الأحد ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم رأفت دعسان

احتراق العمر

أنا إنسان سبب شقائه ومعاناته وهمه أنه إنسان ، من عواطف ومشاعر وأفكار وذكريات جبلت لبنات صورته على مرآة الحاضر وعلى الألم والحزن رسمت قسمات وجهه على ضفاف نهر المستقبل.

نعم ،،، الألم خلق لي ولم يخلق لصنم ولم يخلق لميت ، حياتي سرب حمام من الساعات الماضية في طريق الموت ، حياتي جيش أسود من الليالي ، تموت ليلة فتقوم أختها للمبارزة ثأرا ولكن الثأر يكبر والجيش يصغر.

بدأت رحلتي شابا يعيش "الآن" غير آبه بـ "كان" أو "سيكون" ، يعيش اللحظة نابذا الذكرى غير متطلع الى الأفق. شاب كالشباب يلثم ثغر الحياة ويشرب أيامها نبيذا ويهيم في لياليها غافلا.
وتنتهي في لحظة هذه السعادة وتنجلي في لحظة الغيوم عن وجه شمس الواقع وتبدأ أشعتها بالسير نحوي حاملة بذور ألم وحزن ودموع لزرعها في دمي واجتثاث جذور الفرح والابتسامة والهناء حاملة كؤوس الحنظل النتن كاسرة كؤوس النبيذ المعتق.

وأول ما أبدأ به حياتي وأول رحلة أركبها في سفينة الواقع وإذ بالعاصفة شديدة والليل مظلم والدفة بدون قبطان سائرة ، وتنجلي العاصفة وتنقشع الغيوم وإذ بي على جزيرة اغربة ملقى وعلى ساحلها الكئيب مسجى وكأني أردت أن أجترع الشقاء من أمره ومن أكثره لعل الأفق البعيد يخبىء ليلة من ليالي الأمس أو كأس من كؤوس الأمس.

الغربة ، أقبح كلمة في الوجود ، الغربة ، أمر كلمة في الوجود ، في الغربة ترى الوجه الآخر من الحياة ترى الوجه القاتم في كل شيء ، تتعلم كيف ترى الحزن وتسمع أناشيد الدموع وتبصر أنين الألم ، تتعلم قصيدة الذل وتدرس أساليب الطأطأة والرضى بكل شيء لم تكن ترضاه من قبل.

في الغربة ينطفىء القمر وتموت بشرته البيضاء وتكتسي ظلمة الليل ثياب سوداء قاتمة ، في الغربة تبكي الشمس كلما رأتني وتنوح حين تداعب شعري بأشعتها الذهبية .
في الغربة يحترق العمر ولا يبقى منه إلا الرماد الذي لا يصلح إلا لذره في رياح النسيان فهو ليس واقعا فرحا أعيش فيه ولا يصلح حتى ليكون ذكرى ولو أصبح لنبذته مرميا في زاوية بعيدة من زوايا عقلي غير راغب في رؤيته أو تذكره.

فعمري إن أستطعت حساب عمري قد توقف العد فيه في تلك اللحظة التي أقلعت فيها طائرة الشقاء وإلى الآن كل ما مر من ساعات وأيام وليالي منذ تلك اللحظة أحترق وصار رمادا وكل ما سيمر سيصير رمادا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى