الاثنين ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم فرهاد ديو سالار

اليوتوبيا في شعر نازك الملائكة

المستخلص

راودت فكرة اليوتوبيا أو الطوباوية الكثيرين من الأدباء و الشعراء الذين يتمتعون بحسّ أخلاقي رفيع المستوى. و كان الحلم بمدينة فاضلة يعيش فيها الإنسان أحرارا متساوين أمام القانون -ولا يزال - حلما خصبا يستمد وجوده من وقائع شتى كغياب العدالة، المكر، الخبث، الاحتيال، الظلم و الظلام الذي أحاط بالبشرية من كل ناحية ردحا من الزمن .

كان افلاطون أول من أشارإليها في كتابه " الجمهورية" و يعتقد أن الناس سواء في كل شيء و بعده رسم الفارابي دنياه المثالية في كتابه " المدينة الفاضلة" و يرى مساواة الناس أمام ميزان العدل. والحالمون بذلك كثيرون من العباقرة أمثال القديس اوغسطين، شيشرون، دانتي، فرنسيس بيكن و توماس مور و غيرهم.

في هذه المقالة أتناول ميزات اليوتوبيا في شعر نازك الملائكة، عناية بأنها كانت متشائمة شديدة التشاؤم في بداية حياتها الأدبية.
اليوتوبيا – توماس مور– مدينة فاضلة – الكلمات الرئيسية: الطوباوية

المقدمة

يوتوبيا كلمة يونانية معناها لا مكان أو المكان الذي لا وجود له. قد استقيت من الكلمتين اليونانييتين بمعنى" مكان" و الكلمة في مجموعها تعنيtopos بمعني "لا" و ou
ليس في مكان، لكنّه أسقط حرف ال- O و كتبت الكلمة باللاتينية utopia اليوتوبيا مكان خيالي قصي جدا و هي دنيا مثالية و بخاصة من حيث قوانينها و حكوماتها و أحوالها الاجتماعية. و هي عالم يجوز تسميته بالخيال أو صورة ماوراء العين، مكان يتحقق فيه التعاون الاجتماعي بصورة كاملة التحقيق لسعادة الأفراد.

حلم الإنسان منذ القديم بمدينة مثالية نموذجية يأخذ كل فرد فيها حقّه و يؤدّي ما عليه من واجبات تجاه نفسه و تجاه الآخرين. مدينة بلا جوع و لا ظلم ولا فقر و مدينة القانون و العدالة، دولة مثالية تتحقّق فيها السعادة لجميع الناس و تمحو الشرور، فالناس فيها سواء فيما يملكون و يحصلون على ما يحتاجون إليه حاجة حقيقية، متساوون أمام ميزان العدل، و هي مدينة المثل العليا، مدينة العلم والمعرفة وكأنها تنادي الإنسان بالعودة الي فطرته الطاهرة.

حلم الإنسان منذ النشأة البشرية؛ فإنها تبحث عن النموذج المجتمعي الخيالي و المثالي، ذلك الذي يعوضها عن الفردوس المفقود الذي فيه يتحقق الكمال أو يقترب منه على الأقل و يتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية و هو أمر حسب أنه لا يوجد سوى في ذهن الكاتب نفسه و خياله قبل كل شيء.

كان أول من حلم بذلك الفيلسوف اليوناني " افلاطون " من خلال كتابه " الجمهورية " ويرى فيه أن الناس سواء في كل ما يكتسبون و يملكون و يحتاجون إليه و بالروح نفسها رسم المعلم الثاني " الفارابي " دنياه المثالية من خلال كتابه " المدينة الفاضلة " حيث يعيش فيها الناس متساوين أمام الميزان ميزان العدل. و استمرّ رسم اليوتوبيا في خيالها الخصب من عباقرة الشعر و الأدب و الفلسفة مدى التاريخ .و مما يلفت النظر أن الكتابة عن يوتوبيا تطوّرت تطوّرا ملحوظا و برز تقدّمها في العصر الكلاسيكي أي حوالي القرنين السادس والسابع عشر.

و من هؤلاء " توماس مور " في كتابه " يوتوبيا " سنة 1516م الذي يتحدث فيه عن مدينة فاضلة و أعقبه بعد ذلك " توماس كامبانيلا " سنة 1623 م في كتابه " مدينة الشمس " و بعده " فرنسيس بيكون " سنة 1627 م في كتابه " اطلنطس الجديدة " و أيضا " ايتين كابي " سنة
1840 م الذي سمّى مدينته المثالية " إيكاريا " في كتابه "رحلةإلي إيكاريا ".

وغير هؤلاء كتب كثيرون أحلامهم عن مدنهم المتّصفة بسمات العدل و الحق و المساواة؛ ولكن عندما نمعن النظر نرى أن أمانيهم قد فشلت و كانت هذه شعارات التي يحاربها غالبية المدّعين بها والمدافعين عنها بقدر ما التصقت في أذهاننا بعض المدن الواقعية التي خلدها الأدب و نراها كأثر أدبي بحت نقش رسم هذه المدن الخيالية الفانتزية على جدران ذاكرتنا بل نشعر أنّها مدن تنتمي إلى الخيال أكثر من انتمائها الي الواقع و غالبا ليست في متناول اليد.

والواقع أنّ التعبير عن اليوتوبيا تخطّى مرحلة المعنى الأدبي الخيالي فأطلق على كل اصطلاح سياسي أو احتمالات تتعلق بالعلوم والفنون في مجملها؛ بيد أنه يظلّ تصوّرا فلسفيا ينشدانسجام الإنسان مع نفسه و مع الآخرين في عالمه الواسع.
نشعر كلنا بالسرّ الموحود في الزمان ولكنّنا غير قادرين عن التعبير عنه؛ فالزمن قدرنا، ألمنا و يأسنا وتجربه الإنسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله و انقضائه، فشكوى الإنسان من الزمان أزلية و أغلب الظّنّ أنها ستبقى أبدية. إنّ تجربة اللقاء بالمستقبل تثير في النفوس شعورا عجيبا، ليس من الضّروري أن يكون هذا المستقبل المتوقع خطيرا ولأن يحمل في أحشائه و أمعائه النقمة أو النعمة؛ فالمهمّ أن يصبح حقيقة حيّة و هذا شعور لطيف لكلّ شخص أنّ فرصة الانتظار أحلى و أجمل من سعادة التحقيق.

و مهما كان صوت المستقبل للإنسان - لصالحه أو لطالحه، متوعّدا أو واعدا - لكن إشاراته دائما في هالة إلهية ولهذا كانت و ستبقى بالرهبة والجلال و يقف الإنسان منه موقف الحب والشوق كما يقف في الماضي موقف الخشوع و الإشفاق.
أمّا نازك الملائكة فشاعرة عربية عراقية من عمالقة الشعر الحديث ومن روّاد الأوائل لحركة الشعر الحرّ . ولدت في بغداد سنة 1923 م، درست الأدب العربية فيها فسافرت إلى الولايات المتحده لدراسة الأدب الإنجليزي و إكمال دراستها، درست الأدب المقارن بجامعة وسكونسن و حصلت على درجة الماجستير سنة ٦195 م. ولها معرفة بالأدب الغربي وكانت الرومانسية غالبة على شعرها و تولع بآثار الرومنظيقيين الإنجليزيين مثل " شلي " و "كيتس ". و تحسّ بالقلق وتشعر بالحزن كشأن سائر الرومنسيين ممّا يجعلها الهروب إلى الطبيعة أو إلى نفسها والانطواء على ذاتها للتفتيش عنها؛ فهربت من الواقع و انطلقت إلى عالم الخيال الذي يمثل لها عالما مثاليا خاصا غير محدود بزمان أو مكان و بحثت عن السعادة فيه؛ لجأت إليه و عاشت في كنفه.

تلجأ شاعرتنا إلى دائرة الأزمان و هي التي سمتها " يوتوبيا " منطقة يتعطّل فيها حكم الزمن و لكنّ الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلي لا يدركها الفناء - كما يعتقد الدكتور شوقي ضيف - (فصول في الشعر و نقده. ص 96).

ومما يلفت انتباهنا هنا أن الشاعرة استعملت " يوتوبيا " دلالة على مدينة شعرية خيالية بدون وجود إلا في أحلامها و طبعا لا علاقة لهذه المدينة بيوتوبيا التي تخيّلها الكاتب الإنكليزي "توماس مور" و رسم فيها صورة سياسية إدارية للجزيرة المثلى كما يريدها قياسا على "جمهورية افلاطون " أو غيره.

أما من ميزات هذا العالم فهي كما تصفها الشاعرة يكاد يكون خاليا عن الشرّ أو ينبغي أن يكون كذلك و تتذكره دائما في حياتها ومماتها و هناك لا يوجد أي قيد يثقل عليها و القيود تذوب كلها و يفسح لها أن تفكر لتنطلق من الأسر، فهي تحبّ الهروب من مواجهة الواقع و اليوتوبيا تبدو لها مفارقة للواقع و كأنّها ترفض الواقع رفضا كليا و قطعيا؛ لأنّها:

قد سئمتُ الواقعَ المرّ المملّا ولقد عدتُ خيالاً مُضمحلّا

فاتركيني بخيالي أتسلّى آه كاد اليأسُ يعروني،لولا

أنّني لُذتُ بأحلامِ السّماء وتَخيّرتُ خيالَ الشّعراء

( ديوان نازك الملائكة . ج 1. ص.599).

سئم الشيء و منه : ملّه. اضمحلّ الشيءُ : تلاشى و انحلّ . عرا ُ فلاناً أمر : ألمّ به. لاذَ ُ بالشيء : استتر به و التجأ إليه
ترى الشاعرة أن الواقع مرّ و مملّ فتبرّمت به، و بما أنها التجأت بأحلام السماء و تخيّرت لنفسها عالم الخيال و هو خيال الشعراء، هذا هو سبب خلاصها و إلا يلمّ بها اليأس و يثقل عليها.

تسارع الشاعرة لتهرب حيث لا علاقة لها بالزمان والمكان وهذا كلّه قيد يغلّه ولكن في يوتوبيا تذوب هذه القيود فتحسّ بشباب لايزول:

ويوتوبيا حُلمٌ في دمي أموتُ و أحيا على ذكره

تخيّلتُه بلداً منْ عَبير على أفق جرتُ في سرّه

هنالك عبرَ فضاءٍ بعيد تذوب الكواكب في سحره

هنالك حيثُ تذوبُ القيود وينطلق الفكرُ من أسره

وحيثُ تنامُ عُيونُ الحَياة هنالك َتمتدّ يوتوبيا

ويوتوبيا حَيثُ يَبقى الضّياء ولاتغربُ الشّمْسُ أو تَغلَسُ

وحيثُ تَضيْعُ حُدودُ الزّمان وحيثُ الكَواكبُ لاتنْعَسُ

هناك الحَياة امتدادُ الشّباب تفورُ بِنشْوتهِ الأنفُسُ

هناك يَظِلّ الّربيعُ رَبيعا يُظلّلُ سُكّانَ يوتوبيا

( ديوان .ج.2 ص. 40 ).

عبير : أخلاط من الطيب، نكهة طيبة . الغَلَس : ظلمة آخر الليل . نعس َ : فتر . فارت القدر: غلت وارتفعت ما فيها؛ فار ُ المسكُ : تضوّع و انتشر . النشوة : الرائحة، السكر أوّله
تعتقد الشاعرة أن عالم اليوتوبيا كحلم اختلط في دمها، تذكر هذا العالم في محياها و مماتها؛ و هي تصفها هكذا: بلد من عبير، عالم لغز و سحر، تنصهر الكواكب و النجوم في هذا السحر الموجود في فضاء بعيد، تذوب القيود، الفكر حرّ، الضياء أبديّ لأنّه لا زمان موجود ولا غروب للشمس ولاتفتر الكواكب ولاأثر للمشيب و الشباب سرمديّ وتلتذّ الأنفس بهذه النشوة والفصل الوحيد هناك هو الربيع الذي يظلّل سكّانه.
وتعانق نازك الملائكة أمنياتها الخيالية أمنيات الطفولة في هذا العالم حيث تقول:

وتَمرّ السّاعاتُ بي و أنا أبْ نِي خفايا مَدينةِ الأحْلام

أي يوتوبيا فقدْتُ و عَزّ الآ نَ إدراكُها على أيّامي

تلك يوتوبيا الطّفُولةِ لوْ تَر جعُ لو لمْ تكُنْ خيالَ مَنام

إيه تَلّ الرّمالِ ماذا تَرى أبْ قيْتَ لي منْ مَديْنةِ الأحْلام

( ديوان .ج.1.ص.255).

عزّعليّ الشيءُ: اشتدّ و صعب .، من الأضداد قوي و ضعف . ايه : اسم فعل للاستزادة من حديث أو فعل .
وتبنى الشاعرة في هذا العالم خفايا مدينة الأحلام، و تريد أن تلجأ الي الماضي الجميل بكلّ ما فيه و لاسيّما أيّام الطفولة و تريد أن تعيش فيها وليس ذلك خيالا و تحسّ بالملل و الكآبة في هذه الأيام التي تمرّ الساعات عليها بسرعة و لهذا تريد أن ترتبط بالماضي و ألا تنفصل عنه.
وما زالت تردّد شكواها الدائمه من زوال الحياة و انقضائها و ليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى ولا ينبغي لها كذلك أن تتوقف و تفارق الماضي و الحاضر و اتّجاهها حاسم للمستقبل و ظلّت تحلم بالمستقبل و تصوّره في اليوتوبيا عندما تحسّ بضياع الماضي و عبثيّة الحياة و تحيرّها:

و مَرّتْ حَياتي مرّتْ سُدى ً و لا شَيء يُطْفئ نارَ الحَنين

سُدى ً قدْعَبرْتُ صَحاري الوُجود سُدى ً قد جَررْتُ قيودَ السنين

يَطول ُ على قَلبي الاْنتظار و أغْرقُ في بَحْرِ يأسٍ حَزين

أحاوِلُ أنْ أتعَزّى بشيء ٍ بغابٍ ، بوادٍ ، بظَلّة تين

دقائقَ ثُمّ أخيْبُ و أهْتِف لا شيءَ يُشْبِه يوتوبيا

( ديوان .ج.2 .ص.5٤ ).

أسدى الأمر :أهمله .ذهب كلامه سدى :باطلاً . تعّزى : تسلّى و تصبّر

خاب يخيبُ : لم يظفر بطلب، انقطع أمله

عندما تفشل في محاولتها للبحث عن معنى للوجود الإنساني و تؤمن بعبثية الحياة و مضت الحياة باطلة وسدى و الزمان كلّه قيود تثقل عليها والهموم و الأحزان كأمواج البحر يغرقها فتنتظر دائما لتتخلّص من الكآبة الموجودة داخل نفسها و في حياتها - كانت الشاعرة في هذا الأوان متشائمة أشدّ التشاؤم - وهذا كلّه ممّا يجعلها إلى الهروب، الهروب إلى الطبيعة لتتعزّى فيها بشيء، بغابة، بوادٍ، أو بظلّة تين لتستريح لدقائق.؛ فتصل إلى هذه النتيجة أنّ عالم اليوتوبيا، عالم الخيال شيء لا مثيل له.
و ‌ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو عليها الأشياء في صورة أكمل و أحيانا تبنى عالمها هذا بعيدا عن الناس حيث لا يسكن فيه أحد و خالٍ عن الإنسان و تبناه في:

فَوقَ البِساط ِالسّفْح بينَ التّلالْ
في المُنْحنى حيثُ تَموجُ الظّلالْ
تَحتَ امْتداد ِالغُصونْ
تفجّري بالجَمالْ
وَشَيّديْ يوتوبيا في الجبالْ
يوتوبيا منْ شَجَراتِ القِممْ
ومنْ خَريْرِ المياهْ
يوتوبيا من َنَغمْ
(ديوان ج.2.ص.155).

شيَّدَ البناء : رَفعَه . القِمَم ج القمّة أعلى كلّ شيء . النَّغَم : التطريب في الغناء و حسن الصوت .

تريد الشاعرة أن تصنع عالمها في التلال فوق سفح الجبال ، بين الظّلال الموجودة تحت أغصان الأشجار الشاهقة و من الأنغام و الصوت الحسن الذي في خرير المياه.

و من ميزات عالمها المثالي كما تصفه الشاعرة لنا هي:

وشَيّديْ يُوتُوبِيا منْ قُلوبْ منْ كلّ قلبٍ لمْ تَطأه الحقودْ

ولمْ تُدنّسْهُ أكُفُّ الرّكودْ منْ كلّ قلبٍ شاعريّ عَميقْ

لم َيتمرّغْ بخطايا الوجود ْ ومنْ كلّ قلبٍ لا يُطيقُ الجُمودْ

( ديوان .ج.2.ص.157).

أكفّ ج الكفّ اليد أو الراحة مع الإصبع . أطاق الشيءَ : قدر عليه .

وطىء يطأ وطأً الشيءَ برِجْله: داسَه

.وتعتقد أنّ اليوتوبيا لابدّ أن تشيد في باطن الإنسان و في قلبه، القلب الذي ليس له أيّ حقد و ركود، من قلب شاعريّ لم يرتكب أيَّ خطأ وهو عميق وليس سطحيا و لم يقدر الجمود عليه حتى يكون نابضا بحرارة للعالم البشري.
نعم؛ للانسان أن يهرب من الحقيقة و الواقع المرّ الذي يفرض عليه الألم و الأسر و يعتصم بالخيال حيث يلاقي هناك عالم النقاء والطهر و العالم الذي يحبّه كما يريد؛ هذا شأن الرومنسي و من حيث تتّصل نازك إلى هذا المكتب، و فضلا عن ذلك من أجل انثويتها يتشدّد هذا الموضوع و تتّصل بعالم المثل حينما ترى قصور العقل الإنساني عن إدراك كثير من الألغاز و الأسرار الموجودة في الحياة و ماوراءها و فلسفة الكون أو عندما تجد نفسها في محاصرة الأحزان تدفع بها إلى حالة من التأمل و المعاناة أو حين كل ما ترى في المجتمع حولها يناقض الحياة فتحسّ بخواء أعماقها العاطفية و تحاول للبحث عن معنى للوجود الإنساني و تؤمن بعبثية الحياة و أنّ الإنسان لعبة بين مخالب الأقدار و بيد الفلك في حياة كلّها خيبة آمال و سقوط.

إذن لا غرو أن تبنى أمنياتها و أحلامها في عالم لايوجد مثل هذه القضايا و تبنى لنفسها العالم المثالي الذي تتخيّله و تحبّ أن تعيش فيه و تعتصم به؛ فتعشق الدجى و الظلام و ما هو إلّا الخيال الذي تلوذ به و تثور على الشمس التي هي رمز للحقيقة في قصيدتها " ثورة على الشمس" و تهديها إلى المتمرّدين:

يا شمسُ ، أما أنتِ ماذا؟ما الذي تَلْقاهُ فيك عَواطِفي و خَواطري؟

لا تَعْجبيْ أن كنْتُ عاشِقةَ الدّجَى يا ربّةَ الّلَّهبِ المُذيبِ الصّاهِر

يا منْ تُمزّقُ كُلّ َ حُلم ٍ مُشْرقٍ للْحالمينَ و كلّ طَيفٍ سَاحر

يا من ْ تُهدّم ُ ما تُشَيّده ُ الدّجَى و الصّمْت ُ فِي أعْماقِ قلْبِ الشّاعرِ

( ديوان .ج.1 ص.490).

اللَّهَب : حرّ النار ، لسان النار صَهر الشيءَ : أذابَه.

حلم : ما يراه النائم في نومه ج.أحلام طيف : الخيال الطائف في النوم.

بعد بناء عالمها المثالي ، غير عالم الواقع الذي سئم العيش فيه ، تثور عليه؛ لأنّها تشاهد من حولها في الحيا ة و في المجتمع شرورا ومعاصي وآثاما فيكتئب قلبها و تهرب من الشمس التي هي رمز الحقيقة؛ لأنّها تبيد حلمها المشرق و طيفها الساحر و تهدّم كلّ ما تشيّده الدّجى و الصمت في أعماق قلب الشاعرة.

ومما لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار، أنِ الشاعرة كانت متشائمة شديدة التشاؤم في بداية حياتها الشعرية؛ لأنها كانت مفعمة باتجاهات الرومنسية و غلب عليها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضيق و الألم و لاترى غير الأزمة و الشقاء في الحياة و أنّ الحياة كلّها ألم و إبهام و تعقيد؛ و لكن تدريجياغيّرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحياة و بدأت تنظر إلى الحياة بمنظار جديد فيه مسحة من التفاؤل ليكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها و نرى هذا التغيير حتّي في عنوان مطوّلتها من" مأساة الحياة" إلى " أغنية للإنسان " في الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإيمان بالله و الاطمئنان إلى الحياة و جوّ مأساة الحياة تبدّد شيئا فشيئا؛ وقد عبرت عن تمسّكها بالحياة في هذه الحياة الدنيا لأنّ حبّ الحياة أمر لا ينفصل عن الحياة نفسها و أنّ الإنسان يجد لذّة كبرى في أن يحياها مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها باليأس و العدم إلى قمّة الرجاء و الأمل و آمنت بأننا يجب أن نستسلم للقدر خاضعين و أنّ العالم يواصل سيرته حتى بدوننا و آمنت بأنّ الإنسان مهما يفكّر في آلامه و آلام أبنائه و مواطنيه و المجهولات و الأسرار و الألغاز، فلكن يجب ألّا يعكس اليأس و القنوط و الألم فقط، بل يجب أن يكون للتفاؤل مكانه.

ومهما يتأمّل الإنسان في هذه القضايا فلا بدّ ألّا ينصرف عن الحياة لأنّه لم يجئ إلى الحياة ليشقى و يصبّ الهموم على نفسه بل أتاها ليتنعّم بها و أن يكون مسلكها تجاه الحياة و فلسفتها إيجابيّا و ينظر إليها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حيّا و ينتهز فرصة الحياة قبل أن تفلت من يده.

رسمت الشاعرة لنفسها هذا العالم الذي فرض على نفسها لتعيش فيه؛ لأن ّالعالم الواقع عالم مليء بالأحزان و الآلام والحياة فيه جافّة و باردة و لامعنى للعيش فيه و يجب استقبال الموت .و تنفر من كلّ شيء و تحسّ بالسآمة حتى في التفكير و البقاء. وإذا تطرّفنا الي أشعارها رأينا أنّ روح التشاؤم سرت في نفسيتها، و في نفسها نوع من اليأس و التشاؤم الذي قد تسرّب في كلماتها و لغاتها .و قد آل بها المطاف أن تتضجّر من كل شيء موجود في حياة الواقع و تعيش في اليوتوبيا.

المراجع والمصادر

1) احسان عباس ،فن الشعر، دار الثقافة، بيروت .1959 م.

2) احمد ملكي الطاهر، الشعر الحر، دار المعارف.

3) احمد ملكي الطاهر، في الأدب المقارن، دار المعارف ،الطبعة الثانية ،1992 م.

٤) سيد حسيني رضا، مكتب هاي ادبي، انتشارات نگاه، چاپ يازدهم، 1376 ه.ش.

5) شفيعي كدكني مخمد رضا، شعراي معاصر عرب، تهران، توس ،1359.ه.ش.

6) د.شوقي ضيف، فصول في الشعر و نقده، دار المعارف بمصر.

7) العلمي الادريسي، رشيد،.مقالة اليوتوبيا، بين الخيال المتعالي و تقدّم الإنسانية

8) غنيمي هلال محمد، الرومانتيكية، دار النهضة بمصر.

9) محمد فتوح احمد، الرمز و الرمزية في الشعر المعاصر.

10) مجلة الشعر، مجلة فصلية مصرية العدد 1٤، يناير 1986 م.

11) نازك الملائكة ،ديوان، دار العودة، بيروت، لبنان.

12) نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، 1989 م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى