الجمعة ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

أبكي على الظالم !!

تجلس في صالة استقبال الفندق، ويأتي أستاذ عراقي تعرفت إليه في المؤتمر الذي تشارك فيه، لتنفقا معاً بعض الوقت. يحدثك عن العراق وتحدثه عن فلسطين، يواسيك وتواسيه، وكأنكما ذئاب الشنفرى في لاميته. كلاكما يشعر بالإحباط والإخفاق. كلاكما يعبر عن حزن عميق وشعور فادح بالخسارة: خسارة المشروع الوطني وخسارة المشروع القومي، وتكرر، وكأنك الذئب الخائب الذي أخفق: وللصبر إن لم تنفع الشكوى أجملُ.

ويغادر الصديق العراقي لتبقى، وحيداً، ثلاث ساعات تتأمل في هذه الدنيا وتنظر إلى المباني المقابلة لفندق ( الأرينا ) قرب الجامعة الأردنية. وأحياناً تلتفت إلى هذا القادم أو ذاك، وأحياناً ترد على مكالمة هاتفية.

تنفق في صالة استقبال الفندق ثلاث ساعات لا تفعل فيها شيئاً على الإطلاق. لا تذهب إلى مقهى قريب. لا تذهب إلى مبنى جريدة " الدستور " لتقابل كاتباً صديقاً. لا تذهب إلى مطعم قريب لكي تتناول طعام العشاء. وحين يزورك أستاذ عربي، تصغي إليه يحدثك عن أمنياته، فتقرر أن تكتب عن الضحية والجلاد.

( يعبر الأستاذ عن أمنياته التي منها أن يصبح رئيساً لدولته. وحين يتقلد ذلك المنصب فإنه لن يسمح لليهود، بأي حال من الأحوال أن يفعلوا بأهل فلسطين ما يفعلونه. يتحدث عن أخبار اليوم، عن مقتل خمسة فلسطينيين في بيت لحم وثلاثة في الخليل. ولا يستخدم كلمة الإسرائيليين، فهو يعمم القول ويستخدم مفردة " يهود " ).

وتخاطبه قائلاً: لهذا لن تصبح رئيساً لدولتك. وتجد نفسك تدافع، دون وعي، ربما لأن هذا، بسـبب ثقافتك، يكمن في لا وعيك، ربما لأنك معجب ببعض كتابات بعض الإســرائيليين مثل ( عاموس عوز ) و ( أ.ب يهوشع ) و ( دافيد غروسمان )، ربما بسبب رؤيتك لبعض اليهود والتقائك بهم، بعض اليهود ممن لا يظهرون كراهية عمياء للعرب. وتجد نفسك تخاطبه: ليس اليهود كلهم أشراراً.

ويغادر الدكتور الصالة لمقابلة بعض معارفه وأصدقائه. وتبقى وحيداً حتى الحادية عشرة ليلاً. وقبل أن تغادر إلى غرفتك تأتيك فكرة المقالة. تخربش، على مغلف كان بحوزتك، بعض العبارات. تنتظر قليلاً ثُمَّ تصعد إلى غرفتك لكي تكتب.

تتذكر بيت شعر عبد الرحيم محمود، وتكرره، وأنت تتأوه:

أبكي على الظالم من رقة **** وخنجر الظالم فيّ يذوب

وتهمس:

آه يا عبد الرحيم. ها نحن، ونحن بعيدون عن فلسطين، ها نحن نترصد أخبارها، ونشاهد، من بعيد، نشاهد، عبر شاشات التلفاز، مدافع الدبابات الإسرائيلية تقصف المدن، ومع ذلك لا نلجأ إلى تعميم القول في اليهود. ها نحن نقول:

ليس كل يهودي في إسرائيل شريراً ويستحق القتل. ها نحن ما زلنا، على الرغم من دمار مدننا وقرانا، نميز بين يهودي ويهودي. نميز بين يهودي طيب وآخر شرير، نميز ونحن نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من هجرة جديدة. نميز ونحن نرى المخيمات ما زالت مخيمات، مخيمات ما زالت أوضاع سكانها تزداد، يومياً، سوءاً. نميز ونحن ندرك الثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب العربية أيضاً جراء تأسيس دولة إسرائيل.

وتخاطب عبد الرحيم محمود: آه يا عبد الرحيم، حتى أنت الذي قلت بيت الشعر السابق لم تسلم من التشويه. ( ما زلت شخصياً أكرر ما قاله مستشرق إسرائيلي عن بيت عبد الرحيم محمود:

يلذ لأذني سماع الصليل**** ويبهج نفسي مسيل الدماء ).

وتخاطب نفسك: هل حقاً أن مسيل الدماء كان يبهج نفس الشاعر؟ أم تراه التراث الشعري العربي فعل فعله في الشاعر فجاء هذا البيت وقد تسلل معناه ليس إلا؟ وتخاطب عبد الرحيم متسائلاً: هل قلت هذا البيت في عنفوان الشباب؟ هل قلته في لحظة انفعال؟ وها أنت، من خلال بيتك هذا، تفتح أمامي مشهد صورة الآخر في أدبنا. ها أنت تجعلني، وأنا وحدي، أتذكرك، وأتذكر سميح القاسم في قصته " الصورة الأخيرة في الألبوم " ومحمود درويش في قصيدته " هدنة المغول أمام غابة السنديان ". أما قال الأخير:

" كم أردنا السلام لغازلة الصوف " للطفل قرب المغارة

لهواة الحياة .. لأولاد أعدائنا في مخابئهم .. للمغول

عندما يذهبون إلى ليل زوجاتهم ... "

ونحن، نحن ما زلنا ندفع ثمناً باهظاً منذ مائة عام ويزيد. ترى هل نبالغ في هذا؟ تسأل نفسك وتضيف: هل نبالغ في هذا لكي نظهر أنفسنا إنسانيين؟

كيف حولت السنوات اليهود إلى جلادين؟ وكيف حولتنا إلى بشر آخرين، بشر يشفقون على جلاديهم. وتسأل نفسك: أهو الضعف سبب ذلك؟ أهي إنسانيتنا الكامنة في أعماقنا؟

تخربش هذا، وأنت وحيد في غرفة الفندق، تخربش هذا وأنت تفكر في العودة إلى نابلس. وتتساءل: وماذا إذا عُدْتُ وابتدأت الحرب التي بها يلوحون، حيث تحاصر الدبابات المدن؟ وماذا ستقول ما كنت قلته في المؤتمر وفي صالة الفندق: ليس اليهود كلهم أشراراً ؟!!

عمان 20/7/2001

الصياغة الثانية / نابلس 21/9/2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى