الخميس ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم صبري هاشم

ورق الظلّ.. ورق الهمس

الهامسُ في المنفى الصاخبِ.. في غابةِ الصراخِ والعويلِ، في وطنِ التذابح.. مترجم برتولد بريشت "حوارات المنفيين" والمؤلف لمجموعةٍ من "المخطوفات" التي سنأتي يوماً على ذكرِها بعد إقناعِه بتسديدِ السبّابة إلى الخاطفِ في زمنٍ لم نكن نعرفُ فيه الخطفَ والأسرَ والمصادرة، الكاتب والمترجم يحيى علوان أقدمَ على ترجمةِ الروائي الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو المُقل في عطائه المُكثر في العنايةِ اللغويةِ والمثير للجدل كما في "أيها القناع الصغير أعرفك جيداً" وهو كتابٌ صغيرٌ يحتلّ مكانةً خاصةً في أدبِ أمريكا اللاتينية الحديثِ، على الأقل، لما يتضمنه من إطلالاتٍ بهيةٍ ساخرةٍ سخرية هادئة وساحرة لما يتناول من موضوعاتٍ ذات أبعادٍ أسطوريةٍ تحتاجُ إلى معرفةِ القارئ بها. الكتاب كان قد تُرجم إلى لغاتٍ عديدةٍ منها الانجليزية والايطالية والبولونية والألمانية وفاز بعدة جوائز عالمية.

رشاقةُ الترجمةِ جعلتني أظنّ أنّ الكاتبَ مونتيروسو يعتني عنايةً فائقةً بلغته وهو يخاف الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه فتراه ينحتُ كلماتِه بصبرٍ وحذرٍ يصل عنده أحياناً إلى حدّ الرعبِ من اختيارِ المفردة وهو ينزع إلى التروّي في تناولِ مادته التي يعطيها حقَّها في نصٍّ أدبيٍّ بهيٍّ. الكتابُ مجموعةٌ من النصوصِ التي تنتمي إلى جنسٍ ولا تنتمي إلى جنسٍ أدبيٍّ ما، فهي تكاد تكون قصصاً قصيرة وحكماً مستخلصة من مقالٍ وعِبراً مكثفة وحتى قصائد نثر.

صاحب الهمسِ وأنا.. ذات يومٍ حيرتنا تسميةُ " الهمس " حين استوقفتنا كثافةُ الرؤيا التي صُبّت في قالبٍ فنيٍّ من جملةٍ أو جملتين لتنفتحَ على عوالمَ أشكال لم تعرفْها الكتابةُ العربيةُ من قبل وحتى هذه اللحظة حسب معرفتي لم نقرأْ لغيرِه فلذلك أحسَّ بحاجةٍ لتعريفِ القارئ بهذا الشكلِ فراح مستدركاً في المقدمةِ ليقولَ: "إذا لم يكن لديك وقت ولم تكن مسترخياً، اترك هذه الكلمات فلديها ما يكفي من الاصطبار كي تتحاور معك في وقت آخر"

نعم هي هكذا كتابةٌ صابرةٌ ومتحاورة، حسب رأي يحيى علوان، تدفع الجدلَ إلى مداه وترى فيه بحثاً عن الحقيقة فيقول: "النقاش غربال الحقيقة" و"الحقيقة لا تخاف القضاء" و"يوماً ما ستطفو الحقيقة على السطح، مثل جثة غريق!" هكذا هو في بحثٍ دائمٍ عن المغيب والضائع.

أما عن العدالةِ فيقول: "ضرب من الصلافة أن يكون المرء محقاً على الدوام" وله أصداء خارقة في موضوعاتٍ جادّةٍ عن الحبِّ حين يتناول أحلامَ العاشقِ "كل ليلة يحلم أن يكون في أحلامها" أو "المرأة حصن يسهل الاستيلاء عليه من الداخل". وحين يخوض في مجالِ الفكرِ والأدبِ والفنِ يكتبُ: "سأسحب كل ما كتبته بين السطور" و"ثمة كتب تشيخ قبل كتابها" وعن النقد يكتب بشيء من السخريةِ المرّةِ: في مدح ناقد "إنه دؤوب دأب النحل، يمكنه أن يلدغ كل فرد" وهو يكتبُ عن الحريةِ والحربِ والتفاؤلِ والتشاؤمِ والدينِ والإلحادِ والتاريخِ والسياسةِ وعن الشيخوخةِ وألمانيا وعن النفسِ وكلِّ شيءٍ فهل نتوجسُ السبيلَ معه إلى دواخلنا فنسأل معه حين يسأل "هل تعرف كلمة السر إلى داخلك" إذن فلنقلْ كما قال: قال للصدى "أرجو ألاّ تُخبر أحداً!"

صاحب الهمسِ أسميتهُ، بعد صدورِ همسهِ الأولِ، حاملَ النجمِِ وانطلقتُ استفزه:

حاملُ النجمِ

أرني تلك المسلّةَ

التي بها طوّقتَ بحارَ الياسمين

وتلك المرايا الزرق

الفاجرة على قارعةِ الطريقِ

وسيدة الغوايةِ

التي نادمتْ مدارَ النجمِ

أرني من أيِّ سوقٍ عجيبةٍ حملتَ أشياءَك الكنوز؟

أرني من لحظةِ العمرِ دهشةً

قبلَ أنْ تكيلَ نحوي الصلواتِ

ربما

بعد أسفِ الغيابِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى