الجمعة ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم لطفي زغلول

القصيدة العربية

من نعيم الأصالة .. إلى بؤس الحداثة

بداية اود ان انوه الى ان هذه المقالة ليست دراسة علمية اكاديمية بقدر ما هي انطباعات وملاحظات ، تجمعت لدي حول ما يخص موجة شعر الطلاسم المنسوب الى الفصيلة الحداثية ومن يقف وراءه ويحركه في اطار انسلاخ عن واقع ثقافي اصيل ، لا يهدف الى التطوير والتحديث بقدر ما يهدف الى التدمير .

لمن يكتب الشعراء ؟ هل يكتبون لأنفسهم ؟ ، ام لخاصة من ذوي الفكر والثقافة ؟ ، ام لشعراء امثالهم ؟ ، ام للناس الآخرين ، وهم المساحة الكبرى من المتلقين ؟ . انه سؤال متعدد الاطراف يبدو محيرا ومعقدا ، ذلك ان هناك مذاهب في الاجابة عنه ، كون الشعراء وبالذات في العصر الحاضر قد غيروا المعادلة ، فأصبح كل يغني على ليلاه ، ولكل مآرب وغايات ومسارات ، ولغة يحاول من خلالها الوصول الى شط أمان في غمرة معترك يخوضه مع الكلمة والرؤيا .

وفي حقيقة الأمر ، لا يهمنا لمن يكتب الشعراء ، ذلك انهم في كل مجموعة شعرية او ربما قصيدة ييممون صوب اتجاه ما لغاية ما . لكن ما يهمنا هنا ماذا يكتبون؟ ، ماذا يحرك اقلامهم ؟ ، وفي أي الفضاءات تسبح رؤاهم ؟ .

قديما ، وحتى عهد قريب كان الشعراء يكتبون وهم احرار ، لم يخضعوا لأي شكل من اشكال القيود التي فرضها شعراء اليوم على اقلامهم ، او انها فرضت عليهم ، فيمموا صوب كل الإتجاهات . كان ثمة قيد واحد يشد الشعراء اليه ، هو الانتماء للفكرة ، للعقيدة ، لاسلوب الحياة التي درجوا عليه ، للناس الذين احبوهم ، للجماعة الانسانية التي خرجوا من بين ظهرانيها ، للثقافة القومية التي تجذرت في ذاكرتهم .
ويومها لم تكن هناك مدارس ولا اتجاهات نقدية او ادبية استوردها البعض بغية زج حرية الابداع واصالته خلف قضبان هذه الحداثة . ويومها لم يستفحل الترف الأدبي بعد حتى يفرز اولياء امور يطفون على سطح الابداع حراسا لنقائه واستمرارية حداثته ، محللين محرمين ، مانحين تأشيرات مرور لابداع دون آخر ، ومبشرين بعهد تنحر فيه رؤاه القومية في مذبح العولمة .

ويوم بشر اول مبشر بالحداثة الشعرية ، فهمناها وفهمها كل غيور على ثقافة الوطن على انها تجاوز لراهن الجمود وعدم وقوف وتحجر عند اطلال الماضي والنسج على منواله . ونظرنا اليها على انها انطلاقة الى فضاءات ومدارات نستمطر منها رؤى جديدة لواقع جديد حفاظا على ديمومة العطاء واستمراريته وتجدده ، وانها بادىء كل ذي بدء وليدة منظومة التاريخ والتراث والرؤية العربية ، تنطلق منها وتعود اليها .

الا ان هذا المنظور القومي للحداثة اغتيل في مهده العربي على ايدي دعاة حداثة اخرى تسري في شرايينها دماء العولمة الثقافية القائمة على "الابدال والاحلال" ، ابدال الثقافة القومية موروثها ومعاصرها ، واحلال ثقافة السيد الغربي الذي لا يهادن ولا يتعايش الا مع ثقافته هو، وتشكل الثقافات الاخرى مصدر خطر وتهديد له واعاقة لاستكمال مشروعه العولمي الشامل .

وفي عالم الكتابة الشعرية ، زحف اعصار الحداثة القادم من اصقاع الشمال الباردة جنوبا الى اجواء القصيدة العربية الحارة ، فجمد بحورها ، واخرس موسيقاها ، واعتقل قوافيها وجردها من حليها ، وعراها من تفردها وتميزها وخصوصيتها ، وقدمها الى محاكمة سريعة بتهمة الخطابية المباشرة ، والارتجالية الانفعالية ، والسطحية الفكرية ، والتخلف وعدم مسايرة روح العصر . وتمخض "جبل الحداثة " ليلد "فأر قصيدة النثر" .

والى عهد قريب كانت وما زالت :القصيدة الحرة" التي على ما يبدو سوف تطيح بها ما يسمى قصيدة النثر ، لتنتهي بذلك كل علاقة وصلة دامت تاريخا طويلا بالقصيدة العربية الاصيلة شكلا ومضمونا . اما الشكل فلا بحور ولا قواف ولا اوزان ولا تفعيلات . اما المضمون فهو الآخر اعتمد على لغة ظاهرها عربى ، الا ان باطنها غير ذلك ، ذلك ان العربية هي لغة الفصاحة والبلاغة .

وهذه اللغة مبهمة مخادعة ماكرة متعالية ، لا تحترم عقل المتلقي ، وتلتف على ادراكاته وتشعره انه ناقص ، وان طرحها هو فوق مداركه . وفي الحقيقة ان نعتها بلغة ما هو الا من قبيل المجاز ، وفي الواقع هي لغات لا حصر لها ولا عد ، وكل شاعر من شعراء هذه الموجة له لغة منها ، لا يمكن لاي لغوي في كثير من الاحيان ان يفهم تراكيبها ، ولا العلاقة بين مفرداتها ومدلولات هذه المفردات ، او الصلات ما بين سطر واخر .

ثمة اضاءة واحدة في خضم هذا الفضاء الغارق في الحلكة يخص ما يمكن ان تسقطه هذه اللغة ، فترسم لنا عواطف مضطربة منهكة مهترئة تتقيأ اضغاث رؤى اعياها العبث فتهشمت قبل الوصول . ان قصيدة الحداثة بشكليها المذكورين آنفا هي بمثابة رحلة عودة الى المجهول والتهويم ، حقائبها محملة بالطلاسم والاساطير ، في عصر قضى فيه العلم والمعرفة والتقنية على هذه المنظومة الخرافية . ان ما يسمى قصيدة الحداثة ليست عربية الجذور والمنتمى والتاريخ ، تسللت في عتمة ليل الثقافة العربية الحالك لكي تغتال تاريخا وتراثا وذاكرة .

لقد استبيحت القصيدة ، وابيحت لكل من يدعي فروسية الشعر ، فوجدها مطية سهلة ، فصال وجال وملأ الميدان غبارا يظنه الجاهل سحابا ، وما هو الا سراب . ولكي ننتقل من المجرد الى المحسوس ، نتساءل هل حقا ان شعراء هذه الموجة الحداثية يكتبون ليجعلوا القارىء المتلقي يحلق معهم الى مزيد من التفكير ، او ان يفكر بالمعاني التي طرحوها ورسموها له على خارطة قصيدتهم ؟ وهل هم حريصون على ان يأتي هذا المتلقي بصور جديدة تضاف الى صورهم ؟ وهل هم حقا يعملون بهدف تطوير ثقافة التلقي ، واعادة برجتها على اسس عصرية ؟ .

وما زلنا نتساءل هل لدى هؤلاء الشعراء قواعد ضابطة ومعايير تحدد مساراتهم اللغوية واتجاهاتها ؟ اننا نشك في ذلك ، فحقيقة الامر كما يبدو انهم يكتبون لكي يقال انهم معاصرون مجددون ينطلقون من مدارس مجددة يرودها نقاد حداثيون عالميون في تطلعاتهم ورؤاهم . والحقيقة انهم سادرون في كتابتهم ، سواء فهم المتلقون ام لم يفهموا هذه الشعوذة اللغوية ، اذ يبدو ان الهدف هنا ليس هو الفهم بقدر ما هو الغموض ، وليس هو التجلي بقدر ما هي الحيرة والارباك ، وليست في النهاية هي اوراق شاعر ، بقدر ما هي رقى ساحر . اغلب الظن انه لا هذا ولا ذاك هو الهدف ما دام هذا المتلقي لا يفهم شيئا من هذه اللغة ، وقبله لم يفهم اللغويون الحقيقيون هذه اللغة .

في غمرة هذه المتاهة تظل القصيدة العربية الأصيلة بكل اشكالها العمودية وقصيدة التفعيلة رمزا للأصالة ومنارا للانتماء وجهاز مناعة فاعلا وحصينا في وجه تحديات عمليات التذويب والتغريب. ويظل الشعر بخير ما دام هناك شاعر واحد يرفض هذه الحداثة الضالة المضلة الدخيلة على تاريخنا وعلينا .

واما المتلقي فله كل الاحترام والتقدير ، فهو في النهاية مصب الابداع وينتهي عنده . وعندما يكتب المبدعون والشعراء الحقيقيون فانهم يفكرون به حاملين له الوطن والحب والجمال وكل المشاعر الانسانية على اجنحة قصائدهم لتدخل بسلام الى كل جارحة من جوارحه ، فتسافر به الى فضاءات تلون مشاعره وتنقلها من حالة الجمود الى حالة الحركة ، وتحدث بها ايقاظا من غفوة ، لا صدمة ولا تهويما ولا سفرا الى مجهول وضياع .

من نعيم الأصالة .. إلى بؤس الحداثة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى