الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم سليمان عبدالعظيم

السيد ناشط والاستنجاد بالجلاد

أثارت الرسالة التي وجهها "مركز الإسلام والديمقراطية" القائم في مدينة نيويورك الأمريكية، ووقع عليها حتى الآن 104 باحث ومفكر عربي ومسلم ينتمون إلى العديد من منظمات حقوق الإنسان، والمراكز البحثية والخدمية الأخرى، إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، الكثير من الاستغراب والدهشة، والريبة والشك في الوقت نفسه. فالرسالة لم تكن من أجل حض الرئيس الأمريكي على سحب قواته من العراق، وعلى ضرورة وقف التعذيب المستمر في كافة أنحاء العراق من قبل القوات الأمريكية الغازية. كما أن الرسالة لم تكن من أجل دعوة الرئيس الأمريكي إلى ضرورة ترشيد مساندته المطلقة للتوحش الإسرائيلي الصهيوني في المنطقة العربية، والعمل على إيجاد حل عادل وإنساني للصراع العربي الإسرائيلي. الهدف من وراء الرسالة كان حض الرئيس الأمريكي على مواصلة تكريس وتدعيم وتعزيز الديمقراطية في العالم العربي، كما وعد سيادته، وكما تشدق في الكثير من خطاباته العبثية.

وإذا كان الأمريكيون أنفسهم يرفضون سياسات رئيسهم الخارجية، حيث معركته الخاسرة في حربه ضد الإرهاب، والتي أدت إلى قتل الآلاف من الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان، إضافة إلى تعميق وتكريس كراهية أمريكا في المنطقة، فإننا في عالمنا العربي والإسلامي نجد من يغازل الرئيس الأمريكي، ويتخيل أنه مناصر للسلام والديمقراطية والحريات المدنية. لا تقف المسألة فقط عند مسألة الغزل، لكنها تتجاوز ذلك إلى الاستجداء والاستنجاد والتحريض على المنطقة بغض النظر عن العواقب المريرة التي نرى نتائجها المأساوية في العراق وأفغانستان.

تناشد الرسالة الرئيس الأمريكي العمل بالأقوال والأفعال على تأكيد التزامه بتعزيز الديمقراطية في العالم العربي، لافتة نظر سيادته إلى ما قاله في خطاب تنصيبه لولايته الثانية أمام الصندوق الوطني للديمقراطية، والذي قال فيه "أن على كل من يرزح تحت الاستبداد واليأس أن يعلم أن الولايات المتحدة لن تتجاهل أوضاعه، ولن تتسامح مع مضطهديه، وأن على كل من يناضل من أجل الحرية أن يعلم بأننا سوف نناضل معه أينما كان". لا تقف الرسالة عند هذا الحد، لكنها تؤكد على ضرورة وقف دعم الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي، تلك الأنظمة التي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية لمدة تتجاوز الستين عاما، الأمر الذي أوصل شعوب المنطقة إلى حالة من الاضطهاد والقمع المفرط من قبل السلطات والنظم الحاكمة في هذا الجزء من العالم.

ورغم أننا لا ننكر هنا الطبيعة الاستبدادية للعديد من النظم السياسية في عالمنا العربي المعاصر، فإن المرء لا يمكنه أن يستسيغ ما جاء في الرسالة، ولا يمكنه أن يقبل نبرة الكذب والتملق التي تجعل من الجلاد الأمريكي حاميا لقيم الديمقراطية والحرية في العالم العربي. فلم تكن أمريكا على مدى تاريخها الدموي حامية لتلك القيم، بقدر ما كانت القوة العالمية الأكثر هدرا لهذه القيم، والأكثر انتهاكا لها. كما أن العالم العربي ذاته لم ير من ولايتي الرئيس الأمريكي الحالي سوى القتل والتدمير والمزيد من قمع الحريات والمعتقلات والتعذيب.

فلماذا يتم هنا الاستنجاد بالجلاد؟ ولماذا يُلصق النشطاء العرب والمسلمون بأمريكا وجها إنسانيا ديمقراطيا لا تمتلكه، وإن كانت تدعيه؟ وما هى حكاية كل هذه المراكز البحثية والحقوقية المختلفة التي تتحدث باسمنا مؤكدة على ضرورة تعزيز الديمقراطية وتحقيق التغيير في عالمنا العربي؟ وإذا كان غالبية هؤلاء المتحدثين باسمنا يقيمون في أمريكا وغيرها من العواصم الأوروبية الأخرى، فما الذي يدفعهم للقلق علينا، والحديث ليل نهار عن الديمقراطية المهدرة في العالم العربي؟ هل هى تلك العلاقات التي تربط المهاجرون بأصولهم وبأوطانهم التي هاجروا منها أم أن هناك أجندات أخرى خفية تؤكد على ضرورة التحوط بنظرية المؤامرة التي يرفضها الكثيرون، ويرون أنها سمة من سمات العقلية العربية المعاصرة في تعاملاتها مع الآخر الغربي، ومن يسير في ركابه؟

جاءت نشأة العديد من هذه المراكز البحثية المختلفة مع انتشار سياسات الانفتاح التي انتهجتها العديد من الدول العربية في السبعينيات، والتي ارتكزت بالأساس إلى تطبيق النموذج الليبرالي الأمريكي في شكليه الاقتصادي والسياسي. وهو الأمر الذي ارتبط بظهور العديد من المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان والمرأة والأقليات، إضافة إلى العديد من المؤسسات والمراكز البحثية الأخرى التي استندت أنشطتها إلى مجالات محدد مثل أطفال الشوارع، وكبار السن، والفئات الأكثر فقرا، والتنمية الريفية، والمناطق العشوائية... إلخ من مثل هذه المسميات التي زادت بشكل كبير، بحيث يمكن القول بأن أى فرد لديه شقة أو حجرة فارغة يمكنه أن يشغلها بيافطة تدافع عن أى شيئ، بغض النظر عن مدى جدية هذا الدفاع، وبغض النظر عن الجهات الممولة.

وربما تمنحنا قائمة بأسماء المؤسسات التي ينتمي إليها الموقعون على الرسالة الموجهة إلى سيادة الرئيس بوش صورة واضحة عن طبيعة هذه المنظمات والمؤسسات والمراكز. وبمقدار ما تثيره هذه الأسماء من الريبة والشك، فإنه تثير قدرا كبيرا من السخرية والضحك حول المدى الذي وصلت إليه هذه الأسماء، والذي يقارب بينها وبين أغاني الفيديو كليب التجارية والمتشابهة في الوقت نفسه.

هناك مراكز ركبت موجة المواجهة الحادثة الآن بين الغرب والإسلام، فأنشأت العديد من المراكز في العديد من العواصم الغربية، الأمريكية والبريطانية منها بالأساس، مثل المركز الذي انطلقت منه الرسالة الموجهة للرئيس الأمريكي "مركز دراسة الإسلام والديمقراطية"، إضافة إلى "مركز دراسة الإسلام"، و"المركز القرآني الدولي"، و"المنتدى الدولي للحوار الإسلامي". وغير بعيد عن ذلك، تلك المؤسسات والمراكز التي ارتبطت بخطاب السلام والدعوة له مثل "المعهد الأمريكي للسلام"، و"المعهد الدولي للحوار المستديم"، و"منظمة نساء من أجل السلام".

وحدث ولا حرج عن تلك المنظمات والمراكز المختصة بحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مثل "المركز المغربي لحقوق الإنسان"، و"حركة الحرية والعدالة الاجتماعية"، و"مركز دراسة الديمقراطية"، و"المنظمة العراقية للبيئة وإعادة تأهيل المجتمع"، و"حزب الحرية والعدالة"، و"مركز سواسية للمواطنة وحقوق الإنسان"، و"منتدى التنمية وحقوق الإنسان والحوار"، و"منتدى ليبيا للتنمية الإنسانية والسياسية"، و"جمعية مراقبة حقوق الإنسان العراقية" و"شفافية ليبيا" و"مركز العالم العربي للتنمية الديمقراطية" و"مركز الكلمة لحقوق الإنسان". وأخيرا، تلك المراكز التي تحدد نشاطا واحدا لها، وإن كانت في الأغلب الأعم لا تلتزم بما تعلنه، مثل "جمعية نور للخدمات الاجتماعية"، و"مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية"، و"جمعية الإنسان لدراسات التنمية"، و"جمعية قضايا المرأة"، و"منتدى المرأة المغربية" و" المركز الدولي للمشروعات الخاصة" و"الشبكة الكونية للهجرة والنوع"، و"نادي الأكراد" و"معهد دراسات الخليج" و"جمعية رواق ابن خلدون". ومن اللافت للنظر هنا أن معظم المنظمات والجمعيات والمؤسسات السالفة الذكر تقيم في الخارج، وتمارس أعمالهما وأنشطتها وهى في رحاب الدفء الغربي، والتعزيزات المرتبطة به.

ولا يكفي البعض كل هذا التعدد الخاص بتلك المنظمات والمؤسسات والجمعيات والمنتديات والمراكز، التي أصبحت بلا وظيفة حقيقية، وبدون أنشطة محددة، اللهم إلا ما يجلب لها مصادر مختلفة للتمويل، تصب في جيوب القائمين عليها، حيث يلجأ البعض إلى حيلة جديدة يعرف نفسه من خلالها على أنه ناشط في مجال ما. ومسألة الناشط هذه تثير الكثير من الشبهات، وبشكل خاص فيما يختص بمسألة حقوق الإنسان التي استسهل البعض الاتجار بها، إلى الحد الذي أصبحت بدون نشاط حقيقي، وبدون قيمة فكرية حقيقية، إلا ما يرتبط بها من توسيع شبكة العلاقات بالمؤسسات الغربية المانحة، والعمل على الإستفادة من زخم التهييج الغربي بخصوص هذه المسألة. ورغم الضبابية المرتبطة بكلمة ناشط، فإنه لمن المفارقات المضحكة المبكية في الوقت نفسه، أن الكلمة تحيل ضمنيا إلى قدرة هذا الناشط على الإنتقال من نشاط لآخر، ومن دولة لأخرى، ومن تمويل لآخر، بما يؤكد في النهاية على نشاطيته المنقطعة النظير التي تتجاوز بكثير قدرات البنوك والمؤسسات التمويلية الأخرى.

لا يمكن للمرء هنا غض الطرف عن تلك السيولة المنفلتة الخاصة بإنشاء العديد من هذه المؤسسات والمراكز، وهو الأمر الذي يرتبط في الوقت نفسه بالسيولة السياسية التي تواجهها الدولة في العالم العربي منذ عقود عديدة، في ظل الهيمنة الأمريكية والتوحش الصهيوني. وهو الأمر الذي يدفع بهؤلاء المستفيدين الذين يدعون اهتمامهم بتغيير المجتمعات العربية التي هاجروا منها، إلى إنشاء المزيد من هذه المؤسسات والمراكز، وحشد التوقيعات وإرسال الرسائل بغض النظر عن طبيعة من تًرسل إليه، وبغض النظر عن دوره القمعي في المنطقة.

للأسف الشديد، فإن هذه النوعية من المؤسسات والمراكز والنشطاء تضر بالشكل العام للعمل التطوعي والمدني في العالم العربي، وإن كان هذا لا يمنع من وجود الكثيرين من الشرفاء الذين يكابدون الأمرين في دفاعهم عن حقوق الإنسان العربي، وهم يحيون بين ظهرانينا، ويدفعون في سبيل ذلك كل نفيس وغالي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى