الخميس ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦

باولو كويلو.. الذي تآمر العالم من أجله!

بقلم الكاتبة الكرواتية إينس بابيتش - ترجمة الكاتب المصري د. أسامة القفاش

حسنًا لا بد أنك أحسست يومًا بالضياع والوحدة. أحسست أنك تائه تمامًا، لا تدري إلى أين ستذهب، مجروح، مكسور، مقهور... غارق حتى أذنيك.. ثم يقول أحدهم شيئًا، أو تجد عنوانًا جديدًا في المكتبة وتجد ما تريد.. هناك في أعمق الأعماق وتبدأ في التنفس من جديد.

ويبدأ كل شيء في الظهور بشكل جديد في نور جديد وتعود مرة أخرى، تعود لطريقك، ولما تريد أن تفعله، ولما تريد أن تكونه، ولما تريد أن تحسه... وتؤمن مرة أخرى بأحلامك ولديك حماس جديد. الحياة جميلة. وأنت حي وأشياء عظيمة تحدث. هذه هي الحكاية!

هناك دائما حل؟

كنت أتحرك كالنائمة عبر بحر من البشر أمام متحف زغرب عاصمة كرواتيا ذات مساء خريفي أعتقد أنه كان عام 1999. فقد تجمع مئات بل آلاف من البشر أمام القاعة الرئيسية كل يحاول أن يشق طريقه أو طريقها عبر الحشد ليقترب أكثر من الداخل، من اللب، من الطاولة المركزية. كنت قد بدأت أخسر تلك المعركة؛ لا أمل في الاقتراب قيد أنملة، وفجأة تغيرت الأولويات وصار لدي هدف جديد، ألا أدع أحدهم يدهسني أو يدفعني على الأقل بقوة شديدة.. ففي مثل هذا الحشد لا يمكنك تجنب الدفع والدهس تمامًا.. من ثم لم ألحظ كيف وصل وكيف بدأت الأمسية.

لكن لاحظت أن الناس قد بدأت في الهدوء.. وبدأ الجميع في إسكات بعضهم البعض بإشارات على الفم. ثم تكلم بصوت خفيض هادئ رقيق وحكى حكايات ورد على أسئلة الحضور في صبر وأناة وباهتمام صادق بكل ما يقال له، وعندما بدأ الحشد في التحرك لم يعد باستطاعة أولئك الذين كانوا في أقصى القاعة أن يسمعوا أو يشاهدوا بوضوح، رغم شوقهم لذلك.

وبدأت الشكوى في التعالي.. وبدأ الجميع في لوم عمدة المدينة والحكومة والرئيس والمجلس المحلي؛ لأنهم اختاروا هذه القاعة الصغيرة لاستقبال هذا الضيف الكبير.. حسنًا ليس كبير الحجم بأي حال، فعندما رأى الرجل ما يحدث وقف واعتلى الطاولة التي كان يجلس إليها، وبدأ في مخاطبتنا من مكانه فوق الطاولة حتى نهاية الأمسية.. لا داعي للوم أو التقريع هناك دائمًا حل!!! هذا ما يفعله الكاتب والروائي العالمي الأشهر باولو كويلو. إنه يصل للناس. ولذا تأتي إليه الحشود في كل مكان يزورونه وهو يزور كثيرًا من الأماكن؛ لأنه يعشق السفر.

لقد قرأ الناس "السيميائي" و"الحج" و"الجبل الخامس" وأحبوا تلك الأعمال. أحبوا من قال لهم إنه من الجميل أن نحلم، ومن الضروري أن نفشل ونسقط ونشك ونبحث طويلاً وكثيرًا، ولذا أتت الناس لمقابلة الرجل الذي كان هناك في أراضي الحلم والفشل والضياع، ورأى كل ذلك وعاشه، والآن يضيء كنجم في الأعالي. أتت الناس، وأتينا لنستمع لذلك الرجل كي يلهمنا من خلال عزمه وعطفه وحبه للحياة.

البداية من.. مستشفى مجانين!

في 1947 وُلد طفل ذَكَر لعائلة متوسطة في ريودي جانيرو بالبرازيل عاصمة اللهو، وشواطئ الكوباكابانا، وشراب جوز الهند، وجبل رغيف السكر... عائلة مكونة من مهندس وزوجته ربة المنزل.

دخل هذا الطفل مدرسة الجيزويت في ريو، وكان يشترك في كل مسابقات الشعر والأدب التي تقيمها المدرسة، ويكسب الجائزة دائمًا. لكنه لم يكن راضيًا دائمًا عن عمله أو عن مستواه وأحيانًا كانت أعماله تنتهي في سلة المهملات، وذات مرة أخذت أخته أحد هذه الأعمال الملقاة في القمامة وقدمتها لمسابقة المدرسة باسمها، وحصلت على الجائزة الكبرى.

منذ هذا الزمان عرف طفل الأسرة المتوسطة مهنته الحقيقية. كان يريد أن يصير كاتبا. لكن والدي باولو كان لهما رأي آخر، كانوا يريدون له أن يصير مهندسًا، وأرادا أن يخنقا رغبته في أن يكرس حياته للأدب..!! أدى هذا إلى إثارة روح التمرد عند باولو، وبدأ في خرق القواعد المرعية في العائلة. رأى أبوه في هذا السلوك علامة من علامات الجنون والمرض العقلي وعندما بلغ باولو السابعة عشرة من عمره كان أبوه قد أودعه المصحة العقلية مرتين!! هناك تعرض باولو لعدة جلسات من العلاج بالصدمة الكهربية.

بعد هذه المرحلة التحق باولو الشاب بمجموعة مسرحية، وبدأ في العمل كصحفي، رأى أبواه الكاثوليكيان في هذا أمرًا شائنًا؛ فالمسرح في نظر الطبقة المتوسطة في هذا الوقت كان بؤرة الفساد والانحلال.

ومن ثم أصر أبواه المرعوبان على إدخاله المصحة أكثر من مرة، ربما ثلاثة، ضاربين عرض الحائط بكل وعودهما له. وعندما خرج باولو كان ضياعه أشد. وفي محاولة يائسة أخذته الأسرة لطبيب نفسي جديد قال لهم: "باولو ليس مجنونًا، ويجب عدم إدخاله مصحة. عليه ببساطة أن يتعلم كيف يواجه الحياة".

الحياة.. من جديد

ثلاثون عامًا بعد هذه الفترة من حياته كتب كويلو "فيرونيكا تقرر أن تموت"، وظهرت الرواية في البرازيل عام 1998، وفي يناير 1999 قرأ السيناتور إدواردو سوبليسي مقتطفات من هذه الرواية في جلسة من جلسات البرلمان البرازيلي، ونجح في الحصول على موافقة الأعضاء على قانون كان يلف أروقة المجلس منذ 10 سنوات – قانون يمنع الحجز التعسفي للبشر في المصحات.

بعد فترة التمرد هذه في منتصف الستينيات عاد باولو الشاب لدراسته، وبدا أنه قد بدأ في "اتباع الطريق المستقيم" الذي يريده أبواه له. لكن بعد فترة ليست طويلة ترك الدراسة مرة أخرى وعاد للمسرح. كان هذا زمن حركة التمرد الشبابي العالمية المعروفة بحركة الهيبز. وحتى البرازيل تأثرت بهذه الموجة العارمة.

كانت البرازيل في هذا الوقت ترزح تحت وطأة حكم عسكري فاشي خانق. ربَّى باولو شعره وأقسم ألا يحمل هوية، وأخذ في تعاطي المخدرات، كان يريد أن يحيا تجربة الهيبز كاملة. بدأ أيضًا في إصدار مجلة صدر منها عددان، ثم دعاه الموسيقي والمؤلف راوؤل سيشاس ليكتب كلمات أغنياته. ومن ثم بدأت شراكة استمرت حتى عام 1976. حقق ألبومهما الثاني نجاحًا ساحقًا وكتب باولو أكثر من 60 أغنية مع سيشاس، ومعًا غيرا وجه موسيقى "الروك" البرازيلية. في 1973 اشترك الاثنان في تأسيس "الجمعية البديلة" “Alternative Society” وهي منظمة تعارض الأيديولوجية الرأسمالية، وتدافع عن حقوق الفرد في فعل ما يريده أو ما تريده وأيضًا تمارس السحر الأسود.

وصف باولو هذه التجارب فيما بعد في كتابه (الفالكيري)، والفالكيري هي جنيات "فالهالا" التي تعد جنة محاربي الفايكنج، أو النسوة المحاربات اللواتي يستقبلن المحاربين القتلى.

بعدها تعاون باولو وسيشاس معًا لإصدار مجلة (كرينج ها) (Kring-ha) وهي مجلة مصورة على غرار سوبرمان وميكي وغيرهما من المجلات الكارتونية. كانت المجلة تدعو لمزيد من الحريات. قامت السلطات بمصادرة المجلة واعتقالهما. سرعان ما أطلقوا سراح راوؤل لكن باولو استمر في السجن لفترة أطول. لقد كانوا يظنون أنه الرأس المدبر وراء المجلة الساخرة. واستمر في المعتقل عدة أيام، ويعتقد باولو أنه قد أفلت بعمره فقط عندما أخبرهم أنه مجنون، وأنه قد دخل المصحة العقلية عدة مرات. وبعدئذ أطلقوا سراحه.

وابتسمت الحياة

عندما بلغ باولو السادسة والعشرين من عمره قرر أنه قد خاض تجارب كثيرة في الحياة، وأنه يريد أن يصير "سويًّا". فحصل على وظيفة في شركة تسجيلات اسمها "بوليجرام" حيث التقى بالمرأة التي صارت زوجته فيما بعد.

في 1977 ارتحل باولو وزوجته إلى لندن، حيث اشترى آلة كاتبة، وبدأ في الكتابة دون نجاح يذكر. في العام التالي عاد للبرازيل، حيث عمل كمدير لشركة تسجيلات أخرى هي CBS، واستمر هذا لمدة 3 أشهر فقط بعدئذ انفصل عن زوجته، وترك العمل.

في 1979 التقى باولو صديقة قديمة هي كريستيا أوبتنشيكا التي تزوجها فيما بعد، واستمر معها إلى الآن.

في 1986 أكمل كويلو رحلة الحج إلى ساينتاجو دي كومبو ستيلا في شمال أسبانيا بدءًا من فرنسا، وهي رحلة الحج المسيحية التي بدأت في القرون الوسطى لزيارة الكاتدرائية الكبيرة في شمال أسبانيا.. تلك الرحلة التي أتمها كويلو بعد مشورة مع صديقه "ج" الذي يسميه "الأستاذ" وكتب عنه في "يوميات محارب النور" كتابه الذي صدر في منتصف التسعينيات.

في 1987 كتب كويلو أول كتبه "الحج"، وكان عنوانه الجانبي "يوميات ساحر" يحكي الكتاب تجربة باولو أثناء رحلة الحج واكتشافه أن المدهش والخارق للعادة يحدث يوميًا في حياة البشر العاديين.

في 1988 كتب كتابًا آخر مختلفًا تمامًا "السيميائي" الذي ترجم للعربية باسم "ساحر الصحراء"، حيث أخذ يحكي جزءًا من تجاربه في الأحد عشر عامًا التي قضاها في دراسة السيمياء. وخلال بضعة أعوام باع "السيميائي" نسخًا أكثر من أي كتاب آخر في تاريخ البرازيل. وترجم إلى أكثر من 56 لغة، وطبع في 150 بلدًا.

الحلم.. على عتبة الدار

جاءت التسعينيات لباولو محملة بالنجاح والشهرة والنجومية. بلغ عدد عشاق أدبه الملايين من كل أنحاء المعمورة، ومن بينهم نجوم في مجالات مختلفة وذوو ذوق مختلف وكلهم يعشقون أدبه ويمجدون كتاباته. من عشاقه المختلفين مادونا وجوليا روبرتس وأمبرتو إكو الفيلسوف والروائي الإيطالي الكبير.

كلهم تحدثوا عن أثر "السيميائي" فيهم، وقالوا عن الكتاب: "إنه كتاب جميل عن سحر الحلم والكنوز التي نبحث عنها في مكان آخر وبعدئذ نجدها على عتبة دارنا" وفق تعبير مادونا –في مقابلة مع مجلة سونتاج- أكتيويل، وقد اشترت شركة وارنر حقوق تحويل الرواية لفيلم عام 1993، ولكنها لم تنتجه للآن لعدم رضا المنتجين عن أي سيناريو قدم لهم.

"بريدا" و"على ضفاف نهر بييدرو جلست وبكيت" و"الجبل الخامس" و"يوميات محارب النور" و"فيرونيكا تقرر أن تموت" تلك عناوين أعماله التي ظهرت في التسعينيات، وكلها حققت نفس نجاح السيميائي.

وقام باولو بعمل عدة رحلات زار فيها العديد من بلدان آسيا وأوروبا والأمريكتين. في مايو 2000 كان أول كاتب غير مسلم يقوم بزيارة رسمية للجمهورية الإسلامية في إيران منذ الثورة عام 1979.

وقال عن هذه الزيارة: "لقد تلقيت حبًّا وحفاوة شديدين، لكن الأهم أني وجدت فهمًا لأعمالي أذهلني وهزني من الأعماق. لقد وصلت روحي قبل وصول ذاتي، كانت كتبي حاضرة ووجدت أصدقاء قدامى لم أقابلهم من قبل. إنها تجربة عميقة، ولقد ملأت روحي بالحب والحياة. أحسست أن الحوار ممكن مع كل البشر في كل أرجائه البسيطة، هذا ما رأيته في إيران".

في سبتمبر 2000 ظهر إلى الوجود العلني معهد باولو كويلو بعد تأسيسه عام 1996، ويوفر المعهد الدعم المادي للفقراء في البرازيل ويرعاهم وخاصة الأطفال والعجزة.

ولقدراته الفائقة في التعبير عن الرسالة الإنسانية ولأسلوبه الذي يولد لدينا القدرة على الحلم ويستحثنا على البحث عبر وحدة الهدف، ومن خلال حضارات متنوعة حصل كويلو على جوائز عديدة مرموقة من بينها "فارس الفنون والآداب" من فرنسا، وعين مستشارًا فوق العادة لبرنامج اليونسكو المسمى "التفاعل الروحي والحوار بين الحضارات". وحصل على جائزة BAMBI 2001، وهي أقدم وأهم جائزة أدبية في ألمانيا. وفي يوليو 2002 انتخب كويلو ليحتل المقعد رقم 21 في الأكاديمية البرازيلية للآداب، حيث ألقى خطابًا مدح فيه الحلم والإيمان، وختمه قائلاً: "إن حصولي على هذا الشرف كان حلمًا آخر لم أرد أن أتخلى عنه".

العالم يتواطأ معنا!

كان هذا حلم رجل أخبرنا أن لدى كل واحد منا حلمه الشخصي وأسطورته الفردية وموهبته الخاصة الذي ينبغي عليه/عليها أن يتبعها، ومن ثم سيتآمر العالم كله لتحقيق هذا الحلم وإبراز هذه الأسطورة.

لو كنت خائفًا مرتعشًا وتحس أن الحياة مرتبكة وتاهت منك فكل ما عليك أن تفعل هو أن تجد الإرادة، وتساعد الناس، ولا تحكم عليهم. لو أردت ألا تعيش حياتك لتلعب أدوارًا فرضها عليك الآخرون فعليك أن تختار وتجد القدرة حتى لو فشلت مرة أخرى...

باولو كويلو لا يسميك خائبًا، إنه يدعوك محارب النور القادر على فهم معجزة الحياة!!

بقلم الكاتبة الكرواتية إينس بابيتش - ترجمة الكاتب المصري د. أسامة القفاش

عن إسلام أون لاين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى