الجمعة ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

أستاذ الجامعة بين استحكامات البنية واستحقاقات المهنة!!

ربما لا توجد مهنة ذات مواصفات وأبعاد خاصة "جداً" مثل مهنة أستاذ الجامعة؛ فهذه المهنة تختلف عن غيرها من المهن الأخرى، حتى ولو بدت على قدر كبير من الأهمية مثل مهنة الطب أو الهندسة على سبيل المثال. وربما يعود ذلك إلى أن مهنة التدريس الجامعي هى التي تمنح كافة المهن الأخرى صلاحية الممارسة والاعتراف المجتمعيين لصاحب المهنة. فلا يمكن لأي كان أن يمارس مهنته، أو يدعي خبرته في مجال ما، بدون الحصول على شهادة جامعية رسمية تقر بأحقيتة في ممارسة هذه المهنة.

والمؤسسة الرئيسة المجتمعية التي لها صلاحية منح صكوك الاعتراف بحق الممارسات المهنية هى الجامعة، على الأقل في عالمنا المعاصر. وتبدو أهمية أستاذ الجامعة، ليس بوصفه ناقل للمعارف فقط، ولكنه، وعبر نقل هذه المعارف المختلفة، يحتكر ويملأ المسافة القائمة بين الأجيال الجديدة وبين الانفتاح على المستقبل. فأستاذ الجامعة في النهاية وعبر ممارسته المهنية هو الذي يصنع المستقبل.

من هنا تبدو أهمية مهنة أستاذ الجامعة، الذي تمنحه المجتمعات العربية، وبشكلٍ خاص في جانبها الشعبي البسيط، قدراً كبيراً من الاحترام والتبجيل. ألا تتعلق مصائر الطلاب والطالبات بيد هذا الأستاذ، ألا تتوقف خبراتهم المستقبلية، وإمكانياتهم العلمية على معارف هذا الأستاذ وقدراته المختلفة على تعليم هؤلاء الطلاب والطالبات. كما أن أستاذ الجامعة من هذه الناحية، أهم من المدرس العادي، حتى لو كان مدرساً ثانويا. فبينما يتعامل الأول مع الناضجين من الطلاب والطالبات، يتعامل الثاني مع أجيال أصغر، مازالوا على طريق التعليم. وبينما ينتمي الأول للجامعات القومية في العالم العربي، بمبانيها الضخمة، وبعدد طلابها وطالباتها الهائل، يرتبط الثاني بمدرسة محدودة ومتواضعة الجانب.

إضافة إلى ذلك، فإن أستاذ الجامعة، وعبر تجاوزه لأسوار الجامعة التي ينتمي إليها، هو الصحفي، والمفكر، والمبدع، والطبيب الشهير، والمهندس البارع، والوزير المُهاب. هو من يصنع المجتمع، وليس الأجيال القادمة فقط. فأستاذ الجامعة لا يقف عند التدريس فقط، لكنه يصنع الفكر، ويصيغ المقولات، ويُدبج المقالات، ويؤلف الكتب، ويقود التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أنه هو الوزير، وهو الخبير، وهو المسؤول عن صياغة وتطبيق السياسات الرسمية للدولة التي ينتمي إليها. من هنا يمكن القول بأن أستاذ الجامعة يعلو فوق كافة الوظائف والمهن الأخرى، ويتسامي فوق الجوانب البيروقراطية السخيفة، التي ما أن يرتبط بها، حتى يصير موظفاً عاديا، يتقيد بكشوف الحضور والإنصراف مثله مثل أي موظف آخر.

في عالمنا العربي، يحتل الأستاذ الجامعي مكانة كبيرة، بحيث يصبح الدكتور ومرادفه حرف الدال مؤشراً على مكانته وانتماءاته الأكاديمية، كما يصبح الأ ستاذ الدكتور ومرادفه الحرفان ألف دال مؤشراً آخر على سمو المكانة الأكاديمية والمجتمعية. واللافت للنظر هنا أن كلمة دكتور تحظى بدرجة كبيرة من الأهمية من جانب المتعاملين مع أستاذ الجامعة مثل زملائه وأفراد عائلته وأصدقائه؛ فالسياق العربي المحب للألقاب والتمايزات المكانية يدعم من استخدام هذه الألقاب، ويعلي من شأن العاملين في حقل التدريس الجامعي.

هذه المكانة، رغم أحقية البعض من أساتذة الجامعة بها، تحظي بتقدير كبير بسبب من تخلف السياق المجتمعي العام، وارتفاع نسبة الأمية، وانبهار المواطن العادي بأستاذ الجامعة. فرجل الشارع البسيط لا يعرف شيئاً عن المستوى العلمي والأخلاقي الحقيقي لأستاذ الجامعة، وبسبب من وضعيته المعرفية البسيطة فهو يقدر هذا الأستاذ الذي يُعلِّم أولاده، ويبجله بدرجة مبالغ فيها، وتمنحه قدراً كبيراً من الاحترام الذي لا يستحقه في بعض الأحيان.

وواقع الأمر أن أستاذ الجامعة في عالمنا العربي مُنتج بشري يحمل سمات الواقع الذي يعيش فيه، حتى بعد حصوله على درجته العلمية من أرقي الجامعات العالمية. فهو إبنٌ بار بإمتياز للبنية المجتمعية العربية التي يتعامل معها ويتطور بين جوانبها، حيث لا يستطيع تجاوزها، والتحرر من قيودها.

لا تتحرر عقلية أستاذ الجامعة من الإستبداد المجتمعي العربي العام، ورغم تعليمه المتقدم، وانفتاحه على العالم الخارجي، واحتكاكه بخبرات مجتمعية أخرى، سواء أكانت أكاديمية أو إنسانية عامة، فإنه يكرس ويعيد بنية الإستبداد المجتمعي العام، سواء أتم ذلك بوعى أو بغير وعى. وما يحدث في الواقع الأكاديمي هو نقل حرفي للإستبداد المجتمعي إلى قاعات المحاضرات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الأستاذ، ولا معرفة يمكن أن تتجاوز معرفته.

ومن اللافت للنظر هنا أن الأستاذ الجامعي نادراً ما يقر أمام طلبته أنه غير مُلم بقضية ما، أو أنه لا يعرف الإجابة عن تساؤل ما؛ فهو يعرف كل شيئ، ويلم بكل الأمور، حيث لا يعرف كلمة "لا أعرف" على الإطلاق. وطالما أنه يعرف كل شيئ فمعنى ذلك، وهو الجانب الأكثر خطورة هنا، أنه لن يتعلم أي شيئ من طلبته، حيث تصبح المحاضرة، وطرق التدريس خطية الجانب، أنبوب ذو اتجاه واحد ينبع من فم الأستاذ إلى آذان الطلاب والطالبات.

والشاهد أن البنية الأكاديمية الجامعية في العالم العربي بنية استبدادية بإطلاق، حيث تزداد حدة هذا الإستبداد مع طلاب الدراسات العليا، الأكثر احتياجاً لإنهاء أبحاثهم والحصول على درجاتهم العلمية. وربما تكشف طبيعة الكثير من البحوث عن مدى التشويه الذي تسببه بنية الأكاديميا العربية، من حيث عدم التجديد والإبتكار، وقصائد المدح الموجهه للمشرفين والمناقشين، بغض النظر عن مدى استحقاقهم لهذا المدح. إن بنية الإستبداد بنية لا متناهية، فما يقوم به الأساتذة الآن، يكرره طلبتهم في المستقبل، وربما بشكلٍ أسوأ وأكثر إنحطاطاً. من هنا، فإن الجامعة هى المكان الأمثل الذي يحافظ فيه الكثير من أساتذة الجامعة على نقاء بنية الإستبداد واستمراريتها، بدون أن يحاولوا تجاوزها والعمل على تغييرها.

وعلينا ألا ننسى هنا أنه رغم خصوصية مهنة الأستاذ الجامعي، فهو في النهاية مرتبط ببنية اجتماعية وسياسية تحدد له حدود تصرفاته وحدود أفكاره وحدود مستواه الإقتصادي. والشاهد أن أستاذ الجامعة في الكثير من الدول العربية يعاني من أمرين على قدر كبير من الخطورة والتأثير على مسار حياته الأكاديمية وتوجهاته الأيديولوجية المجتمعية.

الأمر الأول يتعلق بإحساسه بمكانته المجتمعية وبألقابه التي تثير غيرة الحاسدين، وهو الأمر الذي يتعارض مع الإهمال الرسمي له، وعدم الإعتداد به وبإسهاماته، في ظل مجتمعات متخلفة، تعاني من نسب أمية عالية جداً، وفي ظل أنظمة سياسية استبدادية. وفي هذا السياق، ليس أمام أستاذ الجامعة لكى يحقق مآربه سوى أن يرتبط بالنظام السياسي للدولة، حتى يتم استقطابه ضمن جهازها، بما يؤمن له إحساساً ما بأهمية مكانته، وبحيثية وظيفته المجتمعية.

لقد أصبحت وظيفة الأستاذ الجامعي في الكثير من البلدان العربية، إن لم يكن كلها، تمثل الباب الملكي للتوحد مع النظم السياسية الحاكمة، والإستفادة من عطاياها بدرجة أو بأخرى. وفي بعض البلدان العربية، ينضم الكثير من أساتذة الجامعة للحزب السياسي الحاكم، حيث تصبح هذه العضوية عنوان الولاء، ومؤشر على التوحد مع الجهاز السياسي، وإمكانية الحصول على منصب ما. والمتتبع لمسيرة الكثير من المتنفذين في الدول العربية، يجد أنهم في الغالب كانوا أساتذة إحدى الجامعات، الحكومية غالباً، حيث بدءوا الإنخراط في الحزب الحاكم، وترقوا السلم درجة درجة، حتى كسبوا ولاء السلطة، وأصبحوا من أركان استمرار النظام ودعائمه.

الأمر الثاني، يتعلق بالمستوى الإقتصادي المتدهور الذي يواجهه الكثير من أساتذة الجامعة في العالم العربي. وفي ظل المكانة المجتمعية التي يحظى بها أستاذ الجامعة، مقابل هذا التدني الإقتصادي، تنشأ حالة من الإحباط واليأس لدى الكثير من أساتذة الجامعات في العالم العربي، وهو الأمر الذي يفرز الكثير من موبقات المهنة ومساوئها، ويحيل أستاذ الجامعة إلى مجرد تاجر ليس له من هم سوى تعظيم مكاسبه. وربما يفسر ذلك الأمر الأول؛ فالكثير من أساتذة الجامعات يلجئون للتعامل مع السلطة السياسية، ليس فقط من أجل الحصول على المناصب، ولكن أيضاً، وإرتباطاً معه في الوقت نفسه، من أجل تعظيم المكاسب المادية سواء العينية منها، أو المالية.

وفي كلا الأمرين يفتقد أستاذ الجامعة الكثير من استحقاقات مهنته المطلوبة والمرتبطة بها. فالذي يحدث في الواقع أنه يتحول إلى موظف بالمعنى الحرفي للكلمة، تهمه شواغل المهنة التافهة، بحيث يهمل كتابة بحوثة وصناعة أفكاره. كما أنه، وكلما يزداد توحده مع النظم السياسية الحاكمة، ينفصل عن القضايا الممجتمعية الحقيقية التي تهم القطاع الواسع من المواطنين، فيفقد ذلك الوهج الأيديولوجي الذي يمنحه زخم التفكير، وإمكانية الإبداع المعرفي الحقيقي. ورغم الكثير من القيود والإستحكامات البنيوية المفروضة على أستاذ الجامعة في العالم العربي، فإنه يمكن القول، أنه يمتلك خياراته بين أن يظل أستاذً جامعيا حقيقيا، وبين أن يتحول إلى موظف في كنف الدولة وتحت رعايتها الأبوية المتغطرسة والقامعة في الوقت نفسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى