الجمعة ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
قصة حقيقية يرويها أحد الناجين
بقلم صلاح الدين الغزال

عرس وبارود

وصلت إلى بيت العريس بناء على دعوة منه وبسبب كثرة المدعوين فقد أقيمت وليمة الفرح داخل خيمة كبيرة تم نصبها بالشارع.. لم يتأخر الغداء كثيرا وكانت الوجبة عبارة عن كسكسي مع الخلطة ولحم ضان لم أشاهد في حياتي مثل حجمه وبعض (المصارين) المعدة إعدادا جيدا..

جلسنا على الأرض أربعة أربعة في خيمة أشبه بالفرن أمام عش الدبابير وقت الظهيرة.. وبدأت أتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء الذين لم ألتق بهم منذ زمن.. أخبروني أن جيران العريس قد أقسموا بأن يفسدوا عليه الفرح.. وقد كنت أعلم أن هناك مشاكل قديمة بين العريس وجيرانه غير أن الرز واللحم طوياها كالعادة.. حيث تمت المصالحة (المسار) بين القبيلتين وانتهى الأمر.. ثم أنه من غير المعقول أن تتم مهاجمة بيت العريس أمام المدعوين وهم من قبائل شتى ولا أظن أن التخلف وصل بنا إلى هذا الحد.. لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار خيرا.. ونحن مجتمع مسلم تربطه عادات وتقاليد وأعراف عربية قحّة.. ومحاولة إلحاق الأذى بالجار بعيدة كل البعد عن مجتمعنا..

لقد كان الطعام شهيا ولست أدري هل ذكرت اسم الله عليه أم نسيت.. كل ما أذكره أنني عندما بدأت في تناول قطعة اللحم ويدي على علبة المشروب انتبهت إلى أحد أطفال جار العريس وقد فتح شباك الشرفة وخرج يتأملنا ربما كان يريد أن يعرف إلى أين بلغنا من الوليمة حيث كانوا حريصين على تذوقنا لها.. وبينما كنا نصول ونجول بالملاعق ونحفر الأخاديد في الصحون فوجئنا ببيت الجار يفتح على مصراعيه فاعتقدنا أنه يرغب في دعوتنا إلى إعارة (مربوعته) كما هو متعارف عليه عندنا أثناء المناسبات وبخاصة أن هذا الجار ينحدر من إحدى القبائل البدوية التي اشتهرت بالشهامة والنخوة.. ولكننا فوجئنا بخروج شبان أشبه بالمردة يحملون في أيديهم السيوف وأخذوا في كيل السباب للضيوف ثم انقضوا يريدون الإجهاز علينا.. كنت قريبا من حافة الخيمة عندما ارتفع الصليل وأخذت أيدي الفتية تهوي بها ذات اليمين وذات الشمال.. ولم يجد أهل العريس سبيلا سوى الدفاع عن ضيوفهم الغافلين وتلقي البتر نيابة عنهم وقاموا بدحر المهاجمين رغم خلو أيديهم من العتاد.. اختلط الحابل بالنابل وخلع العقلاء ألبابهم وكنت أشاهد الأطباء والمهندسين وهم يذودون دفاعا عن حياضهم.. كانت الحجارة تنهال على المهاجمين كالمطر ولكنهم والحق يقال كانوا أشبه بالخنازير البرية لا يؤثر فيها الضرب وليس في أجسادها موضع إصبع للإحساس غير أنهم لم يصمدوا طويلا فقد دخلوا إلى جحورهم كالفئران المتخمة أمام أهل العريس العُزّل وتحصنوا فوق السطح وأخذوا يرشقون الضيوف المساكين بالحجارة فسقط بعضهم متأثرا بجراحه وتم نقل العديد منهم إلى المستشفى.. وبينما وطيس المعركة في كرٍّ وفرٍّ أخرج أحدهم قنبلة يدوية (جولاطينة) وألقاها على بيت العريس فأصدرت دويّا هائلا هرع على أثره الناس من كل مكان والفزع باد على وجوههم حيث سقطت على أثره إحدى النساء المدعوات مغشيا عليها بسبب وقوع السقف على أم رأسها.. وتسببت في إحداث هوَّة عظيمة بالسقف الذي تناثر فوق رأس العروس يوم حفل زفافها.. ثم لوح بالثانية مهددا بأنه سوف يقوم بقذفها على النساء ولم يراعِ حرمة المرأة التي تحظى باحترام كبير داخل مجتمعنا العريق.. وفي تلك الأثناء ذهب والد العريس وبعض العقلاء إلى مركز الشرطة لطلب النجدة.. ولم يعد أمام أسرة العريس سوى أن تقتحم بيت الجار لنزع القنابل من أيديهم وإيقاف المجزرة حفاظا على أرواح ضيوفهم.. ولكن بيت جارهم كان أكثر علوا من بيتهم وقد قام أحد مردتهم مهددا برمي المزيد من القنابل على النساء فلم يجد أهل العريس بُدّا سوى التقهقر خوفا من إلحاق الأذى بهن.. وسط سباب مقذع وضع المدعوين في حرج.. فبعضهم كان بصحبة والده وبعضهم كان بصحبة أبنائه.. ألفاظ شوارعية لم يسبق لنا سماعها قامت بقذفها أفواه سوقية لا تمت لمجتمعنا الأصيل بصلة.. كان من ضمن الجرحى والد العروس حيث تم شجّه بحجر صلد فسال دمه الطاهر على وجهه.. ثم قاموا بتحطيم زجاج نوافذ سيارات المدعوين الذين حاولوا جاهدين إنقاذها ولكن دون جدوى فلم يكن من السهل فعل ذلك تحت وطأة السيوف ودوّي القنابل.. وفي هذه الأثناء قام أحد الفتية الشرسين بالركوب في سيارته التي لحسن الطالع لم تكن مفخَّخة وقام بعملية انتحارية حيث انطلق كالرصاصة داخل الخيمة محاولا إلحاق الأذى بالضيوف الذين غادروا مسرعين مخلفا وراءه حطاما من الصحون وقد انقلبت الحلل رأسا على عقب وتناثر الطعام على المدعوين الذين نفذوا دون جلودهم بأعجوبة.

ولحسن الحظ أن المأذون لم يصب بأذى فهو طوال تلك الزوبعة كان متشبثا بحقيبته وأختامه وكذلك تمكن والد العروس من الوقوف على قدميه متحدّيا النزيف وأما العريس فقد انقطعت أخباره لست أدري ما حدث له ولكنني على ثقة أنه بسبع أرواح.. وقد قرروا عقد القران مهما كانت النتائج داخل تلك الخيمة البائسة التي عاث بها الدمار.. ولكن حكمة المأذون حذرتهم من مغبة ذلك خوفا أن يلقوا عليهم قنبلة أخرى.. وتم عقد القران داخل إحدى السيارات تحت ظلال الحجارة التي رغم انهيالها عليهم كالمطر إلا أنها لم تستطع ثنيهم عن عزمهم.. أما أنا فقد قمت بتحسس رأسي فوجدته لا يزال عالقا مكانه وتعجبت كيف نجت أطرافي من البتر وبحثت عن حذائي فلم أجده ربما غنمه الغزاة أثناء المباغتة الدامية.. حدث كل ذلك في لحظات مؤلمة قد يتساءل المرء فيها عن سر تدهور الأخلاق وهل أصبح لزاما علينا أن نتعلم كيف نصنع القنابل للدفاع عن أعراسنا وهل من المنطق أن يطلق العنان لتجار المتفجرات فيعيثون فسادا بأمننا ببيعهم القنابل للمتهورين.. وهل يعقل أن يقذف الجار جاره بها ثم لا تتحرك أيدي العدالة لكبح جماحه.. وإلى متى يظل المجرم طليقا ولمصلحة من ومن المسؤول وكيف حدث هذا.. لست أدري فأنا اليوم شاهدت حربا حقيقية أبطالها شباب بالغون وإن لم يكونوا ناضجين.. وضحاياها عريس كتب عليه أن يخوض حربا حامية الوطيس يوم حفل زفافه.. وبيت كتب علينا أن نسمع فيه دويّ القنابل الحقيقية بدلا من الزغاريد حتى ولو كانت مزيفة.. وضيوف جاءوا مهنئين غافلين فرجعوا واجمين مذهولين.. يجثم الخرس على أفواههم وهم يدركون أن لا حياة لمن تنادي ولكن أليس من حقي كجريح ومذهول أن أصرخ في هذا الوادي.

القصة حقيقية، كتبها الراوي تحت صليل السيوف ودوي القنابل بعدما نجا بأعجوبة وقد تم تمييع القضية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى