الأربعاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم صبري هاشم

نشوى قبل الربع الخالي

لا تعبثي بالريحِ لقد نام الصحبُ بأرديةِ الماء
لا تسدلي ستاراً على ليلِ الألمِ
فأنا مقيمٌ الليلة في هذا الحيّ
مقيمٌ وليلتي يُراقصُها ضوءان
ضوءُ أقمارٍ استنفرت جمالَها
وضوءُ وجهِك الشمس
مقيمٌ أنا ولا تسكرني خمورُ الأرض
لا يسكرني غير ثغرك يا نشوى
فتمرّدي لحظةً على النافذةِ المشحونةِ بالضوء المنسكب بدلال
تمرّدي على النجمةِ المسافرة في سماوات بعيدة
.. على صمتك المثير يا ضعفي الجميل
أنتِ صاحبي الوحيد في وحشةِ المسافة
أنتِ شهقة الروحِ
كعب آخيل
أنتِ الزمن المتضوع بأنفاسٍ سحرية
لا تلعبي بأنهارِ الدمعِ
وعيناك مهما أجهشت بريقاً أوهنه السفرُ
ستبقى بحاري الهادئة التي إليها أعود
ونشوى عَبَرَ لهاثُها قامتي
طوقت أنفاسُها مساحتي
وسكنت تدفقي
ما ألذّ لهاثك يا نشوى !
ما أجمل ذبول عينيك !
ما أطيب رائحتك !
دعي نسيمَك يصافح صفحةَ وجهي
قبل أنْ تُطلقي من صدرِك جمراً يُحفِّز الكلامَ
متى افترقنا ؟
تسألين
عندما أشرقت عيناك قبل الربع الخالي أسفاً
وعندما داعبك الرملُ في ظلامِ الصحراء وأثخن في مداعبتك
فهل أغلقتِ نوافذَ المدى بعد الوصول ؟
لا تسأليني عن الوصول وعمّن وصلَ قبلاً
بل سلي مدنَ الصقيعِ عن قطاراتٍ توقفت في هيام المحطات
أنا وصلتُُ قبلك
أنا أطلقتُ قافلةَ البدايةِ ،
أنا صرخةَ التيهِ
فبعد أنْ أشرقت عيناك أسفاً في ظلام الليل ،

عوَّلت الرياحُ وانشطرت بنا السُّبُلُ إلى أوردةٍ هائمةٍ في الآفاق ، فتمسكت بوريدٍ حذَفَني إلى بلدٍ لم تؤَسَسْ فيَّ ملامحُهُ . دخلتُهُ على عربةٍ من ورقٍ _ أسطوريٍّ ، أحثُّ خيولي على أنْ تطيرَ بأجنحةِ اللوثةِ وأنْ ترشقَ البوّاباتِ المسحورةَ بومضِها الأخّاذ .
دخلتُ بلدةً لا تهمس مُرحبةً بأُذنِ غريب ولا تنطق ورودُها أريجاً بوجهِ المدى . دخلتُ وكان الزلتسيون يجمعون رمادَ حروبِ فتنتهم .
تسألينني :
لمَنْ جئت ؟
جئتُ وليس لي قمر أُطْلِقُهُ كي يبحثَ في الديجور عن لوني الضائع .
ليس لي صوت أُرسِلهُ كي يهتفَ وسطَ هدير الطبول .
ليس لي عين أبعثها كي تسبحَ في فراغ الأشياء الأسود .
ليس لي غير صاحبٍ لم يتريثْ كثيراً .. لم يمكث طويلاً ، فاختار الفراقَ سبيلاً .
صاحبي الذي كان
في الوحدةِ سلوةً
في الخمرةِ نديماً
في الوحشةِ أنيساً
لكنه في الزحمة تمرّد وغادرني قبيل أنْ يتنهدَ الضحى في شارع دانتسغر المعتكف في أطراف مدينة زلتسا .
تسألينني
لم تفهمي !
غادرني ياسين .. قضى حزناً أو ربما ندماً .
كان صمته رهيباً .. ساخرة بسمته .. غاضبة نظرته .
من قبل لم يَقُلْ شيئاً محدداً ، لكنه ذاك
الصباح قال ـ بموتِهِ ـ كلَّ الأشياء التي ينبغي أنْ يقولَها سابقاً .. وسابقاً كان يحلُمُ بامرأةٍ تأتي من بين الأدغال . تقطع بحاراً سبعة .. سماوات _ سبع .. تضع أجنحةً من نار وتُسابقُ الريحَ .

ذاك الصباح تحطّمَ بَلُّورُ حُلُمِه وسيُدفنُ معه .

فأيّ وفاءٍ سأمنحُ هذا المُسجّى على سريرٍ غريب وأنا لستُ قليلَ الوفاء ؟

أيّ دمعٍ سأذرفُ وأنا لستُ قليلَ الدمع ؟

أيّ خبرٍ أُلقي به إلى أفواهِ الطيرِ ليصلَ الأهلَ ؟

باطلٌ هو الموتُ ولتنطفئ عينُ الباطلِ

مصابٌ هو الرحيلُ ولتُلعنْ لحظةُ الرحيلِ

حدّقتُ في وجه ياسين

رأيتُ في دهشتِه اختزالاً لسؤالِ العمرِ .

سبقت لسانيَ دمعةٌ طافت مآقي العين .. انكسر في صدري صوتي وإلى جوارِه تهالكتُ .

في تلك الأثناء يا نشوى

في تلك اللحظات القاتلة

الخارجة على الزمن

دخلت كائنات من الجنِّ .. أنتِ لم تري مثلَها .. حملتْ ياسين .. وضعتْه في سيارةٍ بلا لون وبه انطلقت .

التفتُّ إلى جميعِ المنافي علّني أرى منفىً يتجاوبُ مع حزني .

وجدتُ المنافي بالهمِّ لاهيةً .

فتشتُ في الجهاتِ جميعاً عن وجهٍ أعرِفُه ينجذبُ إلى حيرتي .

لم أجدْ سوى نَفْسي وظلّي المختبئ بقامتي .

لقد انفلقت يا نشوى رئتاي .

أجهشتُ في بكاء طويل وانطلقتُ ، في أَثَرِ السيارة التي بلا لون ، مُدوياً :

تمهل ياسين لا تعبرْ قنطرةً لستَ واثقاً من خشوعِها .

احذر ياسين هذا النهر بلا قرار .

توقفْ ياسين عند بكاء الريح .

وياسين يترك صوتي

ياسين يُغلق أُذنيه

ياسين يهملُني كما أهملني في الماضي وأطاع نسوةً عطوفاتٍ يصرخْنَ من عمقِ الضيمِ :

لا تأخذوا أيها الأولاد حصّةَ ياسين

فبعد حين يهاجمُهُ الجوعُ

وبعد حين تكفُّ اللقمةُ عن المجيء

ففي وسطِ هذا البستان من الحنان لا أحد يظنُّ ما سوف يحدث لياسين

أصرخ يا نشوى خلف موكب ياسين المحمول بصمتٍ مطلق :

هذه الكائناتُ لن ترحَمَك ياسين .

ثم تعثرتُ .. هويتُ

تسألينني :

هل شهدتَ طفولتَه ؟

أجل منذ أنْ تحسّر جارُنا الموغل في الشهوةِ

المنهمك في استدراجِ طيفِ أم ياسين .. متغزلاً:

ما أبهاك أمّ ياسين كأنك طير من الجنان !

لأم ياسين شفتان ناريتان

كَرَزَتان ناضجتان

لكن أم ياسين منشغلة بالكدحِ

أم ياسين لا تعبأ بالردح

أم ياسين تُكحِّلُ عيونَ الفوانيس من أجل إبقائها بوجه الليل ضاحكة .

أم ياسين تُطلقُ صوتاً يُداعبُ نسماتٍ خفيفةً هبّت

قبيل الغروب :

أُدخلْ يا ولدي لقد حلَّ المساء

أيها الصبيّ هل تدخل بيتاً تسافرُ في سمائه أسرابٌ ملونةٌ من طيورِ الألُفة ، وفراشات الشوق التي لا تفارق مجرى الريح ؟

أيها الصبيّ هذا البيت تحتلُّ زواياه الرياحينُ وخفقاتُ الضوءِ الباحثة عن جسدٍ شفيف كي تتعبدَ على سطحه .

إذن لا تقطعْ أشجارَ التوتِ المهاجرة

ولا شوقَ الفسيلة

هل تدخل ياسين بيتاً دائرياً كوطنٍ مدهشٍ ؟

بيتاً ورثتَه عن أبٍ لم يمتْ لكن الدهشةَ الخارجة من أُبّهةِ الخلقِ لجسدٍ لم ترَ البشرُ مثله

صَلَبَتْهُ ..
سطوة الدلالِ
صلبته
هل طبعتْ أُمُّك ياسين قبلةً على جبينِك ؟
هل كان في شفتيها خوفٌ كبير ؟
أكانتا خضلتين ؟
سيعودُ أبوك وستنجب تاريخاً صامتاً .
لا تلعبي بدارةِ القمر يا نشوى .
سيعود معطّرَ الجهات
مخلّعَ الأنفاسِ .. بلا أبعاد
بلا مسافات
بلا بدايات أو نهايات ..
ربما سيعود جذراً
نهبهُ الدودُ
تعالي نشوى نرو الليلَ
أنتِ موتي الجميل
فاقتحمي ليلتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى