السبت ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
القصة الفائزة بالجائزة الخاصة فى مسابقة نجلاء محمود محرم للقصة القصيرة 2006

ظلال تتشكل

تأليف: علاء عامر ـ مصر

مع انسحاب النهار.. أخذ يجاهد فى صعوده الثلاث درجات الأخيرة فى السلم الخشبى المسند على الحائط.. وقف على السطح وقلبه يدق بعنف متحديا وعيد أمه الواقفة فى جلبابها القروى بباحة الدار

ـ لن أنزل!

رشقته أمه بدعواتها عليه.. هزَّ كتفيه فى عناد فدعت عليه أن "يسخطه" الله قبل أن تتجه للداخل..

بدا مزهوا بنفسه فى أول وقوف له على السطح.. جلس يطالع قرص الشمس الذى بدأ يلامس الأرض خلف شجرتى صفصاف عاليتين بنهاية الجرن.. صور شتى متعاقبة تتراءى له.. ظل ساكنا بينما خلف غروب الشمس شجرتى الصفصاف محض شبحين أسودين ساكنين.. مدَّ يده صوبهما وثمة وَهْمٌ يدفعه للظن بأنه يلمس كليهما.. يهمس لنفسه مرددا:

ـ رجل طويل وامرأة قصيرة وبدينة

تمايل كلا الشبحين مع نسمات الخريف.. بينما ظل يوغل فى خيالاته.. يوغل فيما ترددت جلبة ضحكة أبيه الخشنة فتبعثرت خيالاته وهبَّ من شروده واقفا وقد لفه الرعب من عقاب أبيه.. هَمَّ بالنزول.. وضع قدمه على أول درجات السلم واسترق السمع.. صوت أمه تضحك بنعومة ممتزج بصوت خفيض لأبيه.. ساورته طمأنينة.. وقبل أن تدنو رأسه عن مستوى السطح فى نزوله بدت له إحدى شجرتى الصفصاف كامرأة ترضع طفلا.. وبدت الأخرى كرجل يلاعبه.

فى الصباح توقف عند الشجرتين وهو فى طريقه للكُتَّاب.. أخذ يدور حولهما لامسا بكفه جذعيهما وهو يتغنى:

تلك الشجرة ترضع طفلا. . . . . والثانية رجل طيب

فى طريق العودة قبيل الظهيرة.. ظل يتغنى بكلماته وهو يحجل فى سيره.. صعقه صوت أبيه الزاعق يسب أمه وهو يدلف من باب الدار.. جمدت أطرافه.. أغلق الباب وانزوى فى ركن داسًا رأسه فى كتابه مأخوذًا بكل حواسه مع صوت الشجار حتى ساد صمت ثقيل.. ظلت أمه تكفكف دموعها بعد خروج أبيه.. حلَّ المساء.. انسل من حضنها وصعد إلى السطح.. هَمَّ أن يتغنى بأغنيته إلا أنه صمت مصغيا لصوت ريح ترابية تدور فى الأفق.. شجرتى الصفصاف تتمايلان بعنف.. بدا له "الرجل الشجرة" يدفع "المرأة الشجرة" بكلتى يديه محاولا إسقاطها.. وهى تقاومه باستماتة..

سارع بالنزول وظل مستيقظا فى فراشه.. وصفير الريح ينفذ إلى قلبه فيستحيل إلى صوت صراخ "المرأة الشجرة" وهى تقاوم وتستغيث..

مضى فى الصباح منكس الرأس غائر العينين وهو يتحاشى النظر صوب الشجرتين.. إلا أنه هرول صوبهما حين وجد رجالا قد تحلقوا حول "الرجل الشجرة".. صعد أحدهم وربط حبلا فى أعلاه بينما كان الآخرون يضربون جذعه بفؤوسهم.

فى الكُتَّاب رفع وجهه صوب وجه الشيخ.. استجمع شجاعته وسأله:

ـ هل يعاقب الله الأشجار إذا أخطأت؟

رمقه الشيخ بنظرة ريبة.. ولم يرد.

رفع إحدى قدميه فى سيره ليخطو فوق "الرجل الشجرة" الراقد بعرض الجرن.. تباطأت خطواته حين اقترب من الدار.. انشغلت روحه بكثرة الرجال المتجهمين الواقفين أمام الدار.. ربت أحدهم على كتفه فارتعب ودخل مسرعا.. غامت عيونه بالدمع وهى تبحث عن وجه أمه بين نسوة متشحات بالسواد.. بسطت ذراعيها له.. هَمَّ أن يختبئ بحضنها إلا أنه فزع من تصاعد النواح فهرب إلى السطح.. ومن علوه أخذ يرقب الرجال المتجهمين وهم يتوارون فى الأفق حاملين النعش.. ظل شاردا فى شجرة الصفصاف الوحيدة الواقفة فى الجرن.. أحس بقلبه يذوب وهو يدعو الله أن "يسخطه" شجرة صفصاف تكون إلى جوار الشجرة الوحيدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى