السبت ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم يحيى القيسي

وردة الليل

كلماتي قاصرة، وأنت أبهى..!

فاقتربي الآن كي أقطر في سمعك المتلهف سري الأعظم، فما عدت أطيق السكوت.

كلمة واحدة فقط أطلقها مثل حمامة كي تطير إليك، فتلقفيها إن شئت بالحنو والحبور، أو فاذبحيها بسيف الجفوة والصدود.

أعوذ بك من كل هذه الروعة، وألتجئ إليك لتنقذيني من شعب التيه والخبل، فلكأني الساعة سواي..!

وليس لي إلا أن أتشرب بنظراتي التي زالت عنها الحجب والغشاوات وجهك النوراني وهو يفيض بالمهابة والغبطة وحلل الفتنة والغموض..!

طمأنينتك هائلة، وقلقي عظيم.

العلامات كلها تدلّ علي ّ، وأينما وليت وجهك فليس ثمة إلاي، فتعالي إذن، ولا تذهبي بعيدا فيأخذك السراب..!

أدري بأنك كنت تأتين إلي مصفّدة بكل الرقباء: الأب والأم والأخوة والقبيلة والرب والعقل والتاريخ، وما يوحى إليك عن الحلال والحرام والعيب والمثل والقيل والقال والشرف التليد الذي ينبغي أن يسلم من الأذى..!

الحق أقول لك: تعالي وحيدة إن استطعت دون هؤلاء... اخلعيهم واحدا واحدا قبل أن تلجي عتباتي، فما أريد إلاك حرة خفيفة الأحمال، أنت فقط، فهذا أنذا اللحظة أقف قدامك وحيدا متمردا وخالصا لك من دون العالمين..!

أسمّيك "وردة الليل" وأنت نديمتي في وكرنا العتيد، وأنظر وقد تفتحت أوراقك، وتضوع أريجك، وما نلتقي إلا في ظلمة الليل، يسترنا من نظرات العوام المتشككة، وتساؤلات البشر الجوف.

تتكلمين فأنصت...ينثال صوتك فيّ فأتشربه بلذة عجيبة،وأغفر لك تقلب طقسك ما بين الضحك المجلجل والوجوم القاهر..

أعرف كم أنت مطعونة بالتجارب، وتعرفين كم أنا مثخن بالخيانات، لكن ما بيننا مختلف، غريب وعميق، ما له أول ولا أخر، وما أظنه ابتدأ قبل أشهر معدودة بل منذ الأزل..!

كأن المسافات ما بيننا خدعة والأمكنة هباء، وما أنظر إليك للتو إلا كما أنظر نفسي في المرآة، الم تقولي أن التجلي على قدر المحبة..؟

أذكري الآن معي:

يوم كنا نكهرب الجو بالنقاشات وتبادل الرؤى والأفكار، لا نكاد نترك صغيرة ولا كبيرة إلا ونفلسفها ونجد من أمرها مخرجا، وكنا كما لو جمعنا العالم بين أصابعنا نلهو به كما نشاء، نقلب التاريخ على عصوره، ونغربل الحقب وما شابها من الزيف والحقيقة، وإذ يتشبع دمنا بالشراب الرائق تزداد الثرثرة، فنسخر من الوجود والعدم، والحق والباطل، والماضي والحاضر، ويكون أن نتنافذ إلى سير الأجداد وحيواتهم الخرافية ورغباتهم الجامحة.

أحتار من اندفاعك وجرأتك على الكلام في كل شيء، عدا ما يخصنا نحن معا، لكأن الأمر مسكوت عنه، ما لا يقال، الكلمات خاوية، مثل صفير فارغ، لا تقدر أن تحيط بكل جنوننا، وها نحن نميل إلى الخروج، وقد قارب الليل على الانتصاف، وشوارع عمان خالية إلا من القطط السائبة، وجسدين ممغنطين برأسين أثقلهما الشراب والتنظير..!

فجأة تتعالى ضحكتك وأنت تذكرينني بصور الحب النمطية التي تضخها علينا المسلسلات والأفلام والقصص، تنقلين لي بحركاتك الساخرة المتطوحة صورا بعينها لعاشقين يلتقيان في مقهى لأول مرة، وقسماتهما تطفح بالسذاجة..!

أتخيل معك ذلك فأكاد أنقلب على ظهري وسط الشارع من القهقهة، وتصرّحين حينئذ بأنك طلّقت الحب وهمومه إلى غير رجعة، وأوافقك معلقا بقسوة بأن العلم الحديث اكتشف بأن الحب ما هو إلا تفاعلات كيميائية تجري في دماغ المحبين، وسرعان ما ينتهي كل شيء ويعود كل واحد منهما إلى عاديّته وضجرة، وتقولين متحمسة: عظيم فما للقلب من وظيفة يا صديقي غير ضخ الدماء... يكفينا كذبا وعويلا.. ألم تر إلى ذلك النفر من المطربين والمطربات وهم يتأوهون ليل نهار
"قلبي... قلبي..".... !

وأصرخ فرحا كمن اكتشف شيئا خطيرا:

وجه القمر أيضا ليس كوجه المرأة الجميلة... وجهه صخور وأخاديد قاحلة فلماذا يغنون له ويمجدونه في الأعالي..؟

وهكذا ما أن نصل آخر الشارع حتى نكون قد أطلقنا على الحب رصاصة الرحمة، ونحتفي بطقوسنا العبثية بإعلان موته..!

وكما يحدث عادة في الأفلام يا صديقتي تمطر السماء رذاذا هيّنا فتركضين مثل امرأة بدائية، وأصيح بكل طاقاتي المغيّبة:

مجنونة...!

تواصلين الضحك فأقترب منك، وقد شعرت حينها بزلزلة هزت كياني، وصار العرق يتفصد من مساماتي، وتتسارع نبضات قلبي، فتنظرين إلي مستغربة تقلب حالي، وتقولين لي وضحكاتك ما تزال ترنّ:

ما بك.. مريض... أو عشق مثلا..؟

فأرد متلعثما، وقد أخذتني على حين غفلة:

لست أدري.. أظن ّبأنّي... أرجوك توقفي قليلا عن الشيطنة ولم لهذه المرة فقط... بصراحة أعتقد بأنّي أحبـك..!!

تضجّ ضحكتك موقظة الليل النائم، وتردين خالطة الهزل بالجد: يا سلام.. رومانسية هائلة......... تظّن وتعتقد.... ثم ألم نتفق بأن هذه الكلمة أصبحت مملة ومستهلكة..؟

أكاد أجنّ، وأحتار من سخرية الرد أو جديته، فأمد يدي كي تحتضن يديك، فتنتفضين مثل الملسوعة، ويتأهب كل الرقباء الذي تحملينهم فوق عاتقك، وتتراجعين إلى الخلف، وقد عدت إلى الثرثرة أن لكل فعل زمانه ومكانه الذي يليق به...!

أبتعد متوجسا وقد صدمتني الحالة..

أصمت فتصمتين، ويتشمّع الجو آنذاك بأوكسيد النكد، فلا يبقى إلا أن نودع بعضنا، وإذ تغادرين أظل أتقلب بنار الانتظار ذات اليمين وذات الشمال مستعيدا كل اللحظات التي قضيناها معا حتى يتبين شعاع الشمس من غبش الفجر فأنام.

ها أنذا الآن في حضرتك من جديد ووجهك يطل عليّ بفيوضاته السحرية وإشراقاته المطمئنة، وما جئت إلا لأقول لك وأنا أذهب بهزلك إلى مقابره:

لتذهب كل الكتب والأفلام والأغاني وسذاجات المحبين والرقباء والنقاشات والأحلام وما يجوز وما لا يجوز والشيطنة والضحك المجلجل والمطر إلى الجحيم....

ولكن يا وردة الليل... يا صديقتي المجنونة جئت لأقول لك بلا خوف ولا جزع:

فقط........... أحبـــــــــــــــــك.....!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى