الجمعة ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم ميسون جمال مصطفى

الغالي

قال لها: يومان وأكون في البيت.

قالت: اشتقت إليك كثيرا، وغاب الصوت في الدموع، أقفلت السماعه... وهي تنتظر أن يأتي في الموعد...

كان صادقاُ، وهو الذي لم يكذب أبداُ، وعدها فوفى، وفي صباح اليوم الثالث، وصل إليها غير كل مرة مكللا بالغار والياسمين... اشتمت رائحته بعد زمن، وأحست نبضه يغزو قلبها كالمطر...

وقفت بباب البيت تنتظره وفي يدها ورد، أرز، وحبق، وصل حبيبها ملتفا بالعلم، اقتربت منه ورمت وردها الذي قطفته له بيديها، والحبق الذي زرعته يوم ولادته، والأرز الذي أزالت منه "الزوان" والحجر، ضمته لصدرها ضم الفل للندى، وغنت لعريسها الذي انتظرت يوم زفافه لتزينه بأيات الرحمن مغنية:

قلي وين تزينت محمد آه يا زين
تزينت يا يمه بين الهلالين
قلي وين تزينت محمد يا غندور
تزينت يا يمه على جبل النور
قلي وين تزينت محمد يا غالي
تزينت يا يمه عالبرج العالي

غنت كما لم تغن من قبل، فغاص القلب بالبكاء، قد حان الوداع، لتزفه متوردة الوجنات، باسمة النظرات.

اقتربوا منه، أبت الا تزفه بزغاريدها التي زفت بها شباب الحي سابقا، فكيف وهو وحيدها، فزغردت:

ايويها يا جنة افتحي بابك
ايوها والشهيد من أحبابك
ايويها افتحي الباب لمحمد
ايويها حبيب القلب داس ترابك

وذهبوا به ظلت واقفة بالباب إلى أن غاب عن البصر، دعت الله له، وتوسلت الأرض أن تضمه بحنان، فهذه الليلة لن تتفقده ككل ليلة، ولن يمازحها كما كان يفعل، فتغفو وهو يقول لها: غدا عندما اتزوج سأنجب طفلة تحمل اسمك، وطفلا على اسم والدي الشهيد، وسأخبرهما كيف كان بطلا، وكيف كانت تعشقه زهراء. تغفو وتحلم بأطفاله وهم يلهون حولها، فتضمهم كيف لا فهم أبناء الغالي وحيدها الذي لم ير والده، الذي استشهد وهو ما يزال جنينا.

غاب الغالي... لكنه لم يغب، ما تزال روحه في البيت تحرسها، وتسامرها كل مساء. تروي لها حكايات جميلة عن المستقبل، عن وطن مات لأجله، وطن ما يزال يثلج صدرها، فتتقبل غيابه.... لأنها مؤمنة بعدالة قضيته، ولولا ذلك لما اعطت وحيدها بندقية والده التي لم يترك له أرثا غيرها....

وتذكرت كلامه-زوجها- لها عندما غادرها لأخر مرة: عندما يصبح الوطن جسدا معطرا، تصبح الحكايات أريجا يعبق برائحة الحلم الملون بمدن الوجع، فتسافر الأنفس لتعبر قرآنا بريح الهال والصعتر... لذلك تسافر فينا المدن ويمر منا الوطن عذبا فرات، وتغنينا المرايا شهداء، لذلك علينا أن نواصل السفر إلى الحق...

حملت بندقيته ضمتها فرأت فيها زوجها وابنها، ومع استشهادهما لا بد لها-البندقية- من ثائر جديد، لأن الطريق طويلة.... وفجر النصر لا بد أن يبزغ من جديد في شرق جديد كما أراد الغالي ووالده...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى