الخميس ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

البنية النفسية لذوي الجنسيات المزدوجة

أذكر أنه أثناء إتمام تعاقدي مع إحدى الجامعات العربية، وأثناء تجمع للقادمين الجدد في أحد الفنادق الفاخرة لإتمام إجراءات التعاقد، أنني قابلت أحد العرب من حملة الجنسية الأمريكية، ودار بيننا حديث مليئ بالشجون والهم العربي المشترك. قال الرجل كلاماً وطنيا خالصاً مبعثه شعوره بالأسى بسبب هجرة العرب إلى أمريكا، والعمل بها، وأن أوطاننا هى السبب في هجرتنا، وأننا لو وجدنا فرص جيدة للعمل لاخترنا البقاء بين ربوع أوطاننا العزيزة. هزني الرجل بكلماته، وزاد من حسرتي على أوطاننا العربية الطاردة للعقول والأدمغة اللامعة.

وبعد بدء التعاقدات، وبالمصادفة البحتة، جاء مكان الرجل جانبي، حيث بدأ جداله حول المرتب والخبرة التي يحوزها، ثم ختم حديثه مع موظف التعاقدات كاشفاً بطريقة فجة ومبتذلة وصفيقة عن ضرورة رفع راتبه بسبب كونه يحمل جواز سفر أمريكي. باغتني الرجل بكلماته هذه، وشعرت ساعتها أنه كان يخدعني بكلامه المعسول عن الوطن والإنتماء والغربة والحنين. أفهم أن يجادل المرء حول راتبه بسبب خبراته وانجازاته، أما أن يجادل حول راتبه لأنه يحمل جنسية أجنبية فهذه مسألة لم أجد لها تفسيراً إلا في سياق فهم البنية النفسية للمهاجرين العرب من حملة الجنسيات الأجنبية، الأمريكية منها بالأساس.

فمن ناحية لايستطيع المهاجر العربي أن يُطلّق جنسيته الأصلية بالثلاث، ويقطع أواصره تماماً بالوطن الأم. حيث يتواصل معه إما عن طريق الزيارات المتكررة، أو عن طريق متابعة أخباره وما يحدث فيه. وغالباً ما تكون هذه الأخبار غير سارة، فالحديث موصول عن الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إضافة لهيمنة خطاب الإرهاب على الإعلام الغربي.

كل هذا يدعم لدى المهاجر صحة قناعاته بالإقدام على قرار الهجرة، والحصول على جنسية أخرى، يمكنه من خلالها أن يربي أولاده في بيئة جيدة ومتقدمة على كافة المستويات مقارنة بالأحوال السيئة في وطنه الأصلي. إضافة إلى ذلك، فإن أبناء الأقليات العربية من المهاجرين يستشعرون مدى الحريات التي يحصلون عليها في بلاد المهجر مقارنة بما عايشوه في أوطانهم الأصلية، لذلك تصبح الهجرة بالنسبة لهم طوق نجاة ليس فقط بالنسبة للجانب المادي، ولكن أيضا بالنسبة لشن حرب إعلامية ضد أوطانهم، والعمل من أجل ترويج أوضاع وأحوال ذويهم في أوطانهم الأصلية.

من هنا يصبح جواز السفر الأجنبي، الأمريكي بالأساس، جواز مرور لعوالم جديدة وحياة جديدة تؤمن لحامله الأمن والأمان، والإنخلاع بدرجة أو بأخرى من جواز السفر للوطن الأم، الذ ي لا يوفر لحامله أى قدر من الحماية. علينا أن نقارن هنا على سبيل المثال بين دخول العربي الذي يحمل جواز سفر أمريكي بسهولة ويسر إلى أى دولة عربية بدون الحصول على تأشيرة مسبقة، ومدى ما يلقاه من احترام وتقدير مقارنة بزميله العربي الذي لا يحمل أى جنسية أخرى. علينا أيضاً أن نقارن بين التمايزات المادية التي يمكن أن يحصل عليها العربي الذي يحمل جواز سفر أمريكي مقارنة بزميله العربي الذي قد يكون أكثر كفاءة منه في الكثير من الأحوال.

ورغم هذه الامتيازات التي يوفرها جواز السفر الأمريكي، فإن المهاجر العربي يعاني من نوع من الدونية تجاه الأمريكي الأصلي، فلا العربي عيونه زرقاء، ولا شعره أصفر، كما أنه لن يستطيع أن ينخلع تماماً من كل عاداته وتقاليده ومعتقداته. لذلك يعيش المهاجر حالة من الاضطراب بين حرصه على جواز السفر الأمريكي، والتشبث الهائل به، وبين الهاجس الذي يسيطر عليه يوماً بعد يوم بأنه قد فقد شيئاً ما. يتفاوت هذا الشيء من مهاجر لآخر؛ فالبعض يعلم تماماً أنه قد فقد أولاده الذين هجروه بعد أن بلغوا سن الرشد، والبعض يعلم أنه قد فقد الوطن والصحبة والعائلة، والبعض الآخر يشعر أنه قد فقد انسانيته، وأصبح مجرد ترس في ماكينة الحياة اليومية الأمريكية.

تخلق هذه الحالة آلياتها الخاصة بها، والتي تبدو واضحة للعيان في تعامل هؤلاء المهاجرين حين عودتهم للعالم العربي، إما من أجل الاستقرار الطويل المدى، أو من أجل العمل المؤقت، أو من أجل الزيارة العابرة، أو حتى من أجل الاستكشاف والتعرف على المكان بعد طول غياب وانقطاع. فمن ناحية نجدهم يتعاملون بأنفة مع أوطانهم، حيث لا تقع أعينهم إلا على كل ما هو سلبي وردئ في الحياة اليومية المعاشة، ومن ناحية أخرى يمارسون قدراً ما من الإستعلاء في تعاملاتهم مع أبناء جلدتهم الذين لم يهاجروا أو يحصلوا على أى جنسية أخرى.

تتكشف ازدواجية هؤلاء بشكل واضح وجلي عندما يتعاملون مع الأمريكيين بشكل خاص، سواء في بلاد المهجر أو في البلاد العربية. ففي بلاد المهجر نجد الخلافات العربية بين المهاجرين على أشدها، في الوقت نفسه الذي نجد فيه هؤلاء المهاجرون يتعاملون بمنتهى الأدب والاحترام مع الأمريكي الأبيض. تزداد المسألة وضوحا، وربما سوءاً، من خلال الأدوار التى يقوم بها الكثير من أبناء الأقليات العربية المهاجرة، من حيث الانجذاب النفسي نحو الأمريكي الأبيض، والعمل على تشويه صورة العربي المسلم بدرجة أو بأخرى من خلال هذه العلاقة ذات التوافق الديني مع الآخر الأمريكي.

تبدو المسألة النفسية في أشد أشكالها وضوحاً وفجاجة حينما يلتقي هؤلاء المهاجرون العرب من حملة الجنسية الأمريكية مع غيرهم من الأمريكيين الأصليين الذين يعملون في العالم العربي، حيث نجد درجة انجذابهم لهم أعلى مقارنة بما عليه الحال تجاه مواطنيهم العرب. ويلفت النظر هنا حالة الإنسحاق والدونية أمام الآخر الأمريكي والاستعلاء والإستقواء أمام الآخر العربي.

لقد شهد العالم العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عودة العديد من هؤلاء المهاجرين العرب من حملة الجنسية الأمريكية، من أجل البحث عن فرص عمل جديدة. فالكثير منهم قد عاني بدرجة أو بأخرى من تبعات أحداث سبتمبر، والممارسات التمييزية ضدهم في العمل، وضد أبنائهم في مراحل التعليم المختلفة. من هنا فقد اتخذ الكثيرون منهم قرار العودة مرة أخرى نحو العالم العربي، متذرعين هذه المرة بالعديد من الحجج والذرائع مثل الرغبة في تربية الأبناء في بيئة عربية مسلمة، أوالرغبة في الإستقرار النهائي بين أحضان العالم العربي، أوالرغبة في نقل الخبرات لأبناء العالم العربي... الخ من مثل هذه الحجج التي يتمني المرء أن يكونوا صادقين فيها، وأن لا يكون العالم العربي بالنسبة لهم مثل سوق الأسهم يضاربون عليه حينما تعن لهم أهواؤهم، وتشير لهم مصالحهم. أما هؤلاء الذين ارتضوا حالة الخنوع للآخر الأمريكي فلن يجنوا سوى الهشيم، حيث يتحولون إلى مسخ غير واضح المعالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى