الخميس ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم فرهاد ديو سالار

النظرة التفاؤلية عند نازك الملائكة

الموجز

مع أن الشاعرة كانت متشائمة شديدة التشاؤم في بداية حياتها الشعرية؛ لأنها كانت مفعمة بالاتجاهات الرومنسية و غلب عليها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضيق والألم ولا ترى غيرالأزمة والشقاء في الحياة و لكن تدريجيا غيرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحياة و بدأت تنظر إلى الحياة بمنظار جديد فيه مسحة من التفاؤل ليكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها وخفّ من حدّة تشاؤمها حيث أصبحت متفائلة بعد تجربتها الفكرية و كثرة مواردها الأدبية و بعد أن نضج عقلها و فكرها حول مسائل الحياة. و نرى هذا التغيير حتى في عنوان مطولتها من "مأساة الحياة" إلى" أغنية للإنسان"، في الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإيمان بالله و الاطمئنان إلى الحياة و جو مأساة الحياة تبدد شيئا فشيئا.

الكلمات الرئيسية: فلسفة الحياة، مأساة الحياة، التفاؤل، أغنية للإنسان،الاتجاهات الرومنسية.

التمهيد

آمنت الشاعرة أن الحياة كلها ألم و إبهام و تعقيد؛ و اعترفت إلى فناء الإنسان وأنه محكوم إلى الفناء والموت بشع جدا كما تقول:" لم تكن عندي كارثة أقسى من الموت و كان الموت يلوح لي مأساة الحياة الكبرى، ذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى صباي إلى سن متأخرة". وعندما تصف خطيئة الإنسان تعدّ الموت لعنة السماء؛ لكنها ترى فيه أمنا و راحة لأنه سبيل لراحة الإنسان من عناء الحياة و بالفعل تؤمن بما قال"شوبنهور": " إن أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت".

وبالفعل آمنت بقول" ويليام جيمز": " إن أكثر دواء تأثيرا لعلاج الآلام و الأحزان هو الإيمان و الاعتقاد". و كان التغييرعاما و شاملا حتى في عنوان مطولتها من مأساة الحياة إلى أغنية للإنسان، في الواقع قد زالت آراؤها المتشائمة و حلّ محلّها الإيمان بالله و الاطمئنان إلى الحياة و جو مأساة الحياة تبدد شيئا فشيئا

قررت نازك الملائكة أن تجد السعادة التي كانت قد بحثت عنها كثيرا في مختلف الأوساط فلم تجدها وانتهت رحلتها في هذا المجال بالخيبة، فقد عبرت عن تمسكها بالحياة في هذه الحياة الدنيا ؛ لأن حب الحياة أمرلا ينفصل عن الحياة نفسها وأن الإنسان يجد لذة كبرى في أن يحياها، مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها باليأس و العدم إلى قمة الرجاء والأمل و آمنت بأننا يجب أن نستسلم للقدر خاضعين؛ لأن العالم يواصل سيرته حتى بدوننا و آمنت بأن الإنسان مهما يفكر في آلامه و آلام أبنائه ومواطنيه والمجهولات والأسرار والألغاز؛ لكن يجب ألا يعكس اليأس والقنوط و الألم .....فقط، بل يجب أن يكون للتفاؤل مكانه كشأن أشخاص كثيرين الذين وقفوا أمام الكون و مجهولاته و أسراره و كانوا حيارى و لكنهم يرون جمال الحياة و خيرها و سرورها و أن الحياة تجري في نظام سرمدي و على الإنسان أن ينضم بكل حسناته و سيئاته حتى يبلغ ذروة المعرفة و قمتها. و مهما يتأمل في الآلام الإنسانية والألغاز والمجهولات لا ينصرف عن الحياة؛ لأنه لم يجيء الحياة ليشقى و يصب الهموم على نفسه؛ بل أتاها لتتنعم بها و بطيباتها و ملذاتها و مسراتها و يتمتع بها وأن يكون مسلكه تجاه الحياة إيجابيا و ينظر إليها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حيا و ينتهز فرصة الحياة قبل أن تفلت من يده.

و أخيرا آمنت الشاعرة بأن جميع ما في يد الإنسان عارية و وديعة و لايبقى لديه طول الحياة فيخرج من يده آجلا أو عاجلا، ثم شعرت بأن الدنيا قد تغيرت في نظرتها فعزمت أن تواجه الحياة بغير ما كانت تواجهها قبل ذلك، و آمنت بأن:

فلنلذ بالإيمان فهو ختام اليأس
و الدمع و الشقاء الآتي
لأنه:
كاسح الأعين الحزينة من
أدمعها الهامرات في الظلمات
فهاجرت إلى الله و عرفته:
عرفتك في ذهول تهجدي، و قرنفلي أكداس
عرفتك في اخضرار الآس
عرفتك عند الفلاح يبعثر في الثرى الأغراس
وتزهر في يديه الفأس
عرفتك عند طفل أسود العينين، و شيخ ذابل الخدين
عرفتك عند صوفيّ ثريّ القلب و الإحساس
و.......

و تُعلّم الإنسان طريق التسلط على الحزن حيث نراها في قصيدة " خمس أغان للألم" تثير فكرة صراع الإنسان في سبيل الغلبة والاستعلاء على آلامه بأية وسيلة يستطيعها، حيث تقول:

أ ليس في إمكاننا أن نغلب الألم؟
نرجئه إلى صباح قادم؟ أو أمسيه؟
ننقُلُه؟ نقنعه بلعبة؟ بأغنية؟
بقصة قديمة منسيّة النغم؟( نازك الملائكة، ديوان، ج2،ص57٤).

وهنا نذكر مختارات من أشعارها التي تسود عليها روح التفاؤل:

مع أنها– كما تقول نفسها – كان الباعث على نظم مطولتها الأولى التشاؤم و الخوف من الموت، لكنها بالفعل تؤمن به؛ لأنه ينجو بالحي الشقي من الخوف و سبب الخلاص من هذه الحياة الطافحة بالأسى و الظلام و تتفاءل به في قولها:

أ فليس الممات في ميعة العمر
إذن نعمة على الأحياء
حين ينجو الحي الشقي في
الخوف و يغني في داجيات الفناء
تاركا هذه الحياة و ما فيها
من الزيف والأسى و الظلام
بين فك الرياح و القدر العاتي
و نوح الشيوخ و الأيتام ( ديوان، نازك الملائكة، ج1، ص٤22).

و ترى في الموت بلسما لنجاة الأحياء من الأحزان و ترى فيه خلد الحياة:

سأرى فيك بلسما ينقذ الأحياء
مما يلقون من الأحزان
سأرى في الممات خلد حياتي
حين تعفو عني المُني و الجروح ( ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص229).

وهذا رأيها عن الموت:

إنه الموت ذلك الواهب العادل
ملقي الهمود في كل قبر
و مريق الفناء في كل خد
و ذراع و كل نحر و صدر (ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص387).

و تسلم على الموت:
فسلام أيها الموت سلام يا رفات ( ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص٦50)

و تحس بالراحة لأن:
استرحنا، كُشف اللغز و مات المبهم
وتلاشت حرقة الأحلام في لون العيون ( ديوان، نازك الملائكة، ج2، ص8٤3).

و تعتقد أن الدنيا تبتسم إذا:
هيا معي تبتسم الدنيا إذا أنت ابتسمت
ماذا يثير أساك ما دمنا نظل أنا و أنت؟
هيا معي فالليل مختلج الدجى حبا و شعرا
وعرائس الأحلام تفرش دربنا لونا وعطرا (ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص297).

و آمنت بأن يمكن لنا التغلب على الألم:
ومن عساه أن يكون ذلك الألم؟
طفل صغير ناعم مستفهم العيون
تسكته تهويدةُ و رقبة حنون
و إن تبسمنا و غنّينا له يَنَم ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص58٤).

و لنا يمكن أن ننساه:
سوف ننسى الألم سوف ننساه
إننا بالرضى قد سقيناه ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص1٤٦).

و ترى كل شيء جميلا؛ لأن:
تعال لنحلم، إن المساء الجميل دنا
و لين الدجى و خدود النجوم تنادي بنا ( ديوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤23).

و رغم أزمتها النفسية، ترى أن النفس مليئة بالخيال و فيها يوجد الصفاء؛إذن تحبها:

سأحب نفسي في ارتعاش ظلالها تحيا عصور
ملأى بألوان الخيال
و هناك في أحنائها ألقي الجمال
سأحب نفسي في صفاء ظلالها أجد الصفاء
و قد وصلناها معنا يحيى الجمال ( ديوان، نازك الملائكة، ج2، ص7٦3).

و تحب الحياة و ما فيهامن أجل:
سأحب الحياة من أجل ألحانك
يا بلبلي الحزين و أحيا
سأرى في النجوم من نور أحلامك
ظلا مخلدا أبديا
أحب الحياة بقلبي العميق
و أمزجها واقعها بالخيال
أحب الطبيعة حب الجنون
أحب النخيل أحب الجمال
فأعشق ذاتي ففي عمقها
خيال وجود عميق الظلال ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص181).

و تُعلّمنا كيف نواجه الحياة إذا جرحتنا:
و إن جرحتنا أكف الحياة
سكبنا الرضى في شفاه الجراح
و ذقنا حنين الجمال اللذيذ
و ملح مدامعنا الباردة ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص3٤٤).

و تفتخر بأنها:
هنا أنت
بنت حقول الجنوب و ألوانها
قبستِ العذوبة و الدفء من سحر غدرانها
و هذا الصفاء صفاء الحياة
هناك، همسك شدو الرعاهْ
لقطعانها ( ديوان، نازك الملائكة، ج2، ص٤37).

و تعتقد علينا أن ننسى الأمس:
و انس أمسا ملأ الكون خطوبا
آن للأفراح أن تمحو الكروبا
آن أن أحيي الأماني وأغنّي
و معي قلبي و أشعاري و لحني (ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص22٦).

عندما تنظر إلى الآفاق تبدو لها هكذا:
جزيرة الوحي من بعيد
تلوح كالمأمل البعيد
الرمل في شطها ندي
يرشف من دجلة البرود
و القمر الحلو في سماها
أمنية الشاعر الوحيد
لاحت على البعد ضفّتاها
أمنية العالم الجديد ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص585).

و تؤمن بالله؛ لأنه خالق هذا الكون و أن وراء هذه الحياة حياة بدون الحزن و الألم:

فوراء الحياة معنى عميق
ليس تفنيه سودة الأحزان
هو معنى الألوهة الخالد المرجوّ
خلق الوجود و الأزمان ( ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص237).

فوراء التراب قلب له في
رحمة الله مأمل ليس يفنى
مأمل الخافق الذي ضمه الله
إلى عدله فأغمض عينا ( ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص90٦)

و تحس باعتداد النفس و أن الشمس نارها لن تمزق نغمتها؛لأن:

جنون نارك لن يمزق نغمتي
مادام قيثاري المغرد في يدي
الليل ألحان الحياة و شعرها
و مطاف آلهة الجمال الملهم
كم سرت تحت ظلامه و نجومه
فنسيت أحزان الوجود المظلم
و على فمي نَغَم إلهي الصدى
تلقيه قافلة النجوم على فمي ( ديوان، نازك الملائكة، ج1،ص89٤).

و تتفاءل بالجمهورية العراقية في٤1 تموز سنة 1958م:

فرح الأيتام بضمة حب أبوية
فرحة عطشان ذاق الماء
فرحة تموز بلمس نسائم ثلجيهْ
فرح الظمآن بنبع ضياء
فرحتنا بالجمهوريّهْ..( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص5٤٤).

و تتفاءل بالوحدة العربية ؛لأنها تعود بالحياة و هي ضوء في ليلة ظلماء:

تعود مع الوحدة العربية
تعلن الوحدة الكبيرة ضوءا
وسلاما في ليلة ليلاء
أعلنتها أمنية العرب الكبرى
و حلم الأجداد و الآباء ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص521).

و تتفاءل كذلك بمستقبل العالم العربي حيث تقول:

يافا وحيفا في غد نلتقي
فنحن والضوء على الموعد
تبقى فلسطين لنا نغمة
قدسية على فم المنشد
و نسرنا الشامخ لم ينثني
أمام باب الزمن الموصد
غدا فلسطين لنا كلها
كأن إسرائيل لم توجد (ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص98٤).

و أخيرا طلع الفجر من وراء الظلام و قد قاربت حدود الرجاء:
طلع الفجر من وراء الدياجي
يا عيون الشهيد نامي قرّي ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص523).

و اليوم حان الفجر يا أمتي
فنحن قاربنا حدود الرجاء ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص517).

إذن رأينا كيف تفاءلت بالحياة و ما فيها، بعد أن آمنت بالله و حل محل آرائها المتشائمة نظرة التفاؤل و نظرت إلى الدنيا و ما فيها بمنظار التفاؤل. و بعد أن تفاءلت بالحياة تصف ليالي الصيف هكذا:

يا هدوءا مطمئنا
يا فضاء مرحا لدْن البريق
يشرب الأنجم كأسا من رحيق
يا رؤى تقطر لونا
أنت عطر و نعومهْ
و حفيف و انحدارات أشعهْ
و نجوم عكست في عمق ترعهْ
و أناشيد رخيمهْ
أنت ينبوع سكون
و حماسات و عطر و برودهْ
يا وساد الأنجم الجذلَى البعيدهْ
يا مصبا للحنين
أنت للأحلام مأوى
يا ملاذا باردا عذبَ الجوار
لخدود حَمَلت عبء النهار
و اقتل الآن نشوى ( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص٦52).

و تصف الربيع هكذا:
إنه الشيخ ربيعْ
ذلك الشيخ المَرِح
ذو الثياب الخُضر و الوجه البديع
و الجبين المنشرح
كلما طافت خطى نيسان بالدنيا أطلّا
من كُوى غرفته عذبا طروبا
هاتفا: أهلا و سهلا.......

و في وصفها الكوارث وا لفواجع لغتها سهلة سلسة دون أي غلاظة تحكي عن تشاؤمها الكثيف. نظمت الشاعرة خلال الفيضان الرهيب عام٤195م التي أغرقت بغداد:

لم يزل يتبعنا مبتسما بسمة حب
قدماه الرطبتان
تركت آثارها الحمراء في كل مكان
إنه قد عاث في شرق و غرب
في حنان
ذلك العاشق إنا قد عرفناه قديما
إنه لا ينتهي من زحفه نحو رُبانا
و له نحن بنيْنا، و له شِدْنا قُرانا
إنه زائرُنا المألوف ما زال كريما
كل عام ينزل الوادي و يأتي للقانا.( ديوان، نازك الملائكة، ج2،ص533).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى