الخميس ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم إيمان سعيد

ضحكتان

جلس تحت المظلة ، و أخرج الجريدة التي كان يتأبطها ، ليضعها بين راحتيه ، أمسك بقلمه الذي يصر على الأحتفاظ به في جيبه منذ أكثر من عشرين سنة ، هي عمر خروجه على المعاش ، و ح د ه بشكل أفقي ماذا تعني ، بينما هو مستغرق في أفكاره ، لفت صمته و أقتضابه نظرها .

كل شئ حولهما يدعو للبهجة ، كل شئ يتحرك ..الأطفال يغدون رواحاً و رجوعاً في الحدائق ، القطط تلعق الطعام المتساقط من أيدي الأطفال ، كما تلعق حذائه ، لكنه لم يشعر بها ، و لم يستجب لموائها الحار الذي صار غثاً ثم فحيحاً .. و هي تدعوه أن يرحم جوعها ،
البرد قارص .. لكنه يشعر بشئ من السخونة ، خلع عنه كوفيته الصوفية ووضعها بجانب الكرسي الذي يحتله بجسده البدين . بدأ المطر يهطل ليبلل جريدته و ملابسه التي لم يعبأ بها البته ، بل تأبط جريدته في خوف أن تبتل و تضيع معها أفكاره التي وضعها في جدول الكلمات المتقاطعة و أوشك على الأنتهاء من حلها ،
هزت البنت الجريدة في رفق ، ثم هجمت على كوفيته و أخذتها و جرت بها لاهية ، لتوه أنتبه لوجود طفلة صغيرة تفرغت من لعبها لتتسمر جانبه ... تتأمل سكونه في كون يضج بالحركة .

رنقها في لامبالاة .. و أخذ كوفيته في ضجر من أستهارها ، ثم عاد و أمعن فيها النظر ، إن ملابسها أبتلت .. و صارت أشبه بالقطة المبللة التي ما زالت تلعق بقدميه ، رفعها من على الأرض .. فطبعت بشفتيها البيضاء قبلة مثلجة على خده و بالرغم من طعم القبلة البارد .. إلا إنها بعثت الدفئ في مشاعره ، و حركت داخله مشاعر الأبوة التي هجرته منذ سنين ،

بدأت تداعب كرمشات يديه ، و الخطوط الزرقاء التي صنعتها عروقه تحت الجلد ، فكان كل خط منها إحتجاجاً ، بعمر أخر جواب أرسله له ولد من أولاده.
فذكرته مع كل ضغطة منها على عروق يديه .. ببعض من رسائل كانت تقل بها السطور و الكلمات .. بمقدار الزمن الذي أخذ يغرب مولياً وجهه شطر الأفق البعيد ليغرق خلفه .
و بدأ هو يتحسس يديها البضتين ، و ينظر لبرائتها ..بينما هي تعانقه بكلتا يديها اللتان لم تستطيعا أحتواء جسده كلياً ، فأحتواها بكهولته ، علها تمنحه شيئاً من طفولتها .

تذكر بينما يحميها بجسده من المطر ..أخر خطاب لأبنته الصغرى ، أبي سلامي
أتمنى أن تستمتع بوقتك بعد المعاش ، قبلاتي .

ضحك هو وضحكت هي ، دون أن تعي على أي شئ تضحك ... أخذت تنفل شاربه مداعبه ، و قطره من مطر تسربت إليهما.. سارت من شاربه لتعلق بأنفها ، فلعقها كي لا تبلل شفتيها .. شعر بخشونة لسانه تجرح طراوة أنفها الصغير .. فأعتذر لها ، فضحكت ثانية .. ظنته يداعبها ، و ضحك هو.. إنها لا تشعر حتى بخشونة ملمسه .. بينما هو يشعر تماماً بما سلبه الزمن منه .

توقف المطر ... كل الأطفال يحتمون منه بأبائهم ، إلا هي ... فكر في أشياء كثيرة ربما ليس لها أحد ، لا ، و لكن من جاء بها إلى هنا ، هي تائهة.. ربما
و بينما تتجاذبه أفكاره حيره .. إذ بأحد السيدات تقترب .." شهد" أنتِ هنا ، كنت أبحث عنك ِ ، فأجابها الرجل في أبتسامة تغمر وجهه ، و أنا أيضاً كنت أبحث عنها ، علت الدهشة وجه الأم و شكرته و أنصرفت ماذا فعلت الطفلة به لتجعله يبتسم .. بعد أن كان مقتضباً .. و كأنه الموت يأتيه من صفحات جريدته ،
شهد .. ترددت الكلمة في أذنية ، لقد حلت مرارة ساعته هذه .. و جعلتها ساعة سعادة هاربة من الزمان و المكان ، ساعة منفلتة من ساعاته الحزينة ، إنها بطفولتها .. تستطيع أن تخرجك من الكفن لتمارس الرقص مع الحياة في سعادة ، و تقيدك في حضرة عناق محموم مع ضحكتين من القلب .

هكذا قال عنها في خاطرته التي كتبها ليبعث بها لشهد أبنته .. ربما شعرت بما تحتويه رسالته الأخيرة لها و جادت عليه بزيارة .

و رجع لمقعده و مازالت القطة تلعق حزائه في أستكانة ، و غطت في نوم عميق.. فقد أشبعها بوجبة اللبن التي أعطاها لها لتوه ، بعد عودته للحياة ، و ضحك ضحكة من ضحكتين أثنتين ..أهداهما له الزمن .
إيمان سعيد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى