الجمعة ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦

أأمي..ذاكرة حاضرة للحليب والدفء والسلام

سيرة جرح عراقي حي

فيا شمسي إذا غابـــت حياتي نشدتكِ ضارعاً ألا تغــــــامي

ويا"متعوبةً"قلــباً وروحـــاً أخاف عليك عاقبة الجمـــــامِ

ويا مـــكفوفةً عن كــــل ضرّ نشدتك ِ أن تكفي عن مــلامي

فليس يطيقُ سهماً مــثل هذا فؤادي وهو مرتكز الســــهامِ

لقد كنتِ الحسام على ظروفٍ حملتُ بها على حـــدّ السهامِ

وقد كنتُ الحرون على هجين يحاول أن يسيّر من زمامــي

وليس رضيعُ ثديكِ بالمجازي ولي! س ربيب حجركِ بالمضامِ

محمد مهدي الجواهري/شاعر العرب الأكبر

"لو إننا نصبح كتلة بلا فجوة
من الفي مليون من القلوب النابضة
لو إننا نثبت أقدامنا في أرضنا هذه
ونفتح عيوننا بجباه مطمئنة
وندفع بقوة بالقبضة والمنكب
ندفع ونشمخ متحدين معاً
فيا للبناء البديع الذي سيرتفع من الوحل.."

أنخيلا فيغيرا - شاعر أسباني من بلباو

السلام عليكِ وعلى شيباتكِ الطاهرة،السلام على حزنكِ العظيم وجراحات صبرك الفائحة شذاً وطيبا، السلام على هدهداتك لي ولأخوتي صباح مساء،السلام على صوتك القادم من أعماق الذاكرة البعيدة"ديللول...يلولد ياابني ديللـــــولْ...عدوك عليـــل..عليــل وساكن الجولْ"،السلام على سعفات نخيل بيتنا الذي ما عاد بيتنا يا أماه...السلام على صوت أبي وقرآنه المرتّل ترتيلاً ...السلام على سورة يس والرحمن والقلم والواقعة التي حفظتها منذ طفولتي وأنا في أحضان أبي...السلام على بساتين "قرية سعدية الشط"وأهلها الطيبين..السلام على جدتنا "حليمة"التي أرضعت النور من لبن العرب..السلام على العراق وعلى عذابات العراق ورحمة الله وتحياته..السلام على أهلكِ المنحورين ظلم! اً في (الفلوجة)..أذكر يا أماه أني عندما كنت صغيراً أجلس في حديقة بيتنا الكبيرة وأنت (تشجرين)الحطب في تنور الطين..وكنا أنا واخوتي نحلّق حولك مثل صغار الطيور تارةً ومثل الفراشات تارةً أخرى..بانتظار قرص الخبز الصغير الذي كنا نراه كبيراً(الحنيّة) مع أول وجبة من رغيف الخبز تخرج من تنور الطين..يفوح منها الطيب والحنين والحليب والأمان..كما أذكر جيداً كيف كان أبي(رحمه الله) يعلمنا كيف نحب الله والأرض وان من لا يحب الله لا يحب الأرض ومن لا يحبهما لا يحب الناس والحياة ..لأن الله شريعة كل عدل وسلام وسكون..والأرض هي وشيجة كل أمرؤ بجذوره الممتدة في هذا الطين..وهي الوطن الذي تختصر فيه الأشياء وهي سِفْرُ الأنبياء والأولياء..وهي الوطن المقدس كحرمة بيوتنا وخدائرنا،الوطن الذي عصفت به ريح المغول واقتلعت معالمه الجميلة بعصف الدبابات والإرهاب التتري البغيض..فكيف يا أماه نعود لتلك الأيام ومتى تعود إلينا...؟وكيف يا أماه ضاع الحنين وصار الناس لا يحبون بعضهم..؟أليس الشمس نفسها والأرض نفسها والبساتين نفسها والأرض نفسها والبساتين والعناوين والمكانات ذاتها ..والأضرحة والمساجد والفنارات والقباب كما هي لم يتغير منها شيء..؟أليس الشاي نفسه والحليب ونخيلنا مازال يحمل رطباً جني! اً بألوانه وأنواعه الزاهية..ربما تغير طعم الخبز وطبع الناس لأنهم يأكلون الخبز المشوي بتنانير الغاز وأفران الألمنيوم..؟؟هل السرً في بشاعة المرء وانتكاسته الإنسانية لأنه لم يعد يحب خبز تنور الطين...؟ولا يحطب بفأسه وأنما بمخالبه وأسنانه ...!لقد تغير الناس يا أماه تغير الأهل والصحب لم يعودوا أوفياءاً كما كان يقال عنهم،تغيروا جميعهم حتى أنتِ في بعض الأحيان أشعر أنكِ قد تغيرتِ ربما لأنك لم"تلولي" بعد..؟ولم أسمعْكِ "تلولين"لأحد بعد أخوتي الصغار ..بينما العمر يجري بعربة من نارٍ يجرها الوقت العاقر ولا شيء سوى الفوضى والضياع والأماني المفخخة قدّام بيوتنا..الزمن الذي نعيشه الآن زمن أحمر..زمن قانٍ يغصّ بالانكسار واللوعة ونكران الجميل..؟ترى هل سأنكر يوماً أنكِ أرضعتني وربيتني وأنحنى ظهركِ عليّ حتى صرتُ متورطاً بالأسى والشعر ومليئا بالغموض...لقد تغيرنا يا أماه ...فلماذا تعاتبني عيونكِ دائماً بنظراتهما ..؟لماذا تبكين على أبنائكِ إذْ كبروا وتزوجوا وأنجبوا أطفالاً يشبهوكما أنتِ وأبي من جديد..؟ترى هل سوف تعيد المأساة نفسها ويكبر الصغار على ما كبر عليه الكبار..؟الوطن يا أماه الذي أحببناه كحب! نا لله وللأرض هكذا علمنا أبي أن نحبه،يضيع الآن أو ربما لن يضيع..؟الوطن يا أماه الذي ضمّ ثرى أبيك المقتول غدراً..وثرى أبي الميت حزيناً غريباً في إحدى مستشفيات العاصمة بدون أن نعلم أنه قد مات..ميتةَ الغرباء كغربة الأمام العلوي علي أبن موسى الرضا(ع) أليس للمرء نصيباً من صفة أسمه هكذا تحدثت العرب وهكذا قال المؤرخون..!أن عذابنا المتناسل من زمان الحروب الغابرة يتكرر الآن ألا أنت يا قرة العين لا تتكررين في هذا الوجود الكالح وهذا المجتمع الغابوي العاتي..يا لها من قصةٍ سأكتبها ذات زمانٍ أن لم تحرقني العبوات الناسفة أو السيارات المفخخة ..أنت يا أمي الحنون ذاكرة كل ذاك الحنين وعنوان كل الناس الطيبين الذين كانوا يجتمعون تحت سقف محبتك الخالصة للإنسانية المتلألأة في عينيكِ المؤمنتين..أنت يا أمي حكايا الصبر على الجوع والحرمان وشظف العيش المقيت والحرب الفاجعة..أنت يا أماه دمعتي التي ما نشفت وما أقسى على الرجل حين يبكي ثمّ من قال أني كبرتُ ألم أزل طفلك المحجّل بالتمنيات وبستر الصالحين..؟أنت يا أمي صرختي التي شقت عنان سماوات الغربة والضغط المهول على الأعصاب والروح والفكر والنفس..أنت يا أمي الشمعة التي أضاءت دياجير كهوف أنفسنا الصغيرة نحن يتاماكِ الذين كبروا وسو! ط القدر يرسم عذابه فوق وجوههم وظهورهم..نحن الذين حجلتهم بالحديد في زمن طفولتنا لم ندرِ أن هذا الحديد يبقى لصيق أرجلنا وأيدينا والبـــــــلاد...؟لقد كبرنا يا أماه مع الرصاص وللرصاص وأخشى أن نعيش للرصاص..!الآن تذكرت كيف كنت تقولين لي بعد أن تطبقي قرآنكِ لقد مضى أخوتك الكبار كلٌ الى عمله أو التزامه في كليته البعيدة وعليك أن تنطر الدار ليل نهار فالحصار قاسٍ على الناس وقد يعترضنا من ضعفت نفسه..وأذا بي كبرت والدار يا أماه غير الدار...وأنقضى الحصار بعد أن طحن عظامنا وأنفسنا وكبر أخوتي وتخرجوا وتزوجوا وأسمع صرخات أجدادنا شاكين باكين من لوعة سرف الدبابات التي جرحت الأسفلت..فيرنّ بيت أبي العلاء المعري في خلدي:

خففْ الوطـــــــــأ ما أظن أديــــــــم هذه الأرض إلا من هذه الأجســــادِ

ومازلت أنا واقفاً أنطر الدار التي لم تعد دارنا...! ويمرقني الغزاة بنظرات تخفي ما لا يسر..ما فائدة أن يحمي المرء غرفة من بيته الكبير المنهار الجدران وغرفه الأخرى تعصف بالجرحى والقتلى والمعذبين والمختطفين...؟؟أرضنا يا أماه لم تعد أرضنا وحسبنا أن هذا الوجود لله تلك القوة المطلقة المسيرة لكل هذا ا! لكون الفسيح..لنا الله أيتها الغالية..لا تضعفي أيتها المرأة المقدسة و ل ا تخنك الذاكرة حدثيني عن طفولتي وعن أخوتي حدثيني عن الحمام الذي يملأ رياض المساجد والكنائس والمعابد ويلوذ بأضرحة الصالحين وأهل البيت(ع) حدثيني يا أماه عن عكاز أبي أذ كان يهشّ بها على قساوة الزمن فيلين له طائعاً كم كان أبي قوياً وكم صرنا بعده ضعفاء على الرغم من أن الزمن قد ركض بنا وعلمنا ما لم نكن نعلمه عن الحياة والناس ..أنت يا أمي الغالية يا غيمة الخصب وبيرغ الشموخ ...يا أغنية الروابي والهضاب النائحات على بلادي ويا أبتسامة العصافير وزقزقتها على أشجار حديقة بيتنا الذي كان بيتنا...أنت يا أول ما حفظت الذاكرة من طيب وأمانٍ وحنان يا بهاء الأمسيات ويا تراتيل الرحمة...أنت يا أمي لون الحياة ورونقها كيف لكِ أن تقفي بكل شجاعة وتقولين لي لقد كبرت الآن ولم تعد طفلا..؟وسوف تصاحب الشعراء والأمراء أو سوف تصاحب وردة وتمضي..والدار يا أماه من ينطرها بعدي؟؟؟هل تقوين على الوقت وقد بلغت من الحزن عتياً..؟وأخوتي الذين أصغر أكبرهم بــــ(10) عشرة سنوات من سيدافع عن وجعهم وكفاحهم والمهم العظيم والبلاد يا أماه من سيدافع عنها أذا كبرت كما تقولين أن الآطفال لا يخونون بلادهم ولا يستعبدون الناس الطيبين و! لا يقتلون بعضهم بعضاً كما فعل الكبار..لذلك أريد ان أبقى طفلك وطفل هذا الدار الذي لم يعد دارنا وأريد أن أبكي وأردد:

بلادي العظيـــــمةُ..أرض السوادْ بلادي اليتيمــــــــة أضـــحت رمادْ

غروبٌ يــــــــكلل وجـــــــه العبادْ ووجهٌ حزيــنٌ كثيـــــــــــر الحدادْْ

يفتش في الــــــــــدور عن مأمنه وعن موعــــــدِ القصة المحزنه

تموت على الدرب أغصانــــها وقد سرق المـــوت صبيانــــهــا

بلادي اليتيمـــــــــــةُ دون قــيادْ

فمن مثل قلبي بكــــى موطنــه وناحتْ على دمـــــعته مــــأذنه

وصــلى على مأساته المزمنة بلادي اليتيمـــــــــــة دون قــيادْ

بلادي تعرّتْ بلا أيّ ســــــيفِ يحير بوصف الفجيعة وصفي

فــأجسادنا للورى معلنـــــــــه بلادي ربى ألف طفّ وطـــــفِّ

وجرحٌ تفتّق في ألــــــفِ نزفِ يحير بوصف الفجيعة وصفي

عليها وقفنا..نؤبن بـــــــــــدرا ونحصي دمع المحبين بــــــذرا!

بلادي..سنرعاكِ أمّاً وطهْــــــرا عصـــــــافيرُ أش جاركِ الوارفه

تشقشق أكبــــــــادها الواجفه وتــــبقى على أعشاشها واقفه

بلادي العظيمةُ أرض الــسوادْ زرعنــــاكِ فجراً..سيولد فجرا

أليس طــــريق التحرر وعرا؟؟ فصبراً بلاد الصباحاتِ صبرا

سيرة جرح عراقي حي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى