الجمعة ٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم محمد السموري

البرجوازية العربية، وتحدّيات الإصلاح

قادت البرجوازية بلا شك ثورات الإصلاح الاقتصادي والسياسي في كثير من بلدان العالم ولا نسوق الثورة الفرنسية هنا مثلا رغم أنها غيرت على الأقل وجه أوربا، ذلك لسبب وحيد أوحد هو أننا عرب وحسب وليس لنا أمل في ركوب موجة الثورة مجددا بعد ادعائنا عددا من الثورات أو أننا فعلا بتنا نتوهم أن الانقلابات (العسكر حزبية) السوداء والبيضاء التي جرت في وطننا اسمها ثورات بالفعل، تلك التي أنجزت فعلا خطابا ثوريا ومصطلحات ثورية وبرامج إصلاحية متعددة ومتنوعة، وحشدت طوعا أو كرها جماهير العمال والفلاحين باعتبارها ( صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة) وزعمت أنها تناضل على ثلاث جبهات دفعة واحدة الأولى جبهة التحرير، فأنتجت خطابا سياسيا شعاراتوياً تعبويا هتفت به الجماهير العربية وصفقت له الطبقة الكادحة على أمل أنه المخرج الوحيد لها من دوامة البؤس.

والجبهة الثانية : البناء فكان بناء هذه الثورات نمطيا بحتا حيث جعلت من بناء الإنسان محورا لكل بناء ولا اعتراض على هذا البتة! لكنها خرجت بنتيجة تعتمد بالدرجة الأولى توظيف هذا الإنسان لخدمة مقولاتها الثورية، ولم تستطع تطويع الضمائر تطويعاً تاماً فسمحت تحت شعار الوحدة الوطنية الزائف، والمغشوش تفجير الثورة من الداخل بزنادقة الثورة فهم ثوريون شكلا وأعداء للثورة مضمونا، فلا هي ضمنت أمنها من دسهم الخفي، ولا هي حققت عملية فرز ثورجي حقيقي للحفاظ على أدوات الثورة الفاعلة داخلاً، وقد أرادت اتباع سياسة الاحتواء المزدوج بمعناها الشكلى الظاهر الذي تغشه التصريحات الجوفاء دون مجرد الاعتراف بخصوصية التركيبة الديمغرافية العربية وبناء الإنسان الوطني الذي يدين بولائه للوطن أولا ولأثنيته التي لا يمكن لها أن تشكل له خصوصية ولائية ولكنها تشكل خصوصية انتمائية، فكان ولاء هذه الأثنيات للنظام السياسي القائم بحكم كونه أمرا واقعا أشبه بولاء السجين لجلاده، وبذلك انزلق الهدف الثاني لصالح الهدف الأول وأندمج بل وتماهى معه وذاب فيه.

أما الهدف الثالث فكان الاقتصاد : وبدلا من رسم سياسة بناء وإصلاح اقتصادي شامل انحرفت أيضا باتجاه نمطية أكثر تقنعا من الأوليتين بأن جعلت من أصحاب النفوذ الحزبوي نخبة تسلمت عملية قيادة الاقتصاد الوطني، فأنشأ هؤلاء طبقة طفيلية تجارية ومرابية جديدة احتكرت العملية الاقتصادية وشرنقتها وغلفتها بشعارات السياسة الثورية، ولم يجعلها نهمها تفكر بأبعد من تهريب أموال البلد إلى بنوك عالمية لضمان مستقبلها في مرحلة فضح مزاعمها الثورية أمام أول امتحان لها من الداخل أو الخارج لتفر بهذه الأموال وتنسى الشعارات أو ترمي بها عرض الحائط، ومن ثم تدير ظهرها للبلد إن لم تسم نفسها معارضة سياسية تبيع الغالي بالنفيس من أجل موطىء قدم لها لدى القوى الخارجية التي تحلم باستعمار البلد والبحث في الظلام عن أية إبرة تغرسها في خاصرته، فلا تتوانى عن توظيف مثل هذه المعارضات البائسة.

إن البرجوازية العربية اليوم هي سلطوية أبوية احتكارية نافذة، تستفيد من الفساد الإداري كمظهر من مظاهر تسويغ وجودها ورهان فاعليتها لذا فهي تنمّي الفساد وتشجعه وتمارسه لأنه مصدر ثرائها، وفي المقابل هي غير متوانية عن خدمة البلد بتأمين حاجات ومستلزمات الرفاهيه وكماليات الحياة لكونها أسرع وأكثر ربحاً، ولا يمكن لها توظيف رأس المال الذي حازت عليه بمشاريع التنمية كالمصانع والاستثمارات بعيدة ومتوسطة المدى لعدم اطمئنانها للمستقبل من جهة، وعدم السرعة في المردودية من جهة ثانية، وتوجسها الدائم من ثورة مفاجئة شبيهة بالثورة التي زعمتها هي ، فتمنُّ على الشعب وجماهير الثورة المزعومة بمناسبة وغير مناسبة بفضلها عليها وتستثير لديها الحماس لها لحمايتها والتصفيق لها والولاء لزعامتها.

لكن في غمرة الانتخابات -وهنا يحطنا الجمّال- في ركب الديمقراطية، حيث ابتكرت لها مقولات خاصة وخطاب يتوائم ونمط استراتيجيتها في التعليب النفسي والتقولب الحزبوي واستذكار المنجزات واستجرار الشعارات بخطاب ظاهره يثلج صدور الناخبين دون أن يعلم أحد منهم أنه مغلوب قيد أنملة لأنه خلق يصفق، وسيموت وهو يصفق، وإذا كانت الديمقراطية-حسب الدكتور علي عقلة عرسان - تعني (أن يمارس الإنسان حقوقه ويؤدي واجباته دون أي خوف) فإن البرجوازية السلطوية العربية جعلت حول هذا الفهم إطارا يمنعه من التداول النظري، بوسائل ضامنة فالحزب الواحد والقمع والتسكيت والتمويه والتخوين، كأدوات ووسائل للتعليب الجماهيري فضلا عن تأمين الطوبرة اللازمة لتسويق المقولات وبث الوعودات وتبني سياسات ظاهرها إصلاحي وباطنها استثمار هذه الترهات كوسائل لإطالة أمد وجودها في رأس الهرم السلطوي أطول مدة ممكنة، يكشف عن هذا تخبطها في المشاريع الإصلاحية ففي كل مناسبة تطرح برنامجا مغايرا لبرنامجها الإصلاحي السابق وربما عادت لتداول البرامج التي كانت تتنكر لها، لكن مهما كانت هذه البرامج الإصلاحية فهي مقصورة على جوانب محددة لا تطال السياسة بأي شكل.
وبرأينا إن كوميديا الإصلاح هذه ستظل تراوح في دوامة المشاريع والمشاريع المضادة طالما كانت السياسة لا تمثل محوره الأساس، والإصلاح السياسي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة في كثير أو كل أوجه ومفاصل العملية الإصلاحية، فالتربية لها علاقة أولى ومهمة بل ومرتبطة بهذا الجانب ارتباطا متأصلا فلا يمكن أن يكون هناك ثمة إصلاح تربوي بمعزل عن الإصلاح السياسي ولكي لا نضيع أنفسنا بدوامة ترديد عبارات التأكيد للإصلاح السياسي دون الولوج في مشكلاته الأساسية ومعايير نجاحه أو إخفاقه، واستحقاقاته فإن كف يد الفئات السلطوية عن قيادة العملية الاقتصادية والتجرؤ على إدانتها بالفساد ومواجهتها وتعريتها بفك ارتباطها السياسي واسقاط الأقنعة التي تتستر خلفها وذلك باعتماد برامج الإصلاح التي من شأنها أن تطال أي نفوذ مهما عظم شأنه ولا تستثني من دائرة الشبهة جهة ما فتطال القاصي والداني، ولان هذه البرجوازية ليست سياسية وحسب بل وعسكرية أيضا فلا يمكن استثناء المؤسسة العسكرية من أن تطالها يد الإصلاح والمحاسبة فهي مصدر الفساد العربي كونها مؤسسة مبنية على أسس فاسدة فهي لا زالت أداة قمع وتنكيل بيد البرجوازية السياسية وتأتمر بأمرتها وهي شكلت في كل الأوقات مصدر تغذيتها بالجنرالات النافذة المتقاعدة .

كما شكلت عامل حماية قوي لها بحكم قرابة النسب التي ترتبط بها فما من تاجر أو سياسي إلا وكانت له جذور في المؤسسة العسكرية وعلى مبدأ تبادل المصالح اعتمدت تبادل الحماية بين المؤسستين (ونحن هنا لا نفرق بين العاملين الاقتصادي والسياسي).

إن ثلاثية الاقتصاد والسياسة والثقافة - التي عبر عنها أحمد أمين - يمكن صياغة مظاهرها راهنا حسب المعمول به عربيا بانها ثلاثية اشتباك بدلا من ثلاثية تعاضد يتم فيها توظيف الاقتصاد والثقافة لصالح السياسة، فكان نمط النظام السياسي العربي حصيلة طبيعية لهذا التوظيف، وهو نمط عجيب فلا هو دكتاتورية واضحة ولا هو ديمقراطية معروفة لأنه خليط غير متجانس من أنظمة متفرقة يتحكم فيه الإنفعال السياسي كثيراً، وهو ابن اللحظة الراهنة دوماً، دليلنا على هذا الزعم تقلب السياسة العربية تبعا لمزاجية السلطة وتقلبات الأهواء أو التأثر المباشر بالأحداث وهي أشبه بالمريض الذي يتعاطى المهدئات فأدمن عليها فلا هي تشفيه ولا هو يجد بدا منها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى