول الظاهرة صنف ضمن هذه الخانة، وهو تصنيف مجحف في حق فعل الكتابة أولا، وفي حق ما كتب ثانيا، هذا إذا ما نظرنا الى ما كتب ولو من الناحية التأريخية، فمثل هذه الأعمال إذا ما افتقرت الى الجودة الجمالية والفكرية، فيكفيها شرفا أنها أرّخت للظاهرة أثناء حدوثها، والفعل التأريخي في هذه الحالة يكتسي بكل الصدق الكوني، هذا فضلا على أهميتها فيما توفره من مادة تاريخية قد يستند عليها مستقبلا فيما يلتصق بدراسة الظاهرة وأثارها لاجتماعية والنفسية على الإنسان الجزائري.. ولو حاول الروائيون التطرق الى الظاهرة الآن أو مستقبلا، روائيا أو قصصيا، فستفتقر أعمالهم يقينا الى عامل الصدق..وإذا سلمنا بأن كل الأعمال الأدبية الراهنة سواء تطرقت للظاهرة الإرهابية أو لظواهر أخرى، تتسم بالاستعجالية، بمعنى أنها كتبت بسرعة دون مراعاة البناء الفني والسردي المتأني الذي عادة ما تتطلبه الكتابة الروائية على الخصوص، فستظل أعمالا روائية تتوفر على كل عناصر الرواية من شخوص ومواقف وأحداث ووجهات نظر، حتى يثبت العكس، ولا شيء يؤخذ عليها سوى توفرها على عنصر الجودة أو لا..

وقد يستخلص من كلامي هذا أنني أزكي هذا التصنيف أو المصطلح "استعجالي"، وهو مصطلح معروف لم يبتدعه الناقد والكاتب الجزائري، إنما ظهوره الجزافي والآن تحديدا، يواري خلفية مبيتة تسعى الى التقليل من أهمية الأدب الجزائري الراهن، ومنه تقزيم الروائيين، وفي هذه الحال لا يمكن تزكية هذا المصطلح أو غيره من المصطلحات التصنيفية التي تسعى الى محو أي مجهود فكري وإبداعي مهما بلغ من الجودة أو الرداءة ..

أما التقليل من أهمية الأدب الجزائري الراهن، فيواري بدوره خلفيات أخرى، لعل أهمها هو تكريس ظاهرة "الأبوسية" ما ينجر عنها من سلوكيات مجحفة في حق أجيال كاملة من المبدعين ومن النصوص الرائعة، أهمها الجحود والاحتكار والإقصاء الناتجة عن هواجس وجودية من جهة، وهواجس اليأس والانطفاء إبداعيا من جهة أخرى، ذلك ما يدفع بشكل قهري الى محاولة شطب نصوص روائية وقصصية متميزة في اعتقادي، أسلوبا وبناء ومعالجة انطلاقا من زوايا رؤى مختلفة تماما ومتجاوزة للموروث والمألوف أحيانا..واليقين أن ما قيل وما يقال عن الرواية الراهنة يستند على الخلفية الشخصية، وعن توترات قهرية يعاني منها القائل تتلخص فيما ذكر سالفا، هي طبيعة الناقد الجزائري الذي يرمي آراءه هكذا جزافا وتعميما دون قراءة الأعمال المنشورة كلها، بل يكتفي بقراءة نص يتيم ويؤسس عليه بعد ذلك نظرياته وآرائه النقدية القامعة والشاطبة لمجمل ما كتب متناسيا ما كتبه هو شخصيا، والذي إذا ما قرن بنصوص أخرى تتجلى واضحة دوافع أحكامه المغالية، ذلك بكل بساطة، أن أعماله لم ترق الى مستوى إبداعات كتاب الراهن من حيث الجرأة النقدية الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، ومن حيث توفر عنصر الفن الذي هو أساس الكتابة الروائية..أيعقل أن تشطب هكذا نصوصا رائعة في اعتقادي، تضمن للقارئ عوامل المتعة والدهشة والزاد الفكري والمعرفي، واكتشاف خبايا عوالم ممتعة وغامضة، هذا ما وقفت عليه أثناء وبعد قراءتها، (عيون الليل) لجيلالي عمراني مثلا، (قضاة الشرف) لعبد الوهاب ببن منصور، (حروف الضباب) للخير شوار، (في الجبة لا أحد) لزهرة ديك، (مدار البنفسج) لمحمد زراولة، وغيرها من النصوص التي تعكس موهبة كتابها، وقدراتهم الإبداعية والذين اجتهدوا على تجاوز المألوف والموروث الروائي الذي أتت على جمالياته الظاهرة الإيديولوجية؟..كان الأجدر بأصحاب هذه الآراء الجزافية التريث وتوجيه الشكر الى روائيي الراهن على محاولاتهم وجرأتهم واجتهادهم مما يحفزهم على المثابرة والكتابة أكثر - فالطبيعة لم ولن تعرف مولودا يولد كبيرا- بدلا من تقزيم نصوصهم بل وحتى شطبها، وهو فعل مثبط لا يثير في الكتاب المعنيين سوى السخرية وخيبة الأمل، لأنهم يدركون جيدا، أن ما يفعلونه يندرج ضمن الاستمرارية الطبيعية للأشياء والظواهر التي تنحاز الى التغيير تطورا أو تخلفا شئنا أم أبينا، تلك هي سنة الحياة ...

أما تقزيم روائيي الراهن، فذلك لا يندرج إلا ضمن الصراع على المواقع، وهو سلوك موروث لدى الإنسان الجزائري الذي لا يؤمن كثيرا بالديمقراطية، وتتابع الأجيال، وبالتالي لا يعترف بالفعل الإبداعي.. نحن عملنا دوما على تقدير أصحاب هذه الآراء المجحفة وتمجيد أعمالهم- والتي فيها ما يقال- وعلى تنصيبهم دائما في رتبة الرواد، ولم يتجرأ أحدنا على التطاول عليهم، بل نصر على تكريمهم وتفضيلهم، ولكنهم يرفضون معاملتنا بالمثل ويصرون على اعتبارنا منافسين لهم وهو أمر لا وجود له إلا في أذهانهم ونفوسهم المضطربة بلا سبب، يعتبروننا كذلك وهم يدركون بأننا أكثر الخلق إقصاء من قبل الهيئات الرسمية وغير الرسمية، فلم يشر الى أحدنا ولو بعبارة المجاملة، ولم يكرم أحدنا ولو من خلال إرساله ضمن البعثات الى خارج الوطن والتي لا تنتهي، لمجرد غرض التمثيل، ومعظمنا مدفون فيما يسمى بالجزائر العميقة، فمن أين لنا بقدرة المنافسة؟..روائيو الراهن إذا ما تمكن أحدهم من استقطاب الأضواء، فذلك على استحقاق نتيجة لحضوره النصي المتميز، على الرغم من غيابه الجسدي حيث تمركز الأضواء والإعلام والسلطة والفرص و..و..و...

الجزائر بمساحتها الشاسعة وتنوعها الثقافي تعد قارة قائمة بذاتها، وهي بذلك تتسع لمئات الروائيين ولا يمكن أن تضيق بهم، ولا يحتاجون في هذه الحال الى ظاهرة المنافسة، والغريب أن عدد الروائيين في الجزائر يعد على الأصابع، خصوصا روائيي الراهن، فما مبرر كل هذا السعي الى مصادرة مواهبهم الإبداعية؟..حين قرأت رواية (قضاة الشرف) ثم رواية (فصوص التيه) لعبد الوهاب بن منصور، وقفت أمام أسلوبها وبيئة أحداثها وشخوصها، مندهشا لما تشكله بالنسبة إلي كل هذه العناصر من غرابة، فأنا أجهل تماما بيئة الزوايا وطقوسها وأبعادها التصوفية و"طرقيتها"، وحده (عبد الوهاب بن منصور) مكنني من الاطلاع عليها واكتشاف خباياها وكواليسها، من هنا تيقنت أن فعل التنافس لا يمكن أن يحدث بين الروائيين فلكل عوالمه وتجاربه الحياتية والبيئة والثقافية، بل اليقين أن الروائيين يكلمون بعضهم بعضا لما يشكلونه من فسيفساء ثقافية وإبداعية عبر مختلف إبداعاتهم..

صنفت أعمالي الروائية من قبل بعض الصحافيين بأنها "روايات شعبية" ولست أدري من أين لهم بهذا المصطلح، وسرعان ما أدركت بأنها "خرجات" تندرج ظاهرة التصنيف التي أخذت لها بعد "الموضة"، وصرحت عبر لقاء لي بصحيفة يومية معتمدا مبدأ "الفرزدق" (علي أن أقول وعليكم أن تؤولوا)، عليهم أن يصنفوا ما نكتب بما يحلو لهم (استعجالي، شعبي، جماهيري، تراثي..) ولكنهم لن يتمكنوا من شطبها من خلال محاولتهم الإيحاء بأنها ليست أعمالا روائية، ستظل أعمالا روائية رغم اصطلاحاتهم الجوفاء، وسوف يولد منا كتابا يحيرون الدنيا بأعمالهم...

هذا مجرد انطباع حول ما سمي بالأدب الاستعجالي، أردت من خلاله المساهمة في النقاش الحاصل بعيدا عن أي تموقع أو خلفية مبيتة، إنما بدافع رفع الالتباس وإحقاق الحق معتمدا القاعدة التي تقول لمن أحسن أحسنت ولمن أساء أسأت...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى