السبت ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
كاتبان فرنسيان يتحاوران حول الموت والألم:

الموت بالنسبة اليَّ هو حين أكفُّ عن القراءة والكتابة

ترجمة: كوليت مرشليان

صدر للكاتبة شانتال توماس كتاب "الألم" عن دار "بايو" في باريس ومن المنتظر ان ينال هذا الكتاب اعجاب النقاد والقراء على حدّ سواء تماماً لما حصل في العام 2002 مع صدور كتابها و"داعات الملكة" الذي نال جائزة "فيمينا"، كذلك مع مؤلفاتها التي تناولت حياة الماركيز دوساد وكازانوفا والملكة ماري ـ انطوانيت. كما صدر لميشال شنايدر "ميتات متخيلة" عن دار "غراسيه" ومن أشهر كتبه التي وضعت اسمه في الصدارة "بودلير، السنوات العميقة" و"غلين غلود، بيانو سولو" و"جراح وذاكرة" وهو حاز جائزة "مديسيس" عام 2003.

في هذا الإطار ثمة قواسم مشتركة تجمع توماس وشنايدر في المؤلفين الجديدين. هذه القواسم قوامها "كلمات حول الألم والموت" تحدث عنها الاثنان الى مجلة "نوفيل اوبسرفاتور" في حديث طويل هو أقرب الى المحاورة الثنائية غير المباشرة تنقله الى العربية:

شنايدر يحاور توماس

 ميشال شنايدر: لماذا تقولين ان جميع المعاصرين يتنكرون للألم مع انهم لا يتعرفون عن التشكي والتذمر وهم يفضلون دور الضحية على بقية الأدوار؟
 شانتال توماس: التشكي والتذمر امران لا يتعارضان مع رفض الألم. ربما اننا نشتكي أكثر كلما عجزنا عن تحديد مصدر تعاستنا او إذا ما تكلفنا البحث عن سببها. نحن نتذمر من كل شيء أو من أي تفصيل: الطقس، السياسة، الرجال، النساء، جهاز الكمبيوتر، انانية الأولاد، عدم ثقافة الشباب، غزو الاغرباء لبلادنا، الخ... والتشكي او التذمر يتغذى من الاحساس بعدم توفر العدالة، الأمر الذي يبحث دائماً عن كبش محرقة. مع أن الأمر أسهل لو أننا نتهم المجموعات او الأنظمة أو المعطيات الطبيعية... بدلاً من توجيه الاتهام الى فرد او تقبل جرح معين أو الخسارة.
ثمة شخصية مرت في فيلم لجان رنوار عنوانه "أصول اللعبة" تتحدث عن صعوبة فكرة الألم وكم أن الألم يجعله يشعر بالملل، خاصة الألم المنفرد فهو يجعلك تشعر بالوحدة: "اعتقد ان الألم المشترك أو من ضمن مجموعة أخف وطأة من ناحية الملل (...)" ولكن قد نشتكي من ضمن مجموعة ثم نتألم ونموت وحيدين...
 شنايدر: هل هناك معنى للألم؟ وهل ان هذا المعنى اليوم لم يتغير من زمن العصور القديمة التي درستها في الجاثك الخاصة؟
 توماس: بعض المتصوفين مثل هنريتش سوزو (1293 ـ 1366) اوليدوين دوشايدام (1380 ـ 1433) هم من العصور التي اتخذت رموزاً دينية خاصة آلام وصلب المسيح في الديانة المسيحية كان لها وقعها. وبالعذاب، كانت النفوس التقية (وكانت نسبتها عالية) وكان المشاركون في آلام المسيح في تلك المرحلة يظنون ان العذاب في هذا "العالم الأرضي" سوف يخدمهم في مرحلة انتقالهم الى الجنة. في هذا الاطار، كان الأمر طبيعياً، ليس فقط أن نحرم أنفسنا من الملذات بل حين يكون الايمان قوياً في أن نتعذب وأن نكتشف وجوهاً جديدة للألم. اليوم وفي مجتمعاتنا، هذه الرغبة في الإحساس بالألم لم تعد موجودة. نحن اليوم نتحرك بإسم السعادة والراحة. الجنة، نريدها على الأرض وفوراً". وحين يصيبنا الألم فجأة ومن دون انذار، نشعر فجأة بالعبثية والعنف الرهيب الموجه ضدنا وغير المبرر. لذا، فإن الامكانية الوحيدة لإعطاء الألم معنى ومواجهته هي في تقبله كجزء لا يتجزأ من حياتنا، أو كمرحلة من مغامرتنا في الحياة.
 شنايدر: وهل يمكن ان نتألم لغياب الألم ولمجرد اننا نجعل الآخرين يتألمون؟
 توماس: نعم، يمكن أن نتألم بسبب غياب الألم في حياتنا وهي حالة صعبة للغاية حاولت أن أشرحها في كتابي. وفي أقصى الحالة يمكن ان تؤدي الى الموت، وهنا الألم أو العذاب النفسي كثير المرارة إذ لا سبيل لجلعه يظهر الى العلن. هنا نكون أمام حالة من الإفلاس الشخصي ونجد انفسنا نراقب هذه الحالة. الألم بسبب غياب الألم لا يؤدي الى ذرف الدموع ولا يعطي رغبة في الكلام، حتى انها حالة يصعد على الانسان الذي يعيشها ان يواجهها بنفسه. أما الآخر المتألم في الواقع فهو يصرخ، يتمزق ويحاول أن يعاود نيل رضى الآخرين وحبهم. اما اللامبالاة فهي نوع من المخدر. وهي ليست مخدراً بالكامل بل تترك لنا المجال لنلاحظ ان الآخر يعيش ويختبر ويحسس... هذا ما يحلله جيداً بنجامين كونستان في "ادولف". ادولف العاشق لا يتمكن من قطع علاقته بحبيبته مع انه يشعر انه متفوق عليها. وهنا نقص الحب لا يعطيه الشعور بالتفوق بل بأحساس قاتل. هو يتسمم بأحاسيس الذنب وبالقرف من نفسه: "هو عذاب رهيب حين نحب أحدهم وهو لا يحبنا، لكن العذاب الأكبر هو حين يحبنا أحدهم بشغف ونحن لم نعد نحس بأي شعور ناحيته". والطريقة الوحيدة للاخلاص من هذا العذاب هي في وضع حد لعلاقة من هذا النوع، أو، كما حصل في "أدولف" أن يعترف البطل انه تلذذ في جعل البطلة "اليونور" تتعذب وبأنه لا أحد يعرف كيف يبكي مثلها وباحساسها.
 شنايدر: في اللغة الفرنسية، ثمة فعل واحد للإسمين العذاب والألم. هل تمكنت من فصل هاتين التجربتين عن بعضهما؟
 توماس: ليس بالتمام. اعتقد ان الكلمتين تحملان نفس المعنى، لكن في بعد آخر، أفكر في الأمر..
 شنايدر: وهل تتكلمين مثل بعض المؤلفين عن عذاب أو ألم الكتابة؟
 توماس: كلا. حتى انني أشعر بالعكس. الكتابة تحررني من كل مشاعر التعاسة والحزن والقلق في حياتي. تماماً كما أن ممارسة الجنس أو السباحة تعطينا جسداً مغايراً عن الذي نختبره في العمل وفي سخافة وتعب الحياة اليومية. الكتابة تنقلني الى فضاء فكري ومتخيل آخر. ثمة إيقاع فرح وثمة حمى لغة ورغبة في اللعب تطلع مني حين اكتب بغض النظر عن الموضوع الذي أعالجه أو المشاكل التي يمكن ان تعترضني.

توماس تحاور شنايدر

 توماس: في "ميثات متخيلة" تسمي الموت بحسب المؤلفين الذين تأتي على ذكرهم، انه "ذاك العابر" أو "زائر المساء" أو "الشبح" أو "الفاسق"... وبالنسبة لك، في حوارك الداخلي، ما الاسم الذي تعطيه للموت؟
 شنايدر: في عنواني، كلمة "الموت" تشير الى الفعل والشخص. لست اخترع فقط المشهد الأخير انما ايضاً الشخصية التي تتكلم عن الموت.

ولأن الموت عصيّ على المخيلة اراني أدافع عن نفسي في فكرة وصف الميتات المتخيلة. نحن نصنع صوراً لنمحو بها فكرة "اللاصورة" وسط عتمة الأسود النهائي. وأسوأ الكوابيس هي دائماً تلك التي تقنع الموت. ما هو جنس الموت؟ حسب اللغات، وحسب الكتاب الموت مذكر أو مؤنث لأنه غير قابل للتقديم. أما بالنسبة لي، فأنا أشعر ان الموت هو أيضاً امحاء للجنس، غياب للجنس وهذا الغياب يعلن الموت. ليس للموت اسم، وليس له صورة. نلتقي به بالتحديد حين نكف عن كوننا انساناً وأيضاً نلتقي به حين ندخل، كما يقول ريلكه، في "غرفة اللاأحد". ولكن، تماماً كما نهاية الجنس مرتبطة بالموت، كذلك الموت يعني نهاية الكلمات. الموت، بالنسبة لي هو حين أكف عن القراءة والكتابة.
 توماس: ما هي صلتك بالخوف؟ بالضياع؟ كيف تعطي فكرة الخسارة أو خسارة النفس من عملك؟
 شنايدر: لا نكتب من دون الخوف. نحن نكتب ضده. ضد الخوف من الموت، بالتأكيد، انا لا أفلت من هذا الأمر. لكنني أحول هذا الخوف الى خوف من نوع آخر. أخاف أن أخسر وجهي، أخاف أن تجف لغتي أو أن أضيّع الكلمات. "ميتاتي المتخيلة" هي كتاب عن نهاية الكلمات أكثر منها كلمات عن النهاية. لا نكتب من دون ضياع. فلننظر الى بسكال يكتب. كل شيء أخافه، خصوصاً الكلمات: "الأفكار التي تهرب، أريد أن أكتبها، أكتب عوضاً عن ضياعها مني". الكتابة هي أن تضعي نفسك في المكان حيث تضيع الفكرة من الكلمات ثم تضيع من نفسها. هذا عوضاً عن الخسارة. ما أحبه في باسكال، هو خوفه وضياعه: "كل ما أعرفه هو أنني سوف أموت قريباً، أما الذي أجهله أكثر ما أجهل هي تلك الميتة بحد ذاتها التي أعجز عن تفاديها". الخوف والتأكد من أننا لن نفهم شيئاً. هل نعرف من سنكون حين سنموت؟ من الأجدى أن نعرف ذلك ونحن بعد على قيد الحياة. الخسارة؟ ربما كتبي لا تتحدث الا عن الغياب او الاختفاء. أنا أتعلق بكل ما يبتعد. عندي رغبة في الأشياء التي تقع في الظلمة. أما بالنسبة الى ضياعي أنا؟ ربما الكتابة هي أن نضيع الأنا لنلتقي بذاتنا. أحب كثيراً فكرة ان الكاتب هو ولد ضائع. سمعت وأنا صغير كلمات لم أفهم معناها: "لقد ضاع". وذلك لقول ان أحدهم سوف يموت. "ضاع من أجل من؟ بسبب من؟ لا أقوى على محو صورتي وأنا صغير أمام هذه الكلمات متجمداً مثل طفل اضاع غرضاً أو فلساً. كنت أتساءل أين يمكن أن يكون قد ضاع ذاك الذين يتحدثون عنه.
 توماس: كيف تتدخل الأحلام في كتابتك؟
 شنايدر: شخصياً لا اعطيها أي حيز. لا شيء يشعرني بالملل مثل المقاطع المكتوبة المحسوبة على الأحلام التي يعتقد المؤلفون انه عليهم مشاركتنا بها. نحن لا نكتب لنقول او نعترف بل لنختبئ. الأمر يختلف حين نتخيل احلاماً لشخصيات رواية، مثل موزيل او كافكا. لم أتردد في فعل هذا في "رواياتي التجريبية": "غلين غلود، شومان، بلزاك...
 توماس: في بداية "ميتات متخيلة" تطرح السؤال: ما معنى "الموت فناناً للجملة"؟ أو العيش كفنان للجملة، كيف هذا، حسب رأيك؟
 شنايدر: العيش كفنان، أو القول أنني كاتب، أمر لا أريده أو لا أقوى عليه. أحب كثيراً طريقة الايطاليين في تحديد مهنة بأن يقولوا أننا نلعب دوراً أو نضع قناعاً: "أنا ألعب دور الكاتب" إذا صح التعبير.
 توماس: كتبت في روايتك الجميلة "غلين غلود، بيانو سولو": "أن نكون في وحدتنا، هذه هي الصعوبة". كيف تعالج هذه الصعوبة (او هذه اللذة؟) وهل تشعر احياناً برغبة وتوق الى الانحساب النهائي أو الى الانقطاع؟
 شنايدر: نكتب منذ أحسسنا بالوحدة، بالتراجع، بالانسحاب او بالتقاعد. الوحدة التي أجلعها في مواجهة التوحد أو الانسحاب هي اخت بالانتخاب وننتظر مساعدتها او رحمتها ربما. غلين غلود استخدمتها وكأن طريقة جمالية. أما التوحد فهو يتربص بنا حين تهرب منا الكلمات او لا تعود تعطينا إشارات. انا مسحور بالكتاب الذين أصبحوا محبوسي اللسان في نهاياتهم مثل مونتانيي وبودلير وبروست وكافكا وفاليري لاربو، كل هؤلاء الذين، في نهاية حياتهم راحوا يبحثون في مسوداتهم وفي اوراق متروكة ونصف ممزقة في ادراجهم علهم يجدون فيها ما تحت الكلمات المدونة، تلك الغائبة ربما. أرى في ذلك صورة اومشهد الكتابة المتوحدة، أو المصير الغريب الذي يعيشه الكاتب حين يجد نفسه مجبراً على متابعة كتابة ما لم نعد نقوى على قوله أو ما لم نعد نعرف قوله. ماذا تعني الكتابة غير الاستنجاد بالريشة أو القلم لنجعل صوتنا مسموعاً قليلاً مع خوفنا ورغباتنا وافكارنا وعواطفنا؟ نتكلم الى الورقة لأننا فقدنا لساننا المقطوع أو لأن لا أحد يسمع؟
كل هذه البقايا من الأوراق، كل هذه الكتب تؤلف التفاصيل التي لا أكف عن مراقبتها في المشاهد التي أجعل فيها كتابي أو أدبائي يموتون. المادة، الوزن، وجلد الأشياء المكتوبة تظهر في السحر الأول. كل ما لا يكتب يختفي. أو حتى: كل ما ليس مكتوباً غير موجود.

انسحاب أكثر راديكالية؟ كلا، شكراً. أنا مثل كوليت. عام 1949، كتبت في آخر سطر من آخر كتاب لها: "الكتابة لا تقود الا الى الكتابة. ولكن متى نتوقف عن الكتابة؟ طننت في الماضي ان مهنة الكتابة هي مثل باقي المهن، ومجرد أن تضع اداة العمل من يدك حتى تصرخ فرحاً: "انتهت!" ونصفق ايدينا فتهطل منها حبات الرمال التي ظننا لوقت طويل انها ثمينة... ولكن في الصور التي تشكلها حبات الرمل التي تقع نقرأ كلمات مثل: "يتبع..." التوقف عن الكتابة هو تماماً مثل بداية الكتابة وهو أمر لا يحصل الا ساعة نواجه الموت، موتنا، ميتاتنا. بعض المقربين مني ظنوا اني اعاني من كآبة حادة أو من انهيار كبير فور انطلاقي في مشروع هذا الكتاب. انه العكس. لا شيء أشد حيوية من الكتابة حين يتكلمون عن الموت ويتكلمون وهم على وشك الموت. للموضوع تابع، إذاً.

ترجمة: كوليت مرشليان

المستقبل - الثلاثاء 26 كانون الأول 2006 - العدد s787 -


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى