الثلاثاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

المبالغة في التغيير وآثارها الضارة

إن أحد الافتراضات التي يقبلها عدد من المفكرين في العالم، وخصوصا في الغرب، هو أن الحضارة الغربية المعاصرة عالمية وأن تغير الظروف - الذي يصفونه بأنه جذري - نتيجة عن وجوه التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حقق في العقود الماضية جعل تراث ما قبل العهد الصناعي لجميع الشعوب غير الأوروبية باليا. غير أن هذا الافتراض خاطئ. وسنعمد في هذا المقال إلى محاولة إثبات خطأ هذا الافتراض.
للثقافة تعاريف. وأحد هذه التعاريف هو أن الثقافة "طريقة العيش". ووفقا لهذا التعريف فإن الثقافة الغربية الحاضرة ليست عالمية، إذ توجد شعوب لها طرق مختلفة للعيش، أي لها ثقافات أخرى.

ولكل ثقافة جوانب. وتوجد ثقافات لها جوانب متشابهة وجوانب مختلفة. ولثقافات معينة جوانب أكثر عالمية من جوانب أخرى. فالجانب التكنولوجي للثقافة الغربية أكثر عالمية، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن العنصر القيمي الذاتي في ذلك الجانب أقل وبالتالي فإن تبني أو تمثل الشعوب غير الغربية لذلك الجانب أكبر وأكثر سهولة. ومن نافلة القول إن عالمية جانب من جوانب ثقافة واحدة لا تعني عالمية تلك الثقافة برمتها.
وثمة جوانب للثقافة الغربية لا تشكل جوانب لثقافات أخرى. ومن جوانب الثقافة الغربية الإفراط في التأكيد الموضوع في الغرب - وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية - على قيمة التغيير والشباب والجدة باعتبار الغرب لها الشيء الحسن الأعلى النهائي والإهمال أو الاحتقار الموازي لكل
شيء قديم )بما في ذلك الناس المسنون( وللماضي والتقاليد.

هذه النظرة الثقافية الغربية ليست عالمية. الإفراط في التغيير ليس قيمة عالمية. فلسفة المبالغة في التغيير وفي الدعوة الى التغيير ليست فلسفة عالمية. فلشعوب من ثقافات أخرى نظرة إلى قيمة التغيير والجدة وإلى القديم تختلف عن هذه النظرة. وعلى الرغم من إدراك شعوب ذات ثقافات أخرى لقيمة التغيير والجدة والشباب ومن إدراك وجود عيوب في بعض التقاليد التي خلفها الماضي فإننا لا نجد في تلك الثقافات ذلك الإفراط في التأكيد الذي نجده في الثقافة الغربية.

وموضوعيا ليس كل تغيير بالضرورة تحسينا على طريق التقدم، وليس الأجد بالضرورة أفضل من الاقدم. وليست محاولة الدفاع عن معايير أقدم تعني التراجع إلى وجود مقلص. وللظروف والاعتبارات الموضوعية والذاتية للشعوب أثرها في تحديد مواقفها الثقافية من قيمة الجديد والقديم. فموضوعيا للماضي لدى الشعب العربي وشعوب أخرى غير غربية أهمية ثقافية أكبر من الأهمية التي يتمتع بها الماضي في الغرب. وذاتيا للماضي والتقاليد العربية مكان أكبر في تشكيل الشخصية العربية - سواء كانت متجسدة في الفرد أو الجماعة - من المكان الذي يشغله الماضي والتقاليد في الغرب. والشعب العربي، على سبيل المثال، لا يزال يمر بمرحلة التطور الاجتماعي والقومي الهام في ظروف تختلف عن الظروف التي مرت شعوب أخرى بها. ونظرا إلى اختلاف هذه الظروف فنظرة الشعب العربي إلى الماضي والجديد والقديم لا بد من أن تكون مختلفة عن نظرة شعوب مرت بهذه المرحلة.

ويؤدي التغيير وظائف مختلفة. وإحدى هذه الوظائف إيجاد الظروف التي تسهم في تحقيق الأهداف الطيبة للفرد والجماعة والمجتمع ونقل المجتمعات البشرية إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يمكن فيها تحقيق التحسين الاجتماعي والاقتصادي.
ونظرا إلى النتائج الوخيمة التي تترتب على المبالغة أو الإفراط في التغيير فإن من الخطأ الجسيم اعتبار الإفراط في التغيير والتجديد واعتبار احتقار القديم واحتقار التقاليد لمجرد أنه جديد وقديم ولمجرد أنها تقاليد مقياسا من مقاييس التحسين أو النهضة أو الحداثة. بالإفراط في التغيير يجري تجاوز التحسين إلى ما هو غير ذلك، وذلك لأن الإفراط - وهو ما نشهده في الغرب اليوم - يتضمن تجاوز ما يتطلبه موضوعيا السياق القائم. بالإفراط في التغيير يجري تجاوز الحدود البنيوية للتغيير المتوخى. بذلك الإفراط لا يعود الفكر يخدم الهدف المتوخى، وتنقطع الصيغ الفكرية عن الهدف المتوخى، وقد تحدث الفوضى الفكرية أو التحلل الفكري الاجتماعي. وبالإفراط في التغيير يمكن أن يتحقق ما هو مناف للهدف المتوخى. ليس من المضمون مطلقا أن تضمن الصيغ أو البنى الفكرية المنقطعة عن سياق الهدف المتوخى تحقيق ذلك الهدف. وإشاعة وتبني مثل هذه البنى الفكرية يمكن ويحتمل احتمالا كبيرا أن يكونا مسببين للتعاسة البشرية أو لاحتضان فلسفات لا تؤدي إلى تحسين ظروف الحياة ولكن تؤدي إلى الضباب الفكري أو الأوهام الفكرية.

والإفراط في الإسراع بالتغيير يجعل طول علاقة الإنسان بالأشياء وبالبيئتين الاجتماعية والطبيعية اللتين حوله قصيرا. وهذا الإفراط يفقد الحس بالدوام بين الإنسان وما حوله، وبين الإنسان والإنسان في الغرب، وبين الإنسان وماضيه وتراثه. وبروح هذا الإفراط تشيع في الغرب ثقافة نبذ الأشياء أو طرحها، ويشيع اقتصاد نبذ وطرح الأشياء والتراث والماضي والحاضر وربما حتى المستقبل. وفي ظل ثقافة الإفراط في التغيير يتعلم الطفل بسرعة أن البيت مجرد آلة للمعالجة: في تلك الآلة تتدفق الأشياء ومنها الإنسان وتدخل وتخرج بمعدل أكبر من السرعة. في الغرب ذي الثقافة هذه قد يزداد عدد الناس الذين يتصل الفرد بهم ولكن مدة هذا الاتصال قصيرة. ذلك كله يبين أن الإفراط في التغيير يؤدي إلى التحلل الاجتماعي والقيمي وإلى تدمير الروابط الإنسانية.

في هذا السياق، سياق موقف الغرب من التغيير والجدة والقديم، الثقافة الغربية، كما أسلفنا، ليست عالمية. موقف الغرب من التغيير والجدة والقديم نابع من الخلفية المعرفية الثقافية التاريخية الغربية المختلفة كما هو معلوم عن خلفيات شعوب المناطق الأخرى. كما أن تلك الخلفية الغربية أوجدت دوافع سياسية واقتصادية تروج لهذا الموقف. ولم توجد الخلفية غير الغربية، التي تختلف عن الأولى، دوافع مماثلة. والشعوب غير الغربية يمكنها أن تحقق معايير التقدم والنهضة دون أن تتبنى الموقف الغربي المتخذ من القديم والماضي والتقاليد والجديد والتغيير، وهو الموقف المتسم بالمبالغة في التغيير وفي استحسانه وفي احتقار ومعاداة الماضي والتقاليد والقديم.

وللمجتمع مصادر سلطة مختلفة وتوجد مراجع مختلفة للقضايا البشرية. وعندما يقوض، نتيجة عن المبالغة في التغيير، مركز الماضي باعتباره أحد مصادر سلطة المجتمع، تقويضا مفاجئا وجذريا جدا، وعندما يكف الماضي عن كونه أحد المراجع الموثوق بها للقضايا البشرية يبدأ أساس هام من أسس صحة الإنسان بالانهيار لما يحمله الماضي من بعض الرموز والمعاني ذات الأهمية لسلامة المجتمع وللحفاظ على توازنه وتماسكه.

ويتضمن الماضي قيما روحية واجتماعية وحضارية طيبة تسهم في التماسك الاجتماعي. والانقطاع السريع المفاجئ عن الماضي نتيجة الإفراط في التغيير من شأنه أن يؤدي إلى ضياع تلك القيم، مما يؤدي إلى إضعاف التماسك الاجتماعي، ومما قد يؤدي الى الانحلال الاجتماعي والثقافي والخلقي. ونظرا إلى أن الشعوب العربية - شأنها شأن سائر الشعوب النامية - تمر بمرحلة التطور الاجتماعي والاقتصادي وبمرحلة بلورة الانتماء القومي فإن من المعقول القول إن من اللازم أن تكون لقيم روحية وثقافية مستمدة من ماضيها أهمية كبيرة في حياتها. فبالمحافظة على تلك القيم يجري التعويض عن القيم التي تفقدها تلك الشعوب من جراء عملية التغير التي تنطوي على فقدان بعض القيم. وبالتالي فإن المبالغة في التغيير - التي تسهم في فقدان التماسك الاجتماعي – من شأنها أن تلحق الضرر بهذه الشعوب.

ويبين تعريف الثقافة الذي سقناه سابقا العلاقة العضوية بين الثقافة، من ناحية، والماضي والتراث والعادات والتقاليد، من ناحية أخرى. إن مفهوم التغيير المعجل به وغير المقيد باعتباره الشيء الأفضل هو الذريعة التي يتعلل بها لتبرير محاولة التدمير التام والعشوائي للثقافات غير الغربية ولتبرير محاولة توطيد السيطرة الثقافية الغربية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى