السبت ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
القصة الفائزة بالمركز الثانى فى مسابقة نجلاء محمود محرم للقصة القصيرة 2006

تجليات الذى ليس أنا

تأليف: عامر بخوش أحمد ـ الجزائر

كنت متأخرا جدا فى اكتساب هواية لعبة الشطرنج، بعد سن الثلاثين، نعم بعد سن الثلاثين، يلقى عليك الماضى ظلالا، تسرق بعض ما يحيط بك من نور، وتتصدى للأشعة التى كانت تغمر قلبك فتبهره ويتسع.. يتسع ليحوى العالم، فيتجاوزه بعد ذلك بالإشعاع. ثلاثون سنة مرت من عمر لا أعلم منتهاه، ورقعة الشطرنج هى هى، اللعبة ليست هى، الوقت ليس هو، وأنا لا أدرى إن كنت هو! هل يسع المرء أن يُشفى من ذاكرته، ويلغى ماضيه؟ لعبة الشطرنج امتحان صعب لكل ما كنت أدعيه.

كيفت قوانين اللعبة مع ما كنت أراه صحيحا فى الحياة، تذكرت حكمة كان قد أودع سرها فى جوانحى معلم كنت أحبه: لا تتعامل مع الأشياء دائما بالصح والخطأ، لا تنس ما هو حتمى، كيِّفْه أو تكيف معه لصالحك دائما. الحتميات والأشياء الأخرى سر حياتى. الثلاثون حتمية، الماضى حمل ثقيل من الظلال والذكريات، الواقع أمر مهول مفتوح للكثير من التأويل والقراءات. شكلت تصورا خاصا لهذه الهواية، يقوم على كونها تدريبا على الحرب مأمون العواقب، فصرت أرتب القطع حسب ما يقتضيه الواقع والتاريخ العربى كذلك، من تحديد للمهام فى حالة حرب تخوضها الدولة أو الأمة وحتى القبيلة فى معظم الأحيان. واتخذت لنفسى قاعدة لم أحد عنها فى أى دور لعبته وهى: "ألا أهاجم بالملكة خوفا عليها من الموت، اعتقادا أنه ليس نصرا ذلك الذى تموت لأجله النساء وينعم به الرجال" طبقا لما أمدتنى به كتب المؤرخين وقصائد الشعراء فى وصف الحروب.

اتخذت أيضا أسماء للقطع متداولة فى المغرب العربى، أقترب فى دلالتها مما هو شائع فى العربية من مصطلحات السياسيين حين يتكلمون عن الحرب مثلا بقولهم، "إن الحرب يشعلها المجانين"، تبنيتها وجرت على لسانى، كما توغلت فى وجدانى بسرعة، وعليه فالرخ يسمى القلعة والفيل يسمى المجنون.. ولا خلاف على اسم "الملك" كما وصفه التاريخ، وكما هو معروف عندنا نحن العرب، فالحاكم فينا بأى نظام كان ملك على كل حال، معَزَزًا تاجه دوما بالجنود والخيول.

هناك اعتبار آخر يجدر ألا أنساه وأنا أسرد عليكم تفاثيل قصة رجل عشق الشطرنج بعد سن الثلاثين.. نعم بعد سن الثلاثين، وهو أن حروبنا العربية فى معظمها ـ الماضية منها والراهنة وحتى الآتية طبقا لما يراه الحاكم ضرورة لاستمرار النظام ـ كانت لها غاية واحدة ووحيدة هى: المحافظة على الملك ولو بأغلى الأثمان. وهكذا وجدتنى أوافق على الإطار العام لقواعد اللعبة التى علمنيها فى اليوم الأول ـ باختصار المتخصصين ـ أحد المحنكين وهى: " لن تحرز النصر إلا ببقاء الملك ولو كان وحده على الرقعة بعد سقوط كل القطع. الملك حى فأنت منتصر". الشطرنج لعبة ابتكرها أكاسرة فارس وملوكها، يُعَلِّمُون بها الرعيةَ كيف تموت بشرف ليبقوا بعدها أحياء يسجلون التاريخ ويمدحهم الشعراء.

كنت أبدأ دائما بإفساح الطريق للمجنون، لأجل المناورة والاستفزاز وإذكاء نار حرب شعواء تتجاوز الصبر والتريث وكل الخطوط الحمراء، فلا صلح ولا تصالح بعدها. لى بعض العذر فى ذلك فأنا من أمة تأخذ حكمتها من أفواه المجانين، والنتيجة حتما قاتل وقتيل. لا بأس إن سقط المجنون بعد هذه المهمة التى يسميها العقلاء من الناس ـ ولا أظنهم يهوون الشطرنج أبدا ـ: "فشلا دبلوماسيا ذريعا". يمكن تعويض ذلك المجنون بجندى أو اثنين يسمران فى ثغر محتمل الخطورة.

ثم أخرج الحصان للهجوم فهو أسرع فى الكر والفر كما قرأت فى كتب التاريخ، بالإضافة إلى هذا وجدتنى مرغما على موافقة السياسة العربية فى الحروب: الجنود فى الأمام.. القادة فى الوراء. الجنود للموت.. القادة لشئ آخر. ولم أوافق أبدا أبدا على دور الملكة فى قواعد اللعبة، رغم مرونتها فى الحركة وقدرتها على ضرب عدة جبهات فى كل الاتجاهات كأحدث طائرة فى أحدث سلاح جو. كثيرا ما كان الخصم يجعلنى ـ بواسطة تلك الملكة الخشبية ـ فى موقف دفاعى ضعيف لا أتخلص منه إلا بشق الأنفس. فإذا ما دفعت بالمجنونين والحصانين إلى ساحة الوغى، وأفرغت معظم خانات الصف الأول، لجأت إلى تحصين الملك بإحدى القلعتين والملكة بالأخرى كما هو شائع فى التاريخ، مع بعض التغيير باستحداث الحفر والملاجئ الأرضية فى الحروب الحديثة.

كان هذا المنطق الذى لم أفصح عنه، لكننى أطبقه بعناية وحذر، يجعل الخصم يحتار كثيرا فى تصنيفى وكذلك المتفرجين فى بعض الأحيان ما بين دائرة الحمقى أو دائرة العباقرة. نعم أؤمن بهذا، هناك خيط رفيع بين العبقرية والغباء. إنه ثلاثون سنة مرت دون أن أفطن إلى هذه اللعبة المسلية. كان هذا المنطق الذى ألزمت نفسى باتباعه يدفعنى إلى صعوبات ومآزق تؤدى بى إلى مشارف الهزيمة، نظرا لمرونة قطع الخصم الخطيرة فى الانتقال والمناورة وتمركز قطعى الهامة لحراسة الذات الملكية، وتكليف الجنود البسطاء ـ الذين لا يتحركون إلا ببطء وإلى الأمام دائما ـ بالهجوم المستمر أى الموت المستمر. هذا كله جعلنى لا أستطيع أن أربح معركة واحدة فى ظرف وجيز، وإن كنت لم أنهزم أبدا!

مرت سنين والهواية تتجذر والانتصارات تتلاحق، ولا داعى ـ لمن يهمه أمر هذا الرجل الغريب الذى هو أنا ـ أن أكرر مرة أخرى أننى لم أنهزم أبدا، حتى انْتُخِبْتُ بطلا عربيا مرشحا لخوض مباراة على مستوى العالم، العالم كله، شرقه وغربه شماله وجنوبه، لا أدرى من أى جهة من هذه الجهات يبدأ ولكننى أذكر أننى سمعت متكلما جهوريا مثقلا بما ورثه عن مجتمع الطاعة من وقار ورياء يقول فى إحدى محاضراته، إن العالم يبدأ من الشرق وتنسب باقى الجهات إلى العالم بحسب قربها من الشمس!

فرضت على أهمية المستوى الاطلاع المفصل والدقيق على سير حياة الخصم الذى سأباريه، ومحاولة استقراء الأزقة العميقة فى ذاكرته علنى أجد فى أحد منعطفاتها اهتراء ينذر بالدمار. لقد قال لى ذلك المعلم الذى كنت أحبه، إن الذاكرة والمدينة توأم لهندسة واحدة.

ما عاد الذين لاعبتهم يغروننى بالمنافسة والاستنفار لسحقهم، فأنا بطل عربى لا يجارينى فيما أنا فيه عربى آخر. وعليه لجأت إلى تدريب فردى صارم أمارسه فى اليوم عدة مرات، أفترض فيه حضور الخصم قبالتى وأشرع فى لعب الدورين، مرة لصالحى ومرة له.

شهور تفصلنا عن المباراة الحاسمة، لا أدرى إن كانت ستطول. أحضرت رقعة الشطرنج ووضعتها على الطاولة، ووفرت كل الشروط الشطلية لمباراة بطولة عالية المستوى، فوضعت مرآة كبيرة الحجم على الكرسى المقابل للذى أجلس عليه، ووضعت منبهين مضبوطين على نفس التوقيت كما يشاهدهما الناس دائما، أزحت أحدهما جانبا حين أحرجتنى المرآة فصارا أربعة! آه.. الزمن تحدٍ آخر. منبه واحد. يشد المتفرجون عيونهم نحوك وأنفاسك أنت مشدودة نحوه. هل نحن فعلا فى القرن الواحد والعشرين؟ لقد تحايلت الأمم فى تنويع تاريخها إقرارا بما تعيشه من تخلف، ربما. فلسفة خاصة بهذا الزمن الهلامى الذى يبدأ فى كا محطة وينتهى، احتمال وجيه. هناك احتمال ثالث لا يمكننى ـ أنا لاعب الشطرنج الذى تجاوز الثلاثين ـ أن أدعيه.

بدأت اللعب بالتناوب، دورا بدور، لم تنطلِ علىّ تلك التمثيلية، إلا أننى جاريتها لشئ واحد، أثبت لدى الاختلاف عن صورتى فى المرآة. انعكاس الاتجاهات أمر مقلق جدا، وكم هم سعداء أولئك الذين يعتقدون أن العالم يبدأ من الشرق. إذا حركت القطعة بيدى اليمنى حرك الخصم يده اليسرى، وإذا نقلت باليسرى نقل هو باليمنى. أواه.. إنه يطابقنى فى كل شئ ولكن بشكل معكوس. لا عيْب على المرآة. أين هو الأصل وأين الفرع فينا نحن الإثنين؟

طبقت فلسفتى فى الشطرنج كالعادة لصالحى، وتمثلت الظروف النفسية التى يمكن أن يعيشها حسب ما قرأته فى سيرة حياته وطبقتها لصالحه. وياللمفاجأة التى حدثت، لقد هزمنى! صدقنى أيها الذى تريد أن تعرف تفاصيل حياة ذلك الرجل الغريب الذى صار لاعبا للشطرنج بعد سن الثلاثين. وأنا أعترف أمامكم بالهزيمة، قد تنازعتنى نرجسيتى، لكن الروح الرياضية تقتضى الاعتراف.

فى المساء جالت بخاطرى معلومات مهترئة من درس قدمه لنا ونحن صغار ذلك المعلم الذى كنت أحبه: "لكل شاعر قرين أو شيطان يلهمه الشعر حسب مزاجه، وحدث لشاعرنا الذى سندرس إحدى قصائده اليوم ـ أيها التلاميذ الأحباء ـ أن دخل فى حوار مع شيطانه بعد ما سأله: لماذا لا تعطينى حكمة الشعر دفعة واحدة فيكون فيكون لى أفيد ولك أريح؟ فأجابه الشيطان: إن هذا صعب.. صعب جدا. وعندما سأله الشاعر عن سر صعوبة ذلك أجابه الشيطان، يصعب علىّ أن تتحرر منى وتصبح فى غنى عنى، ولكنى سأدلك على طريق سهلة توصلك إلى حكمة الشعر: عليك أن تجعل الناس جميعا شعراء، هنا فقط تمسك بزمام الحكمة وتطرد الشياطين من ملك البشر. ويومها رسخ فى ذهنى قول ذلك المعلم: قول ذلك المعلم: إن الشعراء يهمهم كثيرا معرفة ما يقدمه المستمعون والقراء لقصائهم من مديح وثناء، لا نرجسية وعشقا لأنفسهم بل نكاية فى شياطينهم.

لا أدعى أن الشطرنج والشعر سيان، لا، لقد ولَّى زمن الشعر ولم تصلنا حكمته بعد، وسيستقيل الشياطين عندما يصير الناس كلهم شعراء أو مؤمنين، أما الشطرنج فهوكالسياسة عند الكثيرين، نمارسه متى نشاء ولاعيب لهزيمة فيه، لأنه باختصار : رجل على المنصة يخطب والرعية تصفق، أو رجل على الطاولة يلعب والجمهور يتعجب. علىَّ أن أتجرأ قليلا لأعلن فارقا بينهما لا يخفى على الناس: الشطرنج يثير اهتمام متفرجيه!

لا أدرى كم انقضى من مدة، تلك الشهور، حتى حان موعد المباراة، والنتيجة نفسها: الهزيمة المتكررة أتلقاها يوميا من خصمى الذى يطل من المرآة.

غدا يوم الحسم، قضيت الليل كأى لاعب يستعد لبطولة عالمية، وفى الصباح جلست قبالة الخصم، خطر ببالى ألا ألاعبه أنا بل أترك الذى يسكن المرآة ينازله، لعله يهزمه ما دام قد تدرب على هزيمتى طيلة شهور، لكننى طردت الفكرة من ذهنى. رغبةٌ متأججةٌ تدفعنى ذاتيا لإحراز هذا النصر خوفا من تواطؤ الذى يسكن داخل المرآة مع خصمى، فأنا لا أعرف كليهما.

القاعة شبه دائرية، شكل هلالى، مكانك قاب قوسين. البطولة أن تتمم الدائرة، الأرض كروية، التاريخ دائرى، الكل يدور وأنت فى الوسط، ذاك هو التحدى. نُضِّضَت الكراسى، صفوفها متدرجة من الصف الأخير الأعلى إلى الأول الأسفل، عيون المتفرجين متوثبة للطاولة التى تتوسط ما تبقى من القاعة. فى فسحة واطئة جلست بعد مصافحته، حدقت مليا فى وجهه، ابيض لدرجة التمثال، عينان زرقاوان نظراتهما قاسية البرودة، يخيم الصمت، يهيمن نبضه بالتناوب مع تكتكات المنبه، لا تستطيع أن تسمع غير صوت الصمت.. لا أدرى إن كانت صورة المعلم الذى كنت أحبه قد ترممت بين أعطاف ذاكرتى المتعبة تلك اللحظة، لكن قفزت الى ذهنى عبارة: إذا أنتهت اللغة بدأت الحرب. غيرت نظرى الى رقعة الشطرنج, ترتيب القطع المتواجهة بالتساوى فى العدد وفى المواقع ـ الحرب خداع ـ الأبيض من جهتى يهبط شاقوليا على الطاولة، تتجمع أشعته فى توهج مستقيم، يرسم قطرا لامعا للمربع الأسود ويتماهى طرفاه فى المربع الأبيض، ويعلن الحكم البداية.

مدة ليست قصيرة، كانت ملامح وجهى تشى بارتياب ساوره في ما كنت أقوم به من نقلات، أما تضاريس وجهه فساخرة مرة ومتوجسة مرة. المعركة كر وفر. فجأة يعلن المنبه نهاية الوقت المخصص لمنازلة.

استطعت أن أهزمه!

وحين كان المتفرجون غارقين فى الاندهاش والتصفيق، كان يدور بذهنى سؤال حاد: هل أنا بطل؟

بعد ذلك بقليل قرأ رئيس اللجنة لائحة التحكيم، رُتِّبْتُ الثانى وحُجِبَتْ المرتبة الأولى لضعف مستوى المنافسة. وعندما انهال الجمهور علىَّ يهنئنى، ارتسمت فى فضاء القاعة صور ضاحكة وحزينة لمعلم يقدم درسه الأخير قبل أن يستقيل، وقد سأله تلاميذه عن السبب فأجاب: إذا كنت وحدك فى السباق، فلا داعى لأن تكون الأول. إنها صورة المعلم الذى مازلت أحبه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى