الأحد ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم ليلى بورصاص

وردة دامية

تمزقت من الألم... بكت بأعلى صوتها... شكت و توسلت... لكنها لم تبح بالسر، عاهدت نفسها حتى إن قتلت، حتى لو قطعوها إربا، حتى لو انتزعوا عينيها، فلن تبوح، لن تجر غيرها من رفاق الدرب إلى نفس المصير، لن تسوقهم إلى هذه الزنزانة البغيضة، التهبت جروحها، أصبح الألم لا يطاق، إنهم يعذبونها منذ أكثر من عشرة أيام، لكنهم لم يحصلوا منها على معلومة واحدة...

تذكرت تلك الأيام الجميلة... أيام الكفاح.. منذ أن وعت أدركت أن لا مكان لهذه الشرذمة فوق هذه الأرض، رغم صغر سنها عاهدت وطنها أن تسعى إلى تطهير كل حبة من ترابه من هؤلاء الأنذال، ابتسمت رغم الآلام، تذكرت عندما عرضت عليها زهور الفكرة:

 جنات.. اعلم انك تكرهين الفرنسيين، و تتمنين أن يخرجوا من أرضنا.

 طبعا، اليوم قبل الغد.

 ما رأيك أن تنخرطي في الجبهة؟

أحست بجزع ممزوج بنوع من الحماس والسعادة، فكلمة الجبهة كانت تعني الكثير لهذا الشعب المستعمر، هي الأمل في غد أفضل، هي اليد السحرية التي ستحقق حلم الحرية والاستقلال، هي القلعة المنيعة التي يأوي إليها كل مظلوم، لكن خطر لها خاطر:

 زهور، هناك مشكلة، أخشى على أهلي إن ذهبت إلى الجبل.

 لن نذهب إلى الجبل، سنعمل هنا، ونحن ندرس ونعيش حياتنا العادية.

 كيف؟

 سأخبرك في حينه، لا تخبري أحدا حتى والدتك، تصرفي بشكل طبيعي حتى تأتينا الأوامر، مفهوم؟

أومأت لها بالموافقة، وعادت إلى بيتها صامتة، تائهة، غارقة في بحر من الأفكار:

 ماذا ستكون أول عملية يا ترى؟ ومتى يأمرون بذلك؟ سأصبح من الخاوة أنا أيضا، وضحكت في سرها، دخلت والدتها الغرفة وسألتها:

 لماذا تجلسين وحدك؟

 لا شيء أنا أدرس فالامتحانات على الأبواب.

 كلي شيئا ثم عودي إلى الدراسة.

 لست جائعة.

 تعالي، وجذبتها من يدها بقوة، انظري إلى نفسك في المرآة لقد أصبح لونك اصفرا، لهذا لم يتقدم أي شخص لخطبتك.

ودت أن تقول لها أن السبب ليس اصفرار لونها، لكنها عدلت عن ذلك.

في الغد انفردت بها زهور في فناء الثانوية،

 كلفت بأول عملية.

 صحيح؟ ما هي؟

 سيأتي شخص بعد نهاية الدراسة ويسلمك لفة من القماش تحملينها في محفظتك، و تعبرين بها نقطة التفتيش، وعندما نصل إلى المكان المطلوب سيأتي شخص آخر ليأخذها بعد أن يقول لك كلمة السر، إلى اللقاء ربي معاك.. واختفت وسط الطالبات.

بقيت جنات مسمرة في مكانها،

 ها قد كلفت بأول عملية يجب أن لا أخطئ، ثلاثة أشخاص مصيرهم بيدي الآن.

دق جرس نهاية اليوم الدراسي ودق معه قلبها بسرعة كبيرة، إنه وقت العملية،

 يا رب لا تتخلى عني... خرجت من بوابة الثانوية، أحست أن وجنتيها تكادان تشتعلان، تملكها إحساس خوف ممزوج بشجاعة، شتان بين الكلام والفعل، التفتت إلى اليسار فرأت صديقتها زهور تقف مع شاب، استجمعت كل شجاعتها:

 بماذا تفوقني زهور حتى تتمتع بكل هذه الشجاعة؟ لست أقل منها بشيء..
اتجهت صوبهما:

 مساء الخير يا أختي.

 مساء الخير.

 هل أنت مستعدة يا...

 اسمي جنات.

 بل أفضل... مليحة إن سمحت لي طبعا، وهذا لسببين.

 ما هما؟

 بالإضافة إلى انك مليحة الوجه، يجب أن يكون لك اسم ثوري نضلل به الأعداء.
ابتسمت موافقة.

 أدخلي يدك في جيبي وخذي اللفافة البيضاء وضعيها في محفظتك، بسرعة قبل أن ينفض الزحام..

أدخلت جنات يدها في جيبه وأخرجت اللفافة ووضعتها في محفظتها دون أن ترتعش أو تتردد،

 بعد أن تعبرا المعبر، اتجها إلى طريق الملعب ستجدان شخصا هناك يحمل بيده قفة حمراء ويدعي العمى ضعي اللفافة في القفة وانطلقا دون أن تلتفتا، هيا انطلقا، ربي معاكم..

انطلقت الفتاتان وكلاهما تمسك بيد الأخرى،

 ماذا لو فتشني الجندي؟ ماذا لو يكون رآني من بعيد؟ سأقول له إني لا أعرف شيئا، لكن من أين له أن يراني المسافة بعيدة جدا، كما أن الثورة بحاجتنا جميعا يجب أن نضحي، ماذا لو عرفت أمي؟ الاستعمار لا يخيفني كثيرا لكن أمي لو علمت فان حربا من نوع آخر ستقوم، لن اترك لها فرصة أن تعرف، ثم التفتت خفية إلى زهور، ونظرت إليها من طرف خفي،

 لماذا هي لا تخاف من أي شخص، إنها تعمل مع الثورة منذ مدة، ثم سحبت يدها من يد زهور، فالتفتت إليها متسائلة.

 حتى لا تجر إحدانا الأخرى إن اكتشفنا.

 معك حق.

ووصلتا إلى المعبر الاستعماري، أحست أن كل جنود الموجودين ينظرون إليها، أحست أن كل الناس يقولون أن في محفظتها شيء، ابتلعت ريقها، وراحت تراقب كل الحركات و كل السكنات، وقفت تنتظر دورها في المرور، أحست أن قلبها أصبح في حنجرتها، إن الوقت لا يمر، إنها هنا منذ ثلاثة ساعات أو أكثر، مع انه لم يمضي على وقوفها أكثر من دقيقتين، حان دورها في المرور شدت قبضتها على حزام المحفظة، أشار لها الجندي بالمرور، فمرت، إنها لا تكاد تصدق أن مهمتها انتهت بنجاح، إنها لا تصدق أنها عبرت المعبر الذي تعبره كل يوم أربع مرات أو أكثر، لكن عبور اليوم له طعم آخر، لحقت بها زهور.

 كنت رائعة، حافظت على رباطة جأشك كأنك تعملين في الجبهة منذ سنين.

 الحمد لله، هيا بنا إلى طريق الملعب.

عندما وصلتا هناك إلى المكان الموعود وجدتا نفس الشخص الذي أعطاها اللفافة، فتعجبتا لذلك،

 حسنا أعطني اللفافة، فأعطته إياها، فتحها أمامها فوجدت أنها فارغة.

نظرت إليه جزعة متعجبة و لم تعرف ما تقول.

 لا تقلقي لقد كانت فارغة من البداية، كان يجب أن نختبرك أولا وان لا نعرضك للخطر من أول مرة،

 وماذا اتضح لك الآن؟

 الجبهة تحتاجك، والجزائر تعول عليك.

فابتسمت له والدموع في عينيها:

 روحي فداؤها.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت تنفذ العمليات وتمرر الأسلحة في محفظتها وتسلمها، لم يكن يؤلمها شيء اشد من مشاداتها الكلامية مع والدتها:

 هناك من رآك في الشارع اليوم مع رجل.

 هذا كذب.

 هذا الشخص لا يكذب وهو يعرفك جيدا حتى انه وصفك.

 ...
 لماذا سكتي؟ أجيبي؟

 ...

 لهذا لم يتقدم أي شخص ليطلب يدك.

 ومن قال أنني أريد الزواج؟

 طبعا حتى تظلي على حريتك.

لم تجبها جوابا تسمعه:

 سيأتي يوم تعرفين فيه الإجابة، وعندها لن تشعري بأي خزي.

... رجعت الأوجاع تنتشلها من ذكرياتها الجميلة:

 آه... يا رب ارحمني، يا ليتني استشهدت ومت قبل أن أقع بين أيدي المجرمين.. الموت.. الموت.. انه ملاذي، أرجوك يا الهي أنعم علي به...

لن تنس تلك الليلة المريعة، تلك الليلة المرعبة التي تم القبض عليها فيها، تلك الليلة السوداء عليها وعلى كل عائلتها، لن تنس كيف جاء أفراد من المنظمة السرية المرعبة المسماة اليد الحمراء، واسمها منبثق من أفعالها، فكم من شخص قبضت عليه ولم يعرف له أهله أثرا، بعد وشاية رخيصة تمكنوا من معرفة حقيقتها، قبضت عليها اليد الحمراء لتضعها بزنزانة سوداء سواد الليل الذي كان يعيشه أبناء هذا الشعب.. سمعت صوت أقدام آتية نحو زنزانتها، ارتعبت:

 يا الهي.. لا.. لم اعد أتحمل..

رغم العذاب الكبير الذي مورس عليها، إلا أنها لم تبح بسر إخوانها في الجهاد أنكرت أية صلة.. أية أسماء..

فتح الباب، رفعت رأسها إلى القادم:

 قومي لقد أفرج عنك..

لم تصدق ما سمعت، هل أفرج عنها حقا؟ هل ستعود إلى أهلها؟، ستنتظر بعض الوقت قبل أن تعود إلى الجهاد، حتى تتحسن جروحها، وتتأكد من أنها غير مراقبة، لم تسعها أرض السجن من فرحتها، لم تتمكن من القيام لكثرة إصاباتها، إلا أنها بذلت كل جهدها لمحاولة السير، انه الفرج، أمسك الرجل يدها وساعدها على المسير إلى باب سيارة كانت تنتظر في الخارج، نظرت فرات بها عدة أشخاص وجلت:

 لا تخافي سنعيدك إلى بيتك.

لم يكن أمامها خيار آخر، التفتت خلفها فتذكرت العذاب المرير، قررت أن ترحب بالمجهول.. وصعدت السيارة التي انطلقت في سير حثيث، حتى وصلت إلى أحد الأماكن تمكنت من قراءة اللوحة:

 مازونة..

نزل كل من كان في السيارة واختفوا، رغم الحيرة والخوف، استجمعت بقايا قواها المنهارة، فتحت باب السيارة وهربت تحاول الجري.. من ليل غامض مخيف انطلقت في إثرها رصاصة استقرت بين ضلوعها.. لتفارق الحياة...

الإهداء: إلى روح الشهيدة الخالدة حميدو جنات ( المدعوة: مليحة)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى