الأحد ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم تيسير الناشف

المحظور الفكري والانطلاق الفكري

لدى البشر كلهم والمجتمعات كلها توجد مجالات مجهولة غير مفكر فيها، ويُحظر التفكير فيها. لعل من طبيعة الإنسان أو العقل البشري ألا يخوض في كل المجالات التي يمكن أن يخوض فيها. ويبدو أن من الأسهل على العقل البشري أن يخوض في المجالات المطروقة وألا يفكر في المجالات غير المطروقة.

والوجود والخليقة لا يمكن، بسبب لامحدوديتهما، أن يستنفد الفكر البشري فيهما. ولا يمكن أن يحقق التجديد الفكري إلا بارتياد الفكر لمجالات لم يدخل الفكر فيها.

وتقرر عوامل مدى اتساع أو ضيق المجالات غير المفكر فيها، وتقرر مدى تحفيز العقل على الولوج في هذه المجالات أو ثنيه عن الولوج فيها. ومن هذه العوامل قوة أو ضعف التنشئة على العمل لإنجاز الأهداف والاعتماد الفكري على الذات وتصور أو فهم الناس لموقف التفسرات الدينية من تحفيز أو منع التفكير في الوجود والكون والظواهر الاجتماعية، والحرص على تحقيق التماسك الفكري والمنطقي للطروح الفكرية في مختلف الميادين.

وعن طريق وصف النص بالمعنى الأوسع وتحليله وتفكيكه يمكن توسيع المجالات التي يسمح للفكر بالخوض فيها. ومما تعتمد عليه عملية التفكيك هو فقه اللغة والمواضيع المتعلقة به من قبيل علم النحو والصرف والبلاغة والاستعارة والمجاز. لقد وفر فقه اللغة نظرات ثاقبة في العلاقة بين النص واللغة والفكر. عن طريق التفكيك يجري الكشف عن وجود الإمكانات والبدائل والخيارات الفكرية.

تكرس نظم اجتماعية وثقافية وقيمية اللامفكرَ فيه. وتكرس تفاسير لنصوص دينية مقدسة ولتطبيقاتها في العالم أجمع ما هو غير مرخص بالتفكير فيه على الرغم من أن تلك النصوص نفسها لا تحظر ذلك التفكير. وتلك النظم، لدى تكريسها للامفكر فيه، قد تفسر نصوصا دينية مقدسة تفسيرا يجعل من المحظور التفكير في بعض المجالات على الرغم من أن تلك النصوص لا تحظر أو قد لا تحظر ذلك.

وفي الحقيقة أنه في أي نظام عقائدي أو قيمي – من قبيل النظام الاجتماعي أو الثقافي أو الاخلاقي أو الديني – مما يقرر المجالات المحظور التفكير فيها والمجالات غير المحظور التفكير فيها ليس بالضرورة النظام القِيَمي نفسه ولكن تفسير المفسرين لذلك النظام والمستوى الفكري والعقلي والإدراكي لدى الناس. ذلك المستوى هو أحد العوامل الهامة في تقرير مدى استعداد الفرد للتفكير في هذا الموضوع ولدراسته على النحو السليم. والناس ذوو المستوى الثقافي المنخفض أو ذوو المستوى الفكري المنخفض أو ذوو الوعي أو الإدراك الأقل تتسع لديهم المجالات التي يُحظر التفكير فيها، ويسهل أن ينشأ لديهم الفكر الجانح إلى تكريس وجود مجالات يُحظر التفكير فيها وإلى توسيع هذه المجالات. وكلما ازداد ذلك المستوى ارتفاعا قلت المجالات التي يُحظر التفكير فيها وقلَّ الميل إلى تفسير النظام القيمي بأنه يحظر التفكير فيها.
ومن العوامل التي أوجدت تكريس اللامفكر فيه أن هذا التكريس حالة نفسية لدى الشعب الذي اعتاد فكريا ونفسيا على هذا الفكر والذي ركن إلى هذه الحالة واعتاد على قبولها دون أن يرد في نص ينطوي على نظام قيمي معين ما يطالب بتكريس غير المفكر فيه. ومن العوامل التي تعمل باتجاه تكريس وجود مجالات من المحظور التفكير فيها أن لدى بعض الناس ميلا إلى العزوف عن التفكير التحليلي والنقدي والتفكيكي. وبهذا العزوف ينشأ تفكير يجعل مجالات معينة محظورا التفكير فيها.

والتخصص في دراسة العلوم الاجتماعية والنفسية والطبيعية في الكليات والجامعات من شأنه أن ينشّط لدى العقل الحافز على الخوض الفكري في مجالات ما كان العقل يجرؤ على الخوض فيها. ومما من شأنه أن يوجد هذا النشاط العقلي أيضا تغلغل مضامين العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية والطبيعية في شخصية الإنسان وتفكيره وعقله وموقفه وسلوكه، مما يتيح لهذه العلوم أن تؤدي دورا أكبر في موقف الإنسان من اتساع أو ضيق رقعة المجالات التي يحظر التفكير فيها.

والعصور العربية الإسلامية يختلف بعضها عن بعض في مدى سعة مجال المفكر فيه أو سعة المجال الذي يُحظر التفكير فيه. ولعل من الصحيح القول إن الفكر العربي الإسلامي كان أكثر حرية في خوض مجالات خلال الخلافة الراشدة أو خلال فترات من العهد الأُموي في سورية والعهد العباسي والعهد الأُموي في الأندلس من الحرية التي يتمتع بها الفكر في خوض هذه المجالات في الوقت الحاضر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى