الأحد ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

التقدم والتغيير في السياق العربي والإسلامي

إن موقف السلفيين الذين يعتقدون بأنه لا يمكن تحقيق النهضة إلا بالرجوع إلى التراث الثقافي الحضاري العربي الإسلامي وموقف دعاة الحداثة الذين يعتقدون بأنه لا يمكن تحقيق تلك النهضة إلا بالاستناد إلى الثقافة الغربية الحديثة موقفان يتسمان بالثنائية الفكرية ويقومان على قاعدة استبعادية حصرية. وأحد أسباب هذا الاستبعاد هو عدم الاطلاع الكافي على وجوه التراث العربي الإسلامي ووجوه الحضارة الغربية.
ومن الممكن الجمع بين جوانب من جوانب التراث والحداثة. ومما يسهم في تأكيد هذا القول هو أن هذين المفهومين مستمدان من حياة الإنسان وواقع المجتمع اللذين لهما سماتهما ومتطلباتهما الثابتة مهما كان اختلاف الظروف. والرأي في عدم إمكانية الجمع يدل على نقص الإحاطة بكل جوانب التراث والحداثة. وليس من الغريب الجهل بهذه الجوانب، إذ لا احد يعلم بهذه الجوانب كلها، وخصوصا في تفاصيلها ودقائقها.

ارتكب عدد من المتناولين لموضوع الحداثة الخطأ بالقول أن هناك نمطا واحدا للحداثة، وإن الشعوب حتى تصبح حديثة ينبغي لها أن تتبنى ذلك النمط. لقد كان ذلك النمط نابعا من التجربة التاريخية الاجتماعية الغربية. وبالتالي، لم تكن كل عناصر ذلك الطراز موضوعية، بل ضمت عناصر ذاتية نابعة من خصوصية التجربة الغربية. ولا يراعي ذلك الطراز الخصوصيات التاريخية الاجتماعية للمجتمعات غير الغربية. وأثبتت عمليات التحديث في عدد من المجتمعات غير الغربية أنه يوجد اكثر من نمط واحد للحداثة. يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية أن تدخل تجربة الحداثة دون أن تتبنى كل سمات طراز الحداثة الغربي.

ولا يعني التحديث التغريب، أي الأخذ بالطراز الغربي للحداثة رغم وجود بعض وجوه الشبه بين التحديث الغربي والتراث العربي الإسلامي. وليس من السليم من المنظور الثقافي والقومي التخلي عن السعي إلى تحديث مجتمع من المجتمعات لمجرد شعور أفراده بالإحباط بسبب سياسات الغرب وثقافته. وذلك لأنه جوهريا لا علاقة بين التحديث وسياسات الغرب. ومن غير السليم جعل موقفنا من التحديث أو سلوكنا حياله أو ردنا عليه متوقفا على طبيعة علاقاتنا بالغرب وعلى نوع السياسات التي يتخذها الغرب تجاه الدول العربية والإسلامية. فلا علاقة بين التحديث والحاجة إليه واستصواب تبنيه، من ناحية، وطبيعة العلاقات بين الدول النامية والدول المتقدمة النمو، من ناحية اخرى. إن جعل سلوكنا حيال التحديث متوقفا على طبيعة علاقاتنا بالغرب من شأنه أن يعني أو أن يتضمن اعتبار التحديث تغريبا أو تبنيا للطراز الغربي، وذلك الاعتبار خاطىء كما أسلفنا.

ويعتبر كثير من الناس الثقافة أنها التعبير الخارجي عن حالة النفس الداخلية وأنها تصلح لأن تكون مؤشرا على حالة الشعب الروحية. وللمفاهيم في شتى المجالات ديناميتها، لأن تلك المفاهيم متفاعلة فيما بينها ويحدث تفاعل بينها وبين العقل في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية المتغيرة المتفاعلة مع العقل والثقافة.

والحداثة عندي هي الانفتاح العقلي على المحيطين الاجتماعي والاقتصادي، والاستعداد النفسي والعقلي للحوار البناء معهما. ومقياس الحداثة هو مدى هذا الانفتاح والاستعداد. الحداثة هي الوعي بحركة أو دينامية المفاهيم. ومن أدوات الحداثة النقد الفكري والفلسفي.

لقد أدي كثير من الأفكار والقيم الغربية التي دخلت المجتمعات التقليدية والنامية إلى هدم أو تغيير قسم من البنى الفكرية والموقفية (attitudinal) والسلوكية أو إلى تشويش سلاسة أداء تلك البنى لوظائفها. وقد أسهم هذا الهدم والتغيير في منع استمرار التطور الاجتماعي السلس العادي الطبيعي لتلك البنى. وأدى هذا المنع وما يزال يؤدي في حالات كثيرة إلى ردود فعل عكسية.

يرى بعض المحللين للواقع العربي أن التقدم يكمن في القفز على الواقع وعلى التاريخ، لا في التعامل مع الواقع وحاجاته. غير أنه لا يمكن تحقيق التقدم الذي ينشده الناشدون منا في مختلف مناحي الحياة إلا بالتعامل الموضوعي والهادف والنقدي مع واقعنا وبتحقيق شروط، على رأسها تحقيق الحرية: الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية، حرية الفرد في قراره واختياره وأفعاله، وذلك في نطاق القيم العليا التي يأخذ بها المجتمع ومصالحه. وتتضمن هذه الحرية التحرر من القيود الفكرية، من التقييد الذي يفرضه علينا الذين انتحلوا لأنفسهم صفة المفسرين والمقررين لحدود حيزنا الفكري في مختلف مجالات الحياة. إن التقييد الفكري يزيل إمكانية الإبداع الفكري الضروري لتحقيق التقدم. فإحراز التقدم يتطلب توفر القدرة الفكرية على التصدي لحالاتنا الإشكالية التي تمنعنا من السير قدما بحياتنا وكياننا وعلى تشخيص أدوائنا وعلى القيام بعلاجها. ولن تتوفر هذه القدرة الفكرية دون تهيئة الحرية الفكرية.
وفي ظل الحالة المتضمنة لعوامل تعيق الإنجاز التام للتقدم يمكن تحقيق قدر من التغير صوب التقدم. وفي ظل الظروف العربية القائمة لا يمكن تحويل الإمكان العربي الحبيس إلى حقيقة واقعة إلا بإزالة العوامل المعيقة للتقدم.

وتحقيق التقدم لدى شعوب العالم الثالث يتطلب إجراء التغيير الثقافي. والثقافة هي طريقة الإتصال والتواصل التي يتبعها البشر وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض وتعاملهم مع الأشياء والمسائل. والثقافة هي أبضا المُثل والقيم التي ينبناها الشعب. وثقافة الشعب مستمدة من الفضاء الثقافي والفكري والقيمي والتاريخي والنفسي والجغرافي لذلك الشعب. وليس من السليم بالنسبة إلى شعب من الشعوب أن تقحم أجواء ثقافة معينة إقحاما على اجواء ثقافة ذلك الشعب. وحدث مثل هذا الاقحام في حالة الثقافة العربية الإسلامية. لقد التقط بعض الليبراليين العرب مركبات ذهنية أو نفسية معينة من فضاء الفكر الأوروبي الحديث وبثوها في الفضاء الثقافي العربي.
ويمكن للتكنولوجيا والمؤسسات، بما في ذلك الدولة، أن تسهم في بناء الحضارة، ويمكن للفرد أيضا أن يكون مسهما في نشوء الحضارة ورقيها. هذه الجهات كلها يمكنها أن تنهض بالحضارة وأن تجعلها تتحرك قدما. وحتى يستطيع العرب ان ينهضوا بحضارتهم ينبغي لهذه الجهات ان تكون جديرة بتحمل مهمة النهوض الحضاري.

والتغيرات التي تجتاح بسرعة العالم كله لا تتخطى ولن تتخطى العرب. وينبغي للعرب أن يُهيؤوا لقبول فقدان بعض العادات والتقاليد وطريقة تناول الأشياء لأن فكرة الفقدان ملازمة للتغيير. ويتطلب التهيؤ الفهم والدراسة والقيام بالتنظيم والإعداد ووضع سلم للأولويات من ناحية الأهداف وطرق تحفيقها.
وتزداد اجزاء العالم ترابطا بعضها ببعض بطريقة الكترونية. ويمكن للعرب ان يروا ما الذي يختفي وينبغي لهم محاولة معرفة الذي سينشأ. وتكمن في عدم معرفة ما الذي سينشأ أو عدم معرفة مآل الأمور معضلة وذلك لأن التغيير والاختفاء يتطلبان بناء الجديد، ومن الصعب القيام بهذا البناء بينما لا يدري المرء ما الذي يختفي على وجه الدقة وما الذي ينشأ وبينما يحيط الغموض بالحياة والأوقات التي يعيشها. والغموض من دواعي الإثارة والقلق دائما. والتحدي الذي يواجهه العرب وسائر الشعوب النامية أكبر لأنهم يخضعون للتأثير والتغيير أكثر من مساهمتهم في إحداثهما.

ومن الجوانب المثيرة والعجيبة لدى البشرية ما يمكنها أن توجده ولم يوجد بعد والقدرة البشرية على استكشاف جوانب من الطبيعة والكون لم يتمكن بشر قبل هذا العصر من استكشافها.
وتعيش شعوب العالم النامي حالة تبعية حضارية للغرب. العرب يستوردون نظم الغرب ومنتجاته. ولكنهم لم يتعلموا أو لم يطبقوا المنهج العلمي الذي أنتج هذه النظم والمنتجات. وحتى يكون لنا إسهام في الحضارة العالمية ينبغي لنا أن نكف عن التقليد وأن ننهج المذهب العقلاني والنقدي إزاء الأفكار والمذاهب الأجنبية.
إن "صدمة الغرب" منذ أواخر القرن الثامن عشر أسهمت إسهاما كبيرا في خلق الوعي بالذات العربية الاسلامية وفي ايجاد الوعي بالحاجة إلى الرد على الوجود الغربي الداهم الغازي وبالحاجة إلى مواجهة السيل الغريي الثقافي الغامر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى