الاثنين ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم لطفي زغلول

الشعر .. والشعر الآخر !!

قراءة في المشهدين الأصالي والحداثي

بداية أنوه إلى أن المقصود في هذه القراءة هما فئتان . الأولى أولئك الذين أغرقوا الشعر العربي في بحر من الطلاسم ، واعتقلوه في اقبية الغموض ودهاليزه ، وجردوه من تقنياته " بحوره واوزانه وقوافيه " ، فأصبح مطية سهلة الامتطاء ، بعدما كان ذلك الجواد العربي الأصيل . والثانية أولئك الذين اخرجوا الابداع الشعري من دائرة الصراع مع العدو ، بحجة إدخاله إلى آفاق التحديث والإنسانية والعالمية .

لا يمكن الخوض في الشعر العربي المعاصر بكل أبعاده واتجاهاته في منأى عن التيارات الثقافية والطروحات التغييرية لشتى مناحي الحياة العربية التي يتعرض لها العالم العربي ، وبخاصة تلك التي تهب عليه من خارج حدوده الجغرافية .

ويظل الشعر العربي بصورتيه التاريخية الأصالية المتوارثة ، وتلك التي طرأت عليها المتغيرات الحداثية بكل ألوان طيفها ، يظل الميدان الثقافي الأكثر ولوجا ، والساحة الابداعية الأشد احتداما وعراكا ونزالا ، كونه توأما للوجدان العربي ، ومستودعا لافرازات كافة اشكال استجابات هذا الوجدان لتحديات الوسط الطبيعي السياسي الاجتماعي العقائدي الذي يدور في مداره .
فالشعر العربي – والحال هذه – كان ولا يزال الى حد كبير روح الأمة ومحرك عواطفها ونبض وجودها علاوة على كونه ديوانها ، وسجل مساحة مرموقة من أحداث تاريخها .

وفي ظل هذه المعطيات والحقائق يصعب تصور الحياة العربية قديمها وحديثها ومعاصرها خارج اطار الشعر الذي منح الجسد العربي روحا خاصة به وطاقة احساس ذات قدرة عالية على التأثر والتأثير . واننا نظلم الشعر اذا لم نعترف له أنه رسم للابداع الثقافي العربي منظومة من الفرادة والتميز والخصوصية .

وحقيقة ان الشعر ليس مقصورا على الابداع الثقافي العربي ، وعلى الأرجح انه جزء لا يتجزأ من التكوين الابداعي الثقافي لكثير من الحضارات الانسانية ، الا أن الشعر العربي امتاز عليها جميعا بتلك المكانة الجليلة التي حظي بها بين قومه وأهليه ، فكان ديوانهم على مدى عصور طوال ، ناهيك عما تأسس عليه من تقنيات فريدة تمثلت في بحوره الكثيرة التي منحت شعراءه مساحات شاسعة من حرية الاختيار وتعددية التعبير ومواءمة الأغراض، والتناغم القائم على ارتحال في موج فريد من الموسيقى تتصاعد من كل بحر من بحوره . واذا ما حللت هذه البحور الى تفعيلاتها وأضيف اليها فضاء من القوافي ، تجلت أجواء ساحرة من الايقاع اللفظي لا تعزفه الا اوتار الشعر العربي الأصيل .

ان الحديث عن الشعر العربي ذو شجون . وهذه المقدمة التي استهللنا بها هذه العجالة عنه لا تفيه حقه بأي شكل من الأشكال ، وهو ذلك التاريخ الضاربة جذوره في أعماق الزمن، وذلك المحراب الذي توالت عليه أجيال الشعراء جيلا فجيلا . بل هو ذلك المهد المبارك الذي ولدوا جميعا في أحضانه ورضعوا من ثديه المدرار شهد الكلام وأحلاه .

هذا هو الشعر العربي تفوح منه رائحة الأصالة ، فهو ما كان في يوم من الأيام الا نسيج وحده . لم يتطفل على موائد الآخرين وهو الخير المعطاء لا ينضب له معين ، ولم يرتم على احضان الغرباء وهو المنتمى العريق ، ولم يخلع ثوبه وهو رداء فخار وكبرياء ، ولم يترجل عن جواده وهو الفارس الصنديد الأبي الوفي العصي الذوبان في بواتق هؤلاء الآخرين، ولم يخن لغته وهو العربي الفصيح البليغ يأبى لسانه الاعوجاج ، وهو المسافر في فضاءات الايمان ، والضاربة جذوره في الوطن ، والمتجلي في صبوات الهوى والحب ، والمتدفق في جوارح الانسان ، والمحلق في أفلاك الجمال ومداراته ، يعطي فيجزل العطاء ويحسنه ، ويبدع أيما ابداع .

أما "الشعر الآخر " فهو ينطلق من افرازات ما يسمى بمصطلح " الحداثة " الذي حملته الى عالمنا العربي رياح الغزو الثقافي . وبداية فليس ثمة اعتراض على الحداثة من حيث المبدأ ، ومن حيث كونها احدى خصائص الثقافة الابداعية التي لا تتقاطع مع الجمود او التقولب المتحجر او التقوقع أو الوقوف عند أطلال الماضي أو حتى صروحه .

والحياة العربية بكل مناحيها بعامة وثقافتها الابداعية بخاصة ومنها الشعر العربي كانت قد أصابها الصدأ ونخرها التآكل على مدى ثمانية قرون من الزمان أو يزيد . فكانت والحال هذه أحوج ما تكون الى التحديث والتعويض عن الفراغ السحيق الذي تردت في مهاويه .

وفي ظل غياب منظور ابداعي ثقافي وطني قومي يمكن الرجوع اليه والاجماع عليه، أخذت شريحة من " المثقفين العرب " المتأثرة بالفكر الغربي لسبب أو لآخر على عاتقها ملء الفراغ باستيراد قوالب ثقافية غربية في عملية تسويق أطلقت عليها مسمى " الحداثة " ، وأتبعتها لاحقا بمصطلح مسماه " ما بعد الحداثة " نصبتها ميزانا ومعيارا ومرجعية ، وجعلت منها جهاز قياس وتقويم وتقييم حديثا أخضعت له الابداعات العربية قديمها وحديثها ومعاصرها ومنها الشعر بطبيعة الحال . فكانت المحصلة انها وبجرة قلم حكمت على هذا التراث العربي " بالقدامة " والتحجر والجمود والانتماء الى عصور أصبحت من الماضي ، وانه بناء على كل ذلك لم يعد له مكانة .

والحديث هنا لا يحتمل الخوض في مصطلحي " الحداثة وما بعد الحداثة " الا بقدر ما يمكن ان يكون لهما علاقة مباشرة بموضوعنا الذي نحن بصدده . وعلى هذا فاننا نختصر الحديث ونقصره حول نقاط أهمها :
* ان لا اعتراض على الحداثة في حد ذاتها وانما الاعتراض على استيرادها وتسويقها دون تبصر .
* انه بالامكان ، بل من الضروري قبول هذه الحداثة شريطة ان تكون ذات هوية انتماء وطنية قومية ، وهذا لا يعني البتة الانغلاق على الذات والتراث .
* وهنا ينبغي التأكيد على ان الانفتاح على الثقافات الاخرى سمة من سمات المعاصرة العقلانية القائمة اساسا على المشاركة الانسانية ، لكنها يفترض بها الالتزام وأخذها بعين الاعتبار أسس التوازن الدقيق ، بحيث لا يسمح لهذا الوارد الثقافي أو الحداثي أن يجتاح جذور الأصالتين الوطنية والقومية أو أن يقتلعهما ، والا كان الأمر بمثابة زرع " مستوطنات ثقافية " هدفها تغيير الخارطة الثقافية الوطنية والقومية ، وطمس كل خطوطها وألوانها تحت ظلال غزو ثقافي قائم على الانفرادية ، وضارب عرض الحائط بالتعددية ، والمحصلة تكريس التبعية المبطنة بالدونية وحالات جلد الذات والخروج من الجلد .

في ضوء هذه العجالة عن الحداثة المستوردة تحت ظلال الغزو الثقافي نعود الى "الشعر الآخر " الذي هو رأس جسرها الهجومي صوب الأصالة المتمثلة بالشعر العربي . ان هذا " الشعر الآخر " لا يمت الى الشعر العربي شكلا ومضمونا ولغة وانتماء بصلة . وهو في الحقيقة وافد غريب الوجه واليد واللسان ، ليس له شخصية وطنية أو قومية ، لا يلائمه مناخ الوطن العربي الثقافي . وهو وان لوحظ عليه بعض النمو الأفقي ، الا أن نموه الرأسي ظل ضعيفا جدا كونه قائما على بنية تحتية من التناقضات تقود المتلقي الى الضياع في اللااتجاه .

وهو وايا كانت الصور التي يقدم بها ، والاجواء الذي يصطنعها " فرسانه ومسوقوه " باعطائه مسحة من التعالي والفوقية والهيبة " الكاريزما والبرستيج " ، فانه يظل يفتقر الى الاسس الأولية للشعر ، ولا يمنح الشعور بالراحة والتجلي ، عدا عن كونه أصلا لا يلتصق بالذاكرة ، ويعجز عن تكوين اتجاهات ايجابية ، عدا عن اتجاه واحد صوب النفور منه والرفض له .

ولكي يمنحه هؤلاء الحداثيون الشرعية في وجوده استصدروا له شهادة ميلاد تحمل اسم " قصيدة النثر " التي تقاطر عليها كل من هب ودب واستمرأ الغرق في حالات من التهويم والأسطرة والطلسمة والخرافة ، وتآمر على اغتيال كل المعاني التي عبق بها الشعر العربي الأصيل على مدى عصوره ومنذ ولادة أول قصيدة من رحم الابداع العربي ومن صلب انتمائها الى العروبة احساسا ولغة ، جسدا وروحا .

وبطبيعة الحال فان الحديث عن هذا " الشعر الآخر " لا يقف عند هذه الحدود دون التطرق الى " شعرائه " الذين وصفوا انفسهم بأنهم " شعراء الحداثة " . وبداية فان هذه الزوبعة الشعرية الهوجاء متهمة بأن " شعراءها " قد نأوا بأنفسهم وبأقلامهم عن كل ما يمت الى القضايا العربية الاساسية بصلة ، عدا عن كون معظم رصيد ما قالوه هو مجرد لغة خارجة من حدود منطق اللغة القائم اساسا على الفهم والافهام .

ان هؤلاء " الشعراء " ، ولدى الحديث عن المضمون لا تعنيهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والانسانية المتردية في أوطانهم . فهي لا تشكل لحمة " قصائدهم " التي التفت على افرازات التفاوت الطبقي في مجتمعاتهم الغارقة في الاستبداد ، والمفتقرة الى أبسط أشكال الحريات الأساسية والديموقراطية وحقوق الانسان .

وعلى ما يبدو فان هؤلاء " الشعراء" يخجلون ، أو انهم يرفضون أن يكون للصراع العربي الاسرائيلي وكل افرازاته النضالية مساحة فيما يكتبون . ان القدس – مثالا لا حصرا- بكل مقدساتها وتاريخها العقائدي لم تعد تشكل هما بالنسبة لهم ، ولا محركا لأقلامهم ، واذا ما صدف وتحدث أحدهم عنها عرضا ، فليس عن أقصاها أو صخرتها أو أي معلم من قداستها ، أو أي فصل من تاريخها وامجادها ، أو النضال الدامي عليها ، وانما عن أرصفتها ومشربيات جدران منازلها وأبوابها ودكاكينها .

ان هؤلاء " الشعراء الحداثيين " يفتقرون حتى الى رابطة فيما بينهم . فليس ثمة اطار حقيقي ، ولا تقنيات ينطلقون منها ، ولا مسارات يتجهون منها أو اليها أو حدود يقفون عندها ويظل السؤال الكبير يطرح نفسه بالحاح : لمن يكتب هؤلاء ؟ وأغلب الظن انهم يكتبون لأنفسهم ، ذلك انه ليس ثمة من جسور بينهم وبين المتلقين ، أو بصحيح العبارة ليس لهم أدنى قاعدة من هؤلاء المتلقين كونهم خرجوا على اللغة والشعر العربي أوزانه وبحوره وقوافيه وموسيقاه وجمالاته ومعانيه ، وأطفأوا في مخيلاتهم وحدهم ذلك السنا الوهاج في فضاءاته .

ويظل الشعر هو الشعر . وأما هذا " الشعر الآخر " فهو كالفقاقيع في الهواء سرعان ما تتلاشى وتتهاوى رذاذا تبتلعه رمال الأرض العربية .

قراءة في المشهدين الأصالي والحداثي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى