السبت ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
ملاحظات حول القصة الجزائرية الراهنة
بقلم عيسى شريط

الثراء الفوضوي للتجربة في ظل الغياب المريب للفعل النقدي

إذا ما تأملنا رأي النقاد والكتاب الجزائريين فضلا على رأي الشعراء أنفسهم، فإننا نقف على حقيقة قد تبدو للوهلة الأولى مغالية من حيث أنها تؤكد بشكل قاطع أن النص النثري في الفضاء الأدبي الجزائري الراهن أكثر الأجناس الأدبية تطورا ونضجا، مما مكنه من إيجاد مكانة له ضمن فضاء نظيره العربي وتمكن من مسايرة تطوره من كل النواحي الشكلية والموضوعية..ففي مجال الشعر، يبدو أن القصيدة الراهنة تفتقر الى جملة العناصر التي تضمن لها صفة القصيدة الشعرية أو بالأحرى شعريتها "Poécité"، لعل أهم هذه العناصر هو بديهية توفرها على عاملي الصدق الفني والتجربة الفكرية والحياتية، في حين يتوفر النص النثري على هذين العاملين بشكل يجعله أكثر نضجا وعمقا...

الغرض المستهدف من هذا التمهيد ليس المقارنة بين الجنسين الأدبيين بقدر ما هو الإشارة الى أهمية ومستوى النص النثري الجزائري رواية وقصة قصيرة، مما يستدعي لفت انتباه النقاد الى ضرورة احتضانه نقدا أكاديميا يمهد له سبل التطور أكثر باعتباره الجنس الأدبي الوحيد حاليا، الكفيل بلعب دور السفير المتميز للتجربة الأدبية الجزائرية ضمن نظيراتها الأدبية العالمية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، محاولة إثارة انتباه المعنيين الى الاهتمام أكثر بالنص النثري الذي أرى أنه مهمش مقارنة بنظيره الشعري، فمنابر الشعر في الجزائر كثيرة علبى الرغم من ضعف القصيدة الشعرية من حيث الإضافة والتجديد والتجربة الفنية الفكرية والحياتية، بل ويعتقد الشعراء أنفسهم بأن القصيدة الجزائرية الراهنة هي مجرد اجترار لتجارب سابقة، هذا الشاعر الرائع "عاشور فني" يؤكد ( الاستعجالية واستعادة تجارب الآخرين هما آفتا الإبداع في الوقت الراهن، لقد شاع السطو على نصوص الآخرين...التجارب الزائفة تتصدر المنابر الإعلامية وتصادر حق الآخرين)(1)..ويؤكد الشاعر "الأخضر فلوس" من جهته وبإصرار مثير في كثير من اللقاءات وأكثر من منبر نفس الطرح، بل يكاد يجزم في بعض الأحيان أن ما ينشر الآن من قصائد لا يتعدى على الإطلاق الفعل الاستنساخي الوفي لتجارب سابقة أتى معظمها من المشرق العربي...

قبل التطرق الى تجربة القصة القصيرة الجزائرية الراهنة، انطلاقا من تجربتي الشخصية المتواضعة، بالإضافة الى اعتمادي على جملة المقاربات النقدية الانطباعية التي تمكنت من حوصلتها على مدى أكثر من أربع سنوات، وعلى ضوء ما أنتج من القصص المنشورة سواء عبر الملفات الأدبية الصحفية أو عبر ما نشرته بعض الهيئات والجمعيات المتخصصة، أرى أنه من البديهي أن نعرج قليلا على محور مفهوم القصة القصيرة تنظيرا بعيدا عن المفاهيم المدرسية القاموسية البسيطة الساذجة التي تستند على مفاهيم تعمل دوما على تكريس حدود صارمة يتعذر تجاوزها، قامعة كابتة لكل مبادرة مبدعة مؤسسة عادة على توفر عامل التحرر من كل موروث كابت..

(إن محاولة التنظير للقصة القصيرة وشرحها والتعريف بها كمحاولة وصف مرآة لشخص همجي لم ير مرآة في حياته) هكذا تعتقد الكاتبة الأمريكية " هالي بيرنت Hallie Burnett ) (2)التي أشرفت على المجلة الأمريكية "Story" لمدة تقارب أربعين سنة، وهذا الاعتقاد النابع من صاحبة تجربة كبيرة لها باع في كتابة القصة القصيرة (*) لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، بل يستدعي الانتباه والتمعن فيه وفيما يحوي ما بين سطوره..لعل أبرز ما نستخلصه هو أن هاجس تعريف الأشياء اللاصقة بالفعل الإبداعي تعريفا كيميائيا نهائيا مطلقا حيث رسم الحدود الصارمة وحصر القواعد الملزمة يتعذر تجاوزها، يعد ضربا من التهور الذي لا يسعى إلا خلف كبت كل مبادرة إبداعية تسعى الى التجديد، كما يعمل هذا التهور وبشكل وفـيّ على تكريس الموروث بكل حذافيره سلبا وإيجابا..

التعريف أو المفهوم في اعتقادي، يسعى الى تحقيق غرض محدد يصب في إدراج بعض البديهيات التي تمكننا من اعتبار ما نقرؤه رواية أو قصة، أو قصة قصيرة، مما يحتم بل يجب على التعريف أن يتحرر من صفة "المطلق" ويكتفي بالإشارة الى ما يجب توفره من عناصر يسمح لنا بإمكانية تحديد وتصنيف ماهية النصوص بغض النظر عن أسلوب كتابتها أو كيفية بنائها، وتأسيسا على ما سلف يمكن اعتبار أي نص نثري يتوفر على جملة من العناصر أهمها الأسلوب، الشخصيات، الأحداث ، المواقف، الرؤى والأفكار التي تشكل وجهات النظر، عملا قصصيا حتى وإن تحرر في كيفية بنائه من كل الأساليب والمذاهب المعهودة التي يمجد بعضها فعل اللاتجاوز لكل الخطوط الحمراء المحددة مسبقا، ذلك في اعتقادي، ما يعمل بشكل وفـيّ على هضم حق القارئ وحرمانه من لذة المتعة التخيلية التي تمكنه من المساهمة في العملية الكتابية الإبداعية عبر ما يضيفه من لمسات ذاتية للنص، خلافا مثلا، لما كان "تشيخوف" يؤسس عليه أعماله الأدبية التي تسهر على احترام القارئ وإقحامه في العملية الإبداعية، إذ قال ( عندما أكتب أراهن بعمق على القارئ واعتمد عليه في إضافة العناصر الذاتية والشخصية التي يفتقر إليها نصي)(3)..لعل "تشيخوف" يبحث من خلال ذلك على ضمان فعل التواصل الإيجابي بين نصه والقارئ، واليقين أن هذا التواصل لن يتم إلا إذا كان النص موحيا وجذابا ومغريا الى حد يتمكن فيه من إثارة فضول القارئ المعاصر وجذبه الى قراءته و متابعته، ذلك يتحقق بفعل الإمتاع والتشويق ودغدغة الوجدان والعقل، أما إذا ما أفتقر النص النثري الى حركتي الجذب والإغراء فإنه لن يتمكن من إثارة حركة التقارب لدى القارئ بقدر ما تثير حركة نفوره مما يمنع التواصل بينهما إيجابا(**)..علما بأن مفاهيم القصة القصيرة اختلف في تحديدها وتعريفها كثير من الكتاب والنقاد أسلوبا وبناء ومحتوى، مما يؤكد صعوبة التنظير المطلق لهذا الجنس الأدبي المتميز، واعتقادي أن المفاهيم المعاصرة التي تحاول تحديد ماهية القصة القصيرة هي التي تكتسي الأهمية اعتبارا للراهن ورؤاه الفلسفية والفكرية والجمالية التي تمكننا من إنتاج أدب جزائري راهن يتوفر على قدرة التأقلم والتفاعل الإيجابي والظواهر الفكرية والثقافية الآنية التي يبدو أنها لا تتفاعل وكل قيمة بالية تكرس التطرف واللاتسامح والانسداد اتجاه الثقافات الأخرى، ذلك فقط ما يمكننا من الحفاظ على الذاتية المتميزة وتوفير إمكانية الوجود في ظل زحف العولمة بكل أشكالها، مقارنة والمفاهيم القديمة التي ربما قد تجاوزها الزمن في مسايرة هذا الراهن...
من بين المحاور التي تطرقت إليها الكاتبة الأمريكية "بيرنيت" في كتابها استعراضها لمفهوم عدد من الكتاب المعاصرين للقصة القصيرة، يرى البعض أن القصة التي لا تحوي على وجهة نظر مع بناء فني جيد لا تساوي شيئا.. ويرى البعض الأخر بأنها تعتبر حكاية من صنع الخيال لها معنى وممتعة من حيث جذب انتباه القارئ، وعميقة من حيث تعبيرها على الطبيعة البشرية. ويرى بعضهم بأن القصة القصيرة الناجحة هي تلك التي تتوفر على عاملي المتعة والجذب، ولا أهمية للاتجاه الذي تحاول استدراج القارئ إليه، فإن ما يهم القارئ حسب رأي "تشيخوف" هو أن تشده القصة وتصدمه وتمتعه فضلا على زرع الشعور فيه بأنه قد خاض تجربة أكثر عمقا من تجاربه الخاصة..في حين يعتقد بعض الكتاب بأن على القصة أن تقدم فكرة في المقام الأول ثم وجهة نظر ومعلومة ما عن الطبيعة البشرية بحس عميق، ويأتي بعد ذلك الأسلوب...

وخلاصة لكل هذه الرؤى المعاصرة والمختلفة ترى الكاتبة بأن العنصر الجوهري الذي يحدد جودة القصة في النهاية هو القصة نفسها ومدى صدقها الفني..لعل القارئ الكريم قد لاحظ عبر مجمل المفاهيم أن الكتاب المعاصرين يبحثون دوما على تحرير القصة القصيرة من كل ضوابط وقواعد صارمة يتعذر تجاوزها...

إن تواصلي وتجربة الكتابة النثرية الراهنة في الجزائر، وفي القصة القصيرة تحديدا تم تأسيسا على ما يعرف بالقراءة الشاعرية بعيدا عن قراءة الشرح التعليمية وقراءة الإسقاط التي تعتمد عادة المناهج الجاهزة لقراءة النص وتحليله، ذلك ما مكنني من التواصل والنصوص بشكل إيجابي منتج بمعنى أن علاقتي بمختلف النصوص التي قرأتها، علاقة نصوص متميزة باحتوائها على جملة العناصر المشوقة والمغرية والجذابة بقارئ إيجابي شدته جملة هذه العناصر وتسربت الى ذاته المنتجة ليتواصل والنصوص بشكل يتعدى القراءة العادية الى القراءة النقدية..واعتقادي، أن مثل هذا التواصل العاطفي بين النص وقارئه هو الكفيل بإحداث التفاعل الذي يسمح باستنطاق النص وتفكيك رموزه وتأويلاته وربما قد يولده معاني ليست فيه أصلا...

إن إصراري على متابعة ما ينشر من قصص قصيرة ببعض الصحف التي تتوفر على ملفات أدبية وما نشرته بعض الهيئات والجمعيات من مجموعات قصصية ( سنوات منتصف التسعينيات تحديدا الى اليوم) مكنني من حصر جملة من الملاحظات تشترك فيها معظم الأعمال القصصية الراهنة، واقتصر في هذه العجالة الانطباعية على الكتاب الذين ظهروا في هذه المرحلة تحديدا وما بعدها، والذين عانوا ويعانون من فعل الإقصاء النقدي من قبل النقاد بدون سبب مقنع يذكر عدا رفضهم لما يكتبون مسبقا على الرغم من جودة بعض ما يكتبون، ولن استشهد بمن اعتبرهم روادا للقصة القصيرة الذين نالوا حظهم من النقد وحتى ترجمة أعمالهم، ومنهم من تميز بأسلوبه الخاص جدا كالأستاذ "السعيد بوطاجين" على سبيل المثال لا الحصر، يبهرنا دوما بإبداعاته القصصية المتميزة أسلوبا ومضمونا وشخوصا وباختياره لعناوين صادمة لمجموعاته ( اللعنة عليكم جميعا، ما حدث لي غدا)..سأستند إذًا على إبداعات الكتاب المغمورين لتمرير ملاحظاتي..

لعل أول الملاحظات حول هذا الزخم الإنتاجي الفوضوي ينحصر في افتقار معظم القصص الى المادة القصصية الكفيلة بإحداث عنصر الجودة واعتقادي أن أغلب كتاب القصة لا يسعون في المنطلق خلف البحث عن هذه المادة التي تكمن بكل بساطة في تجارب الكاتب الشخصية وفي علاقاته والآخرين ومستوى ثقافته ومدى إطلاعه على التجارب الإبداعية السابقة فضلا على انفتاحه على ثقافة الأخر ، بمعنى أن الكاتب لا يمكن له الوقوف على هذه المادة القصصية إلا من خلال سعة إطلاعه وتنوع وثراء تجاربه في شتى مجالات المعرفة والحياة، هذا التراكم هو الذي يمكنه من الإيمان بما يكتبه وانغماسه فيه بشكل يساعده على تفجير ظواهر نصه الفكرية والجمالية مما يؤثر إيجابا على القارئ..واستنادا على ما تمكنت من قراءته أكاد أجزم أن القاص الجزائري الشاب لا يقرأ أو لعله لا يتقن كيفية القراءة التي تزود من رصيده المعرفي ومن المادة القصصية وتمكنه أيضا، اعتمادا على تراكم تجاربه الكتابية وتفاعلها وتجارب الآخرين من استنباط أسلوبه الخاص والمتميز..والملاحظ في هذا الجانب كأن بعض الكتاب يحددون مسبقا محاور ومواضيع نصوصهم، يفكر هذا في الكتابة عن البيروقراطية، وذاك عن الرشوة أو عن البطالة ومحاور أخرى اجتماعية مما يطبع نصوصهم بالطابع الاستعجالي والمتكلف الذي عادة ما ينتج نصوصا خاوية من أي قيمة فكرية وجمالية، وهي بذلك لا تتعدى صفة نصوص الوعظ الإنشائية التي عادة ما تبتعد عن احتضان المحاور المتصلة بالهموم والطبائع البشرية بمعنى أنها تعتنق قيمة أخلاقية أو لا أخلاقية واحدة يحاول الكاتب بناء أحداث ومواقف قصته بشكل متكلف يفضح صنعة تفتقر الى المهارة الفنية التي وحدها يمكنها تفجير الظاهرة الجمالية، ذلك ما يعري أيضا، غياب عامل الإيمان بما يكتبون وبالتالي افتقار نصوصهم الى عامل الصدق الفني بالإضافة الى افتقار الكاتب الى الأسلوب الخاص، ففي غياب الذاتية والموضوع الملتصق دائما بالذات ومنها بالحس الإنساني، تغيب فردية الأسلوب أي أن الكاتب إذا ما تطرق الى قضايا الإنسان العاطفية والوجودية انطلاقا من ذاته ومن الغوص في أعماق تجاربه الخاصة دون اللجوء الى تزييف الأشياء والأحاسيس، والذي يفرض عامل الرقابة في شتى أشكالها، يتوفر أسلوبه حينها على بصمة الفردية والخصوصية (***)..ورغم ذلك يتمتع بعض الكتاب بالموهبة والاستعداد الفطريين للكاتبة مما ضمن لهم الصياغة الفنية لنصوصهم التي على الرغم من ظاهرها المفتقر للمادة القصصية نسبيا تأتي مثيرة للدهشة والمتعة وهي بذلك تعج قصصا جميلة إذا ما استندنا على رأي "تشيخوف" الذي لا يشترط في القصة القصيرة سوى توفر عاملي المتعة والصدمة..هي أعمال إذن، تستدعي التأمل والتوجيه من قبل النقاد، أذكر من بين هؤلاء القصاصين ( الطيب توهامي، سعدي الصباح، مسعود غراب، فاطمة غولي، محمد رابحي، محمد الكامل بن زيد، محمود عيشونة، يوسف صواق، محمد بلعيد، روان علي الشريف، عبد الباقي كربوعة، محمد الصديق يغورة) وغيرهم من الكتاب..

وثاني الملاحظات تصب في ظاهرة الإسهاب السردي وهي في اعتقادي من العيوب الأسلوبية للقصة القصيرة التي تستند فرضا على الإيجاز الذي يبقي على صفتها كجنس أدبي متميز..وتأسيسا على القاعدة العلمية التي تنص أنه كلما دق الشيء كلما زادت خطورته، فإن القصة القصيرة كلما جاءت مختزلة كلما كان تأثيرها خارقا على القارئ، ذلك ما اعتمده "ألكسندر بوشكين" في أعماله النثرية إذ يتميز أسلوبه بالوضوح المتناهي وإيجاز العبارة ودقتها وخلوه من كل تزاويق الاستعارة والتشبيه، وأكد ذلك بقوله: ( الدقة والإيجاز هما فضيلتا النثر، فهو يتطلب المزيد والمزيد من الأفكار التي تغني عنها أية تعابير زاهية) (4).

ورغم ذلك لا تعتبر الإسهابية في الوصف لدى بعض الكتاب عيبا أسلوبيا اعتبارا الى اتسامها بعفوية وتلقائية لا غبار عليهما، فلا يكاد القارئ يشعر بعاملي التكلف والحشو من بداية النص الى نهايته، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر القاص "جيلالي عمراني" الذي يتميز أسلوبه بخصوصية مثيرة من حيث الإصرار على الإسهاب في وصف الأشياء والمواقف والحالات النفسية بمعنى أن الكاتب يسهب في استعمال جملة من النعوت والمترادفات لوصف حالة واحدة كقوله مثلا ( ضربات الشمس الحارقة المستقيمة الحارة) و قوله ( استسلم في أخر النهار للأحزان والآلام وكل الأحاسيس المحبطة والمدمرة) و قوله (صوت داخلي يذكره بسذاجته وغفلته وكل حماقاته وأخطائه) وأيضا ( مصر على تعداد مشاكله وعلاقاته وأزماته وهمومه) وقوله أيضا ( اكتشف حزني ودموعي وهمومي) (5)...وهذا الإسهاب في توظيف المترادفات والنعوت في قصصه جاء متسما بالعفوية، يبدو للوهلة الأولى أن الكاتب يعاني من هذيان مزمن يدفعه الى قول كل شيء و بإسهاب ملح مما يحقق درامية أعمق للموقف والحالات النفسية للشخصية ذلك ما أعطى لبعض المشاهد والحالات في شموليتها تصورا أدق وأعمق، وهو العامل المغري الذي يستدرج القارئ الى التفاعل والنص منذ البداية...

أما الملاحظة الثالثة، فتلتصق برسم الشخصيات، إذ يبدو أن الكثير من الكتاب الشباب لا يعيرون اهتماما لهذا الجانب الجوهري في كتابة القصة الذي يشكل بمفرده فضاء خصبا للفعل النقدي المستند على التحليل النفسي للشخصيات، بل تبدو أحيانا بعض النصوص خالية تماما من الشخوص باستثناء شخصية الراوي أو الكاتب نفسه الذي يضع نفسه محورا لكل المواقف فتبدو مجرد اعترافات تحاول تعرية الأشياء عبر نقد اجتماعي وسياسي ساذج في أغلب الأحيان، ذلك ما يعري في اعتقادي، نرجسية مزمنة تدفع بالكاتب الى الاعتقاد بالنبوة، مثل هذا الاعتقاد لا يمكن أن يصنع كاتبا ناجحا لأن الكاتب سرعان ما ينجر خلف أوهامه النرجسية التي تفرض التموقع حول الذات وتغيبها عن محيطها من حيث تواصلها وتفاعلها بالبيئة المحيطة وبالواقع المعيش بكل تفاصيله، فتبدو النصوص إنشائية لا أكثر، والشخصيات أو بالأحرى شخصية الراوي تبدو في أغلب الأحيان شخصية كرتونية هشة ذات نزعة رومانسية تؤسس عادة على الفضائل والمواقف الفروسية بشكل يثير التقزز..واعتقادي أن مثل هذه الشخصيات نادرة الوجود في هذا الزمن وفي مجتمعنا العربي تحديدا كي لا أقول منعدمة، الإنسان الجزائري والعربي عموما عانى كثيرا منذ قرون ويلات الاستعمار وقهر استبداد الأنظمة والجماعات المتطرفة ومن التخلف والجهل العوامل التي أتت على رومانسيته، والمرأة التي ترعرعت في نفس الظروف والمعاناة لا تنجب في اعتقادي، سوى ابنا ناقما يهتدي الى استعمال كل الطرق لتحسين وضعه إلا وسيلة الرومانسية والفضائل والمواقف الفروسية..هذا الإهمال لأحد العناصر الجوهرية للقصة يفقر النص النثري من حيث توفره على أحد عناصره البديهية التي على ضوئها يمكننا تحديد ماهيته من حيث اعتباره قصة أو لا، كما يعمل على انسداده من حيث إمكانية تناوله نقدا وتأويلا..الكاتبة "برنيت" ترى بألا أحد يمكنه خلق شخصية من الملاحظة فقط، ولكي تبدو الشخصية حقيقية وحية لا بد أن تكون ممثلة لشخص المؤلف بدرجة ما، بمعنى أن الكاتب لا يمكنه نقل شخصية يعرفها في الواقع بكل حذافيرها، وإذا ما فعل فلن تكون شخصيته متميزة إلا إذا غذاها ببعض السمات والبصمات الذاتية، ذلك ما يؤكد أن كل شخصيات القصة باختلاف أجناسها وطبائعها ومستوياتها الاجتماعية والثقافية تحمل بذورا وملامح من شخصية الكاتب نفسه.. واليقين أن هذا الإهمال في رسم الشخصيات لا يسري على كل الكتاب الشباب أو بالأحرى الذين برزوا نشرا في التسعينيات الى اليوم، بل إن بعضهم يصر بشكل واضح على الغوص قي أعماق شخوصهم لتبدو متميزة وجذابة أكثر، أذكر على سبيل المثال لا الحصر ( حسين فيلالي، عبد القادر بن سالم، قلولي بن ساعد، زهرة بوسكين، عبد الوهاب بن منصور، الأخضر بوربيعة، الخيّر شوار، منير مزليني، فاتح سبقاق، خليل حشلاف، جميلة زنير، عباس قاسيمي) وغيرهم كثيرون ممن نشروا وينشرون بالصحف اليومية لا يسع المجال لذكرهم جميعا..

أما أخر الملاحظات أحاول من خلالها كشف بعض النصوص التي حاول أصحابها إدراجها ضمن الفعل المجدد من حيث الأسلوب والمضمون والبناء، فمن ناحية المضمون يعتقد بعضهم بأن التجديد يكمن في إدراج بعض "الخرجات" الجريئة ضمن نصوصهم لتوحي بتفردهم وشجاعتهم على تجاوز بعض القيم كاختيارهم لموضوع الجنس مثلا، الذي يعد من المواضيع الحساسة في مجتمعنا كي لا أقول محرمة، أو محاولة التمرد على بعض القيم والمعتقدات والعادات الاجتماعية ذات القيمة المعنوية "المقدسة"..مثل هذه الرؤية الساذجة لا يمكن أن تحدث الإضافة والتجديد..التجديد في هذا الجانب لا يستدعي شيئا من هذا القبيل، إنما يشترط فقط في أن يكون الكاتب أصيلا "Original" ولن يتسنى له ذلك إلا من خلال قدرته على نقل وسرد أشياء معروفة بشكل يوحي بأنها غير معروفة لدى القارئ على رأي الكاتب والمفكر الألماني "جوتهGoethe" (إن الكاتب الأصيل ليس ذلك الذي يبدع شيئا جديدا فحسب، هو ذلك الكاتب الذي يمتلك القدرة على سرد أشياء معروفة بشكل يوحي بأنها غير معروفة تبدو كما لم تسرد من قبل) (6)..بذلك يتمكن الكاتب من التكلم بصوته الخاص وإيهام القارئ بمجرد إنهائه قراءة النص بأنه عاش للتو من خلال القراءة تجربة حياتية جديدة على الرغم من معايشته اليومية لنفس المواقف والأحداث التي جاء بها النص الأصيل، بذلك يتحقق فعل التجديد الذي يحدث الصدمة والدهشة بعيدا عن تلك "الخرجات" التي لا تحقق سوى خيبة أمل القارئ..أما محاولات التجديد الملتصقة بالأسلوب فهي كثيرة ومتنوعة بتنوع النصوص، والملاحظ على هذه المحاولات هو اعتمادها لأساليب سردية معقدة ظاهريا لكنها لا تتعدى مجرد الطنين الأجوف في جوهرها، هذه المحاولات عجزت بشكل كبير على تحقيق معادلة القصد والإيجاز بمعنى أن الكاتب باعتماده لمثل هذا الأسلوب المعقد والأجوف يعجز يقينا عن إيصال ما يقصد قوله للقارئ الذي يعجز بدوره على التماس وفهم الأفكار والرؤى التي يريد الكاتب طرحها، مما يحرمه من إمكانية الإحاطة بقصد ونية قول الكاتب، في هذه الحال لا أرى أي معنى للكتابة إذا ما طرحنا السؤال التالي (لماذا نكتب؟)..ولعل تجربة القاص (جمال فوغالي) قد أسست وتؤسس لهذا المد الأسلوبي إذ تتميز أغلب نصوصه النثرية بالغموض مما يكشف صراحة عن فشلها في إنجاز القصد ونية القول، وللوقوف على ذلك أدرج بعض الأمثلة التي أخذتها من قصته (عطر الشاي)(7)..استعمل الكاتب بعض الأدوات عملت منذ البداية على مداهمة التفكير الآني للقارئ في كثير من الحالات قصد توقيفه وإجبار ذهنه على استحضار موقف،فكرة، شخصية معينة وإدماجها ضمن تفكيره الآني كقوله [..أتساءل الآن هل كان بإمكاني أن أكون شخصا أخر ( أقصد السارد)..]، [كان لابد أن أذكر جدي (جدي السارد لا الكاتب)]..استعمال مثل هذه الأدوات يعمل من حيث الحكي على كسر الفعل السردي وتتحول بتكرارها الملح الى فعل مشوش على القارئ العامل الذي يمنعه من الانتقال الى مرحلة الاندماج في النص والتي تمكنه من الوقوف على نية قول الكاتب وبذلك لا يتحقق إنجاز القصد..الكاتب يتعمد بإصرار إدراج فعل التشويش على ذهن القارئ بواسطة أداة التساؤلات المداهمة والمدرجة بين قوسين [..ها أنت استعدت وحدتك (وهل غادرتك؟)]، [ هذا المختال المخادع، ذئب البراري المراوغ، والذي (الزمن) كتبته كأنما لتواجهه (وهل باستطاعتك مواجهته)]، [تأتيني الآن رائحته (الشاي)]، [ أقول (السارد) وأنا أدس رأسي]..هذه المداهمات تعتبر اعتداءات عنيفة تجاه القارئ والمشككة في قدراته الاستيعابية، مداهمات مجانية لا تحقق سوى انفعاله وتيهه عن القراءة ومن ثمة نفوره بكل بساطة، وهي بذلك أي المداهمات لا تحقق فعل الإضافة أو التجديد على الإطلاق اعتبارا لعجزها عن إنجاز القصد من جهة وإثارة فعلي المتعة والصدمة من جهة أخرى...

أما محاولة التجديد التي تستدعي فرصة التأمل هي تلك المتعلقة بالجانب الشكلي والبنائي للقصة من حيث إدراج بعض القيم التقنية/الفنية التي تعمل على إثراء النص النثري جذبا ومتعة وجمالا بمعنى تغذية النص أثناء عملية البناء بالاعتماد على وسائل فنون أخرى كفن الرسم مثلا الذي يثري "القيمة القصصية" من حيث تدرج مراحل البناء فضلا على تشكيل الصور، أنظر قصة "ملامح امرأة" للقاصة (زهراء زيراوي) (8) التي تمكنت من أن تجعل نصها عبارة عن لوحة فنية من حيث البناء والعملية السردية اللذين جاءا وفيين للمنطق التسلسلي المعتمد في الفعل التشكيلي عبر كل مراحل "خلق" اللوحة، كل ذلك اعتمادا على الكلمة التي تحولت الى الفرشاة مما يتيح بطريقة ذكية للقارئ الوقوف على رؤية الفنان ويمكنه من النظر بعينيه الثاقبتين للأشياء بكل تفاصيلها الجميلة. وقد سبق للكاتبة (زهرة بوسكين) أن وظفت نفس التقنية أي وسيلة الرسم والتشكيل بالكلمات بشكل جعل من قصتها (الوجه الغائب) (9) قصة فنية بامتياز..هناك أيضا إمكانية إدراج التقنية/الفنية السينمائية كاعتماد طريقة بناء سرد النص بواسطة جملة من المشاهد المتسلسلة والمركبة بشكل منطقي يعمل على تحقيق التطور والتصعيد الدرامي للأحداث والمواقف الى ذروتها، هذا فضلا على توظيف كل الأشياء والمؤثرات المحيطة بالمشهد كالأضواء والأصوات وكل التفاصيل الأخرى المعتمدة في الكتابة السينمائية. إذا ما أردنا وصف مكان معين، فتوظيف وسيلة السينما يحقق فعل إقحام القارئ في العملية الإبداعية حيث يعمل الكاتب على استدراجه الى اكتشاف المكان بطريقة تدريجية عبر كل المراحل السردية للقصة تماما مثلما تفعل الكاميرا، بذلك يتمكن القارئ من تصور المكان بإضافة لمساته التخيلية..وأسمح لنفسي بأن أشعر القارئ الكريم أنه سبق لي توظيف التقنية السينمائية في كتابة بعض قصصي باعتباري قد مارست الكتابة السينمائية من قبل ووقفت على مدى إعجاب القراء بمثل هذا النوع من الكتابة- أنظر قصة "مايا" مثلا كنموذج-...

هذه بعض الملاحظات والآراء من ضمن التي تمكنت من استشفافه عبر متابعاتي لما نشر وما ينشر حاليا من كتابات قصصية والتي تشكل لا محالة تجربة جديدة للنص النثري الجزائري بكل إيجابياتها وسلبياتها من حيث الثراء أو الاستعجالية والفوضوية أيضا، تستدعي الانتباه والتأمل والرعاية والتوجيه من قبل النقاد بدلا من صمتهم الذي أطال أمده والذي يبدو كأنه يرفض ويستهجن هذا الرصيد الذي يشكل يقينا ظاهرة قائمة في الأمر الواقع ستتطور إيجابا أو سلبا في حضوره النقاد أو في غيابهم، من المستحسن إذن، أن يعتنق النقاد الجيد والمقبول من هذا الرصيد الإبداعي ويسدوا الطريق بذلك في وجه كل متسلق متطفل على الفعل الإبداعي الأدبي..وفي الختام تجدر الإشارة الى أن ما جاء من رؤى وأفكار في هذه المقاربة الانطباعية لا يخص سواي وهي وجهات نظر لا تكتسي صفة "المطلق" بل قابلة للمد والجزر وبالتالي للقبول أو الرفض...

(1)عن حوار أجرته جريدة "اليوم" مع الشاعر عاشور فني – اليوم الأدبي-العدد 97-الخميس 07 أوت 2003.

(2)مجلة العربي العدد 450- مايو 1996 –ص202.

(*) "هالي برنيت" صاحبة كتاب (كتابة القصة القصيرة) عملت في مجال القصة القصيرة كاتبة ومشرفة على مجلة أمريكية متخصصة في القصة "Story" مدة أربعين سنة نشرت خلالها ألاف القصص واكتشفت عددا كبيرا من كبار كتاب القصة الأمريكيين المعاصرين مثل (ترومان كابوت، تورمان ميلر...

(3) مقدمة مسرحيتي (العم فانيا، والأخوات الثلاث) لتشيخوف –سلسلة Livre de poche ص10...

(**) للتعمق أكثر في هذا الموضوع أنظر دراسة "قراءة الخطاب الشعري المعاصر" للدكتور خليل موسى أستاذ الأدب في جامعة دمشق- مجلة عالم الفكر-العدد3-29 يناير/مارس2001.

(***)أنظر مجلة العربي المرجع السابق.

(4)سلسلة أعلام الأدب الروسي (ألكسندر بوشكين، مختارات نثرية)-دار رادوغا موسكو- 1984-ص 397.

(5)مقاطع مقتطفة من قصة "حدث الظهيرة" للقاص جيلالي عمراني المنشورة بأصوات أدبية العدد 686- 31 ماي 200.

(6) المقولة أخذت من ملف خاص بالمفكر والشاعر الألماني "جوتة" نشر بمجلة ألمانية " Deutschland" رقم 33/91-جوان/ جويلية 91، ص 52.

(7) قصة "عطر الشاي" – أصوات أدبية -24 جانفي 2001.

(8) قصة "ملامح امرأة" نشرت بملف "اليوم الأدبي" عدد92-26 جوان 2003.

(9) قصة "الوجه الغائب" –أصوات أدبية -25/09/2002.



أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى