الجمعة ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم سليمان عبدالعظيم

الشخصية العربية المعاصرة، قراءة أولية

منذ أن نشر أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الصهيوني الإسرائيلي "رافائيل باتاي" كتابه العنصري "العقل العربي" عام 1976، الذي كال فيه الكثير من التعميمات الساذجة والعدوانية ضد العرب، شهد العالم العربي العديد من الأحداث الهائلة، التي أدت إلى عمليات تنميط غربية واسعة وغير مسبوقة لكل ما هو عربي ومسلم في الوقت نفسه. لا تختلف الحملة التي يشنها الغرب الآن ضد العرب والمسلمين عما قال به باتاي عام 1976، فالافتراءات التي أطلقها وعممها باتاي ضد الإنسان العربي، والتي منها أنه كسول، انفعالي، مضطرب، شهواني، مولع بالجنس، عدواني، يمكنه أن يقتل لأي سبب تافه، تجد لها الآن متسعاً عبر المؤسسات البحثية الغربية، الأمريكية منها بالأساس، ناهيك عن الاحتفاء بها من خلال المؤسسات اليمينية الأمريكية، وبشكلٍ خاص مؤسسة الرئاسة.

ومن اللافت للنظر هنا أن كتاب باتاي نفسه قد تلقفته المؤسسة العسكرية الأمريكية بحيث أصبح طوال العقود الثلاثة الماضية هو بوابة التعريف التي يستقي منه القادة الأمريكيون وجنودهم معلوماتهم عن العالم العربي، بل إنه كان يتم تداوله عبر المؤسسات الدبلوماسية الأمريكية المختلفة العاملة في المنطقة العربية. وربما لهذا السبب يمكن تفسير تلك العدوانية البربرية، في أبعادها الجنسية، التي قام بها الجنود الأمريكيون ضد ضحاياهم في سجن أبو غريب في العراق. فالممارسات التي قام بها هؤلاء الجنود تمت من خلال إطار معرفي عنصري مسبق يتم تداوله وتغذيته بتلك الكتابات التي ثبت عدم علميتها على شاكلة كتاب العنصري باتاي، وغيره من الأمريكيين البيض مثل برنارد لويس، أو غيرهم من العرب المهاجرين إلى أمريكا مثل كنعان مكية وفؤاد عجمي وشاكر النابلسي ومجدي خليل.

تندرج هذه النوعية من الكتابات تحت ما يسمى بدراسات الشخصية ومحاولة تنميطها، بحيث يمكن الحديث عما تتسم به شخصية شعب ما من سمات وخصائص عامة تميزها في النهاية عن غيرها من الشعوب الأخرى. ورغم المخاطر المختلفة التي يمكن أن تنجم عن محاولة التوصيف والتحليل لشخصية شعب ما من الشعوب، فإن المرء لا يمكنه إهمال هذا النوع من الدراسات لما له أيضا من جوانب معرفية نقدية تفيد في الوقوف عند الملامح المختلفة للشخصية والتطورات التي تلحق بها عبر الزمن.

وإذا كانت الدول والحكومات والمؤسسات المختلفة ترصد وتحلل من فترة لأخرى ما لحق بتجاربها وخططها التنموية المختلفة إن بالسلب أو بالإيجاب من أجل تحديد المسار القادم والخطوات اللازمة له، فإن متابعة ملامح وسمات الشخصية القومية وما لحق بها من تغيرات، ربما يفوق في أهميته تلك الجوانب المادية التنموية التي ترصد لها الدول والحكومات والمؤسسات الميزانيات الضخمة من أجل التحقق من جدواها. ولابد منذ البداية من تحديد مجموعة من الأسس المنهجية الأولية اللازمة لأية قراءة تنشد قدرا ما من الموضوعية عند تعاملها مع ملامح وسمات الشخصية القومية لشعب ما من الشعوب.

فأولا، ورغم إمكانية الوقوف عند ملامح شخصية شعب ما، بما يؤدي في النهاية إلى التمييز بينه وبين غيره من الشعوب الأخرى، مثل التمييز بين شخصية الشعب الفرنسي وشخصية الشعب الألماني، فإن هذه المحددات والتمايزات ليست مطلقة وثابتة عبر الجغرافيا والتاريخ، لكنها مرتبطة بتغيرات الجغرافيا من جانب وعواصف التاريخ من جانب آخر، وإلا كانت هذه الملامح والسمات قدرا موقوفا على شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، وهذا تصور منافي لأبسط نواميس الحياة المتغيرة والمتجددة عبر الأزمان. صحيح أنه يمكن الحديث عن سمات عامة خاصة بشعب ما، لكن هذه السمات تتغير بتغير الوقت، حيث تلحقها عناصر التغيير المرتبطة بتأثيرات التاريخ والتحولات المجتمعية والسياسية، كما تلحقها عناصر التغيير أيضا الناجمة عن الاشتباك الكوني غير المسبوق بغيرها من الثقافات الخاصة بالشعوب والأمم الأخرى.

وثانيا، علينا أيضا أن نمايز بين السمات العابرة الوافدة القابلة للتغيير السريع، وبين تلك السمات المتجذرة الأصيلة التي يتطلب تحولها تغيرات مجتمعية وتاريخية وحضارية كبرى في عمق الشعب صاحب هذ السمات القومية. فلكل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم بعض السمات القابلة للتغيير بسهولة وفقا لمستجدات التاريخ والسياسة والاجتماع، وهى أمور تتفق فيها كافة شعوب الأرض بدون تفرد أو امتياز. فتغير أنماط الطعام والزى من الأشياء القابلة للتغير بسهولة، بغض النظر عن وجود طعام قومي أو زى قومي متعارف عليه يلتزم به شعب من الشعوب. ولعل التغيير السريع المرتبط بهذه المجموعة من السمات يتأتى من كونها أقرب ما تكون للمعيش اليومي، وبما يتعلق بمصالح العباد وتسيير شؤون حياتهم ومصالحهم اليومية. إضافة إلى ذلك، هناك مجموعة أخرى من السمات المتجذرة في عمق الشعوب وعبر بنائها النفسي والتاريخي، وهى سمات تحتاج إلى جهد كبير من أجل الإمساك بها والقبض عليها، بغية الفهم والتحليل. وهذه المجموعة من السمات أكثر ارتباطا بالتراث التاريخي والشعبي والديني للشعوب بحيث يمكن القول بأن التخلي عنها، حتى ولو كان ينتمي لأطر تاريخية ماضوية، يصيب المجتمع بهزات قيمية بنيوية عميقة.

وثالثا، وارتباطا بما سبق، تأتي مسألة الصعوبات الخاصة بالتعميم عند القيام بتحليل سمات وملامح شعب من الشعوب، فلا يجب اسقاط العابر الوافد السريع التحول على شعب من الشعوب بوصفه الممثل له، وإهمال المتجذر الأصيل البطيء التغيير. إن هذه المنهجية الخاطئة تؤطر الشعوب والأمم ضمن السمات الأكثر بروزا التي يسهل الإمساك بها، والخاضعة للأهواء السياسية وللقيود الأيديولوجية وللتنميطات البحثية المسبقة. فما أسهل الانقياد وراء المراكز البحثية الأمريكية المعاصرة المتخمة بالميزانيات الضخمة من أجل تنميط الآخرين والنيل منهم. ألم يحدث ذلك فيما سبق بخصوص الأفارقة الأمريكيين الذين تم وسمهم بأنهم كسالى، وأغبياء، وانفعاليين، وأكثر اقترافا للجرائم مقارنة بالجنس الأبيض الأرقى. ألم يتم استبدال كلمة أسود بكلمة عربي أو مسلم الآن وإلصاق كل الصفات العنصرية التي تم تنميط الأفريقي الأمريكي بها سابقا بالعربي المسلم. إن مخاطر التعميمات الخاصة بدراسات الشخصية القومية كبيرة جدا، وخصوصا من جانب هؤلاء الذين لا ينتمون إلى الأطر التاريخية والاجتماعية واللغوية لشعب ما، وينبرون لإطلاق التعميمات المفرطة البالغة الجهل والسذاجة والعنف.

ورابعا، وارتباطا أيضا بما سبق، فإن عدم التسرع في إطلاق التعميمات عن سمات شعب من الشعوب، وتحكيم العقل وهيمنة الهدوء العلمي الموضوعي المتجرد إلى حد ما من الأهواء والميول السياسية يمكن التوصل إليه من خلال البدء في إجراء عدد كبير من الدراسات الوصفية التي تبغي الوقوف عند رصد السمات الخاصة بشعب من الشعوب. فالانغماس في هذا الجانب يمنح الباحث مادة ثرية وغنية عن الممارسات الحياتية اليومية لشعب من الشعوب عبر فترة زمنية طويلة، بما يسمح له من رؤية التعارضات المختلفة في هذه السلوكيات، الأمر الذي يؤدي إلى الحذر في إطلاق التعميمات.
وفي ظل هذه البحوث الوصفية، إذا جاءت حسنة النية وليس على شاكلة كتابات الصهيوني باتاي، يمكن للقارئ أن يرى العديد من السلوكيات والممارسات المختلفة الخاصة بالشعب موضع الدراسة، بما يمكنه أن يشكل توجهات شبه معتدلة ترى الإيجابي والسلبي في الوقت نفسه، وترى تعدد السلوكيات الحياتية اليومية مثلما يحدث في أى مجتمع إنساني آخر. إن الاعتماد على هذه النوعية من الدراسات الوصفية يمنح القارئ القدرة على الاشتباك والحكم على السمات الخاصة بشعب من الشعوب، بدون أن يؤطر له الكاتب بشكل مسبق مسار تفكيره وتوجهاته. ولعل هذا ما قام به ادوارد وليام لين في كتابه البديع "عادات المصريين المعاصرين وتقاليدهم"، حيث الوصف الواسع المدى للمجتمع المصري وسلوكيات المصريين في القرن التاسع عشر، بشكل جمع بين الإيجابي والسلبي من جملة مشاهداته واحتكاكاته اليومية بالمصريين.

تمثل هذه المحددات المنهجية نقاط انطلاق مسبقة لدراسات الشخصية القومية، وهى تؤدي دورا كبيرا في تجنيب الباحث مخاطر الوقوع في التعميمات الساذجة والتحيزات المفرطة والاتهامات العنيفة. ويبقى في النهاية السؤال، وماذا عن ملامح وسمات الشخصية العربية المعاصرة؟ وهل تفيد هذه المحددات المنهجية في التعامل مع رصد ملامحها وسماتها في هذا الجزء من العالم الذي أصبح ملطشة لكل من هب ودب من أمثال الصهيوني باتاي وممن هم على شاكلته؟!!

بداية يمكن طرح مجموعة من التساؤلات المرتبطة بالشخصية العربية تتمثل فيما يلي: هل يوجد ما يمكن أن نطلق عليه الشخصية العربية؟ وهل يمكن الوقوف عند سمات وملامح هذه الشخصية؟ وهل يمكن تجاوز الاختلافات الاجتماعية والسياسية والحضارية بين الشعوب العربية للتوصل إلى المشتركات العامة فيما بينها؟ وهل يمكن القيام بذلك بدون الوقوع في مخاطر التعميمات المبتسرة التي تقع فيها بحوث ودراسات الشخصية القومية؟ وهل يمكن التوصل للسمات والملامح الحقيقية للشخصية العربية بدون التسرع بفرض تلك السمات والملامح الدعائية التي يفرضها الآخرون علينا، ونساعد نحن في استدماجها وإلصاقها بأنفسنا؟

أسئلة كثيرة ترتبط مباشرة بالشخصية العربية المعاصرة، كما ترتبط أيضا بدرجة كبيرة بالواقع العربي المعاصر المليء بالملابسات والتناقضات والتعارضات، المشحون بخطابات التمرد والخضوع، النهضة والسقوط، الاعتدال والراديكالية، الواقعية والخيال، المهادنة والمقاومة، الحياة والموت، التدين والانحلال، الستر والعري، الرقة والتوحش، الجرأة والخوف، الحب والكراهية، الوحدة والانقسام.

علينا وسط هذا الركام الهائل من تحولات الواقع وملابساته، من عدوان الآخر وبذاءاته، من رحم الهزيمة والقصور الحضاري، أن نتساءل من نحن؟ وماهي سماتنا وملامحنا؟ وهى أسئلة مشروعة ومطلوبة، حتى لو التقت الإجابات عليها في بعض الأحيان مع تأطيرات الآخر الغربي لنا. المهم أن نكون صرحاء مع أنفسنا، بالقدر نفسه الذي نريد فيه أن نعرف أنفسنا، بمعزل عن محاولات الآخرين لتقييدنا ضمن أطر محددة سلفا، وضمن تنميطات معدة مسبقا لنا. وهذه الصراحة تستند بالأساس إلى كون هذه السمات والملامح رغم تجذرها البنيوي هى نتاج لتلاقي التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، فهي ليست قدرا مقدرا ملازما لنا إلى أبد الآبدين.

خلف هذه الصورة المقبضة، يمكن الحديث عن سمات وملامح الشخصية العربية التي تجمع العرب من المحيط إلى الخليج، رغم المحاولات التي لم يهدأ لها بال من أجل المزيد من تفكيك وتفتيت هذا العالم، وإعادة صياغته وفق أهوائها ومصالحها. هذه الشخصية يجمعها العديد من المشتركات العامة، رغم القفز فوق العديد من التفاصيل التي تحددها اختلافات التاريخ والجغرافيا والعمق الحضاري. وهى مشتركات مرتبطة بواقع عربي مشمول بمستويات غير مسبوقة من التدهور الحضاري، وضعف مكانته الكونية بين شعوب الأرض وأممها، رغم ما يدعيه البعض من انفلات من ربقة هذه الوضعية العربية العامة.

ربما يمكننا البدء بملمح خاص بالشخصية العربية المعاصرة، لا يخلو من مخاطر التعميم التي حذرنا منها، لكنه يمثل، رغم ذلك، الغطاء العام والواسع للعديد من الملامح الأخرى المرتبطة بهذه الشخصية، رغم بروزها وذيوعها، وهو ملمح واحدية الرؤية للعالم، وقمع التنوع، وبتر الاشتباك مع المعطيات الأخرى.

تعاني الشخصية العربية المعاصرة من واحدية الرؤية للعالم، والتعامل معه من خلال أطر محددة قد تفرضها الأسرة أو العشيرة أو القبيلة، وينميها ويغذيها المجتمع والعادات والتقاليد. ولا تنبع هذه الواحدية من قصور عقلي وضمور فكري، بقدر ما تنبع من السياق السياسي الاجتماعي القامع الذي يفرض واحدية الرؤية، ويزرع رتابة الحياة، وينمي مشاعر الخوف والخضوع والسير بجوار الحائط، وإيثار السلامة. فالعربي أسير لما يعرفه، متآلف معه، وربما متواطؤ معه أيضا. والأمثلة العديدة الرائجة في العالم العربي مثل "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش" و "من فات قديمه تاه" تكشف عن تلك الدرجة من التوحد برؤى العالم السابقة، والدراية بالواقع من خلال الأطر المطروحة سلفا، سواء من قبل الحاكم أو كبار السن أو الآباء. فليس هناك ذلك القدر المطلوب من اكتشاف العالم واختباره سواء بالسلب أو بالإيجاب، كما لا يوجد ذلك التجدد والابتكار المطلوبين حتى في أصغر الأشياء الحياتية، وأقل الممارسات اليومية المحيطة بنا شأنا.

يرتبط بواحدية الرؤية للعالم عدم التعاطي معه برؤى متنوعة ومتعددة، وعدم التفاعل والاشتباك مع كافة المعطيات المحيطة به. فالعرب في تعاملهم مع إسرائيل قد انتقلوا من المواجهة العسكرية والحروب المتتالية إلى خيار السلام الذي يتحدثون عنه ليل نهار، وما بين الحرب والسلام لم يطرحوا أساليب جديدة ومتنوعة للمواجهة مع إسرائيل، ولم يغيروا رؤاهم وطروحاتهم مع مستجدات الواقع، وتحولاته المستمرة. يرتبط بذلك وجود العديد من الأطر الجامدة في التعليم والتدريس والإبداع السينمائي والأدبي رغم وجود بعض المحاولات الفردية هنا وهناك، التي تخرج على هذا الجمود، لتبرز قدرا ما من التنوع والتجديد. لا تقف المسألة عند الممارسات الفكرية والسياسية وارتباطاتها الرسمية أو النخبوية، لكنها تتعدى ذلك إلى العديد من ممارسات الحياة اليومية في الفرح والموت واللقاءات العائلية والقرابية المختلفة، حيث نجد الممارسات والسلوكيات نفسها التي يمارسها العرب منذ عشرات السنين بدون تجديد أو إضافة أو ابتكار.

يرتبط بما سبق الخوف من المبادرة والتجريب، والتعايش التام مع كل ما هو موجود سلفا، والمحدد من قبل الآخرين، الذين قد لا نعرفهم ولا نستطيع تحديدهم، لكنهم يحيون بيننا بقداسة مبهمة سرمدية ضاغطة ومهيمنة تجبرنا على طاعتهم واجترار ما قالوه وحددوه وفرضوه. ويمكن هنا الإشارة إلى العديد من السمات والملامح المرتبطة بضعف القدرة على الابتكار والتجديد مثل الانغلاق على المحلي المعيش وعدم الخروج عن دائرته، والخضوع لسطوة العادات والتقاليد وعدم التفكير في مناقشتها وتفنيدها، والتمحور حول عالم الأسرة والانقياد غير العقلاني لأطرها وقوانينها المفروضة التي تدعم وتكرس الكثير من القواعد الأنانية والمصالح الضيقة غير المجتمعية. ويفقد العربي المعاصر نتيجة لهذه الممارسات الرتيبة الواحدية المنظور الدهشة تجاه ما يحدث حوله، والقدرة على المواجهة، والتصدي القائم على التغيير. فالهزائم العسكرية المتتالية تمر مرور الكرام، والحوادث اليومية التي تتسبب في مقتل المئات تصبح جزءا من أقدار الحياة، كما أن رتابة الإعلام وممارساته اليومية القمعية فكريا وأيديولوجيا يتم التعايش معها، وعدم رفضها، بل والاستمتاع بها.

تؤدي واحدية الرؤية وقمع التنوع وعدم الرغبة في الاشتباك مع مستجدات الواقع الجديدة إلى تكريس الطابع الأخلاقي للنظرة إلى العالم المحيط، وهى واحدة من أهم سمات وملامح الشخصية العربية المعاصرة التي يمكن أن نفسر من خلالها العديد من السمات والملامح الفرعية الأخرى. وتكتسب الرؤية الواحدية للعالم، بغض النظر عن مصداقيتها، وربما صلاحيتها، تلك القداسة التي تجعل من تعامل العربي معها تعامل أخلاقي بالأساس. فمعظم الممارسات يتم تقييمها من خلال الحلال والحرام، بغض النظر عن صحة هذا الحلال وصحة هذا الحرام، وبغض النظر أيضا عن أن أكثر من يتحدثون عن الحلال والحرام، هم أكثر من يمارسون سلوكيات تتعارض في جوهرها مع أية قيم أخلاقية متعارف عليها إنسانيا. ويتيح التركيز على الحلال والحرام ذلك الانسجام الذي يحتاجه العربي المعاصر لكي يتوافق مع عالمه المتردي، وتلك القيود التى تفرض رؤى بعينها دون غيرها. فالنظرة الأخلاقية للعالم، تحيل إلى عالم آخر مفارق للعالم الدنيوي المعيش، ذلك العالم المؤطر برؤى دينية غالبا، والذي يتيح ذلك التعايش والقبول بالعالم المتردي الحالي. وينجح العربي بامتياز في التعامل مع العالمين عالم الحلال الذي يضنيه من أجل الفوز بالعامل الآخر، وعالم الحرام الذي يجذبه في كل لحظة، إن لم يكن بسبب التردي الشخصي الأخلاقي، فإنه يكون بسبب التردي السياقي الاجتماعي المحيط والقابض على الشخصي المتهالك.

تقود واحدية الرؤيا للعالم والرؤية الأخلاقية له إلى الصرامة في الحكم على الآخرين وعدم إيجاد الأعذار لهم، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى صعوبة الانفتاح على الآخر المخالف في التوجهات والأفكار والمشارب، بغض النظر عن طبيعة هذا الآخر ومدى اختلاف توجهاته وأفكاره. وبسبب من غلبة الحكم الأخلاقي على الآخرين يغلب أيضا ذلك التطرف الذي يميز الشخصية العربية بين الحب الشديد وبين الكراهية الشديدة. فالشخصية العربية، وبسبب من اضطرابات البنية الاجتماعية والسياسية لعقود طويلة من الزمان، وبشكل خاص تقلبات السياسة واضطراباتها الحادة، قد تأثرت أيضا بمثل هذا المناخ الذي انسحب على مجمل العلاقات اليومية، حيث العربي إما أن يحب بشدة أو يكره بشدة، وما بين فعل الكراهية وفعل الحب لا توجد خيارات أخرى.

لا ينفصل ما سبق عن واحدة من أهم سمات الشخصية العربية المعاصرة وهى التعلق بعالم المثاليات أكثر من الاشتباك الواعي الموضوعي مع الواقع المعيش. فالحديث عن الإسلام على سبيل المثال يتم من خلال مثال ماضوي يتيح إحساسا بعظم الأمة الإسلامية في الماضي مقارنة بالواقع الحالي الذي لا يريد العربي مواجهته وتغييره. كما أن التعامل مع المرأة يتم أيضا من خلال عالم المثاليات الذي يربط جسدها بقيم الشرف والحشمة والأخلاق والارتكان لعالم الذكر الفرد الواحد. وهذا التصور المثالي للمرأة ربما هو الذي أوقع الكثير من الكتابات الغربية في خطأ التفسير القائم على هيمنة الذكر على الأنثى واستعباده له. فالعربي مازال يتعامل مع المرأة، وبشكل خاص جسدها، بوصفها مثالا للقيم الاجتماعية في أعلى مراتبها، ولأنها المثال الأعلى في منظومة القيم العربية فإنه من الواجب الحفاظ عليها وسترها. وهى مفارقة غريبة، حيث هذا التقدير المثالي يقود إلى منظومة متوارثة عبر الأجيال من القيود والرقابة والهيمنة.

تلعب هذه السمات الثلاث، واحدية الرؤية للعالم والنظرة الأخلاقية والتناول المثالي للواقع المعيش، دورا كبيرا ومحددا للكثير من السمات الأخرى الخاصة بالشخصية العربية المعاصرة مثل الانفعالية وضعف العمل الجمعي وعدم الثقة في الآخرين ممن لا ينتمون للمحيط العائلي... إلخ من السمات العديدة الخاصة بالشخصية العربية المعاصرة. ويمكن القول بأن هذه السمات الثلاث تتجذر في الشخصية العربية لارتباطها بالدين أولاً، وبالرغبة في الانفلات من حالة التخلف الحضاري ثانياً، وبالنظرة إلى المرأة ووضعيتها المجتمعية والجسدية ثالثاً. ورغم التأثيرات الهائلة لهذه السمات الثلاث، فإن تطوير الشخصية العربية وتحريرها من قيود هذه السمات، وما يرتبط بها من سمات أخرى فرعية غير متجذرة في الشخصية العربية، هو رهن بتغيير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالمواطن العربي، ورهن أيضا بمدى تفاعل هذا المواطن مع هذه التغييرات ومدى استجابته لها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى