السبت ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

النافذة و ذكرياتها البعيدة

كان رجلا يندر مثيله في الرجال..!

بما اوتيه من قوة ووسامة ، كانتا مضربا للا مثال في حيه الذي هو سيده دون منازع. كل من عاشره يشهد له بتاريخ طويل حافل ، لا يعرف الوهن او التراجع ، فرأيه نافذ و كلمته مطاعة و كل من حوله خاضع لسلطانه دون مراء بيد ان من ينظر اليه الساعة في رقدته و هموده لايكاد يميز فيه شيئا يذكر من علامات الماضي! و كأن سمات الرجولة و الفحولة ، قد تلاشت في وجهه خلف بساط المرض و الوهن الذي امتد اليه عنوة، فهد حيله و قهره قهرا..أين هو الآن من شبابه أين؟! انه الان طريح فراشه و ليس الفراش بمكانه ! سل عنه ازقة الحواري و دهاليز الليل..فأي مصير هذا بل اي مهزلة؟! سنوات مديدة من الفتوة و العتي يشهد بها و يقر اصحاب الحياة كما اصحاب القبور..تنتهي كلها الى هذا المصير المفجع المظلم؟..اجل و ما حاجته الى النور بعد اليوم! اليبصر انعكاساته على جدران حجرته و سقفها المحجر؟ عيناه الان لا تلتقيان سوى باعمدة السرير و هيكل الخزانة الضخم و المصباح المتدلي من السقف، ليبقى على الدوام شاهدا على مأساته و وهدته التي اعدها له قدره بتدبر و احكام مستهينا بماضيه الطويل، و بالاسطورة التي كان !

الى قوته و بأسه فلم يكن ليخل من بعض الشمائل المحمودة و المكارم التي اشتهر بها في حارته، كان يجتنب الظلم و يسعى لاغاثة المظلوم ان ظُلم. و بذلك كسب من الناس و قارا وودا، حتى صار يقسم بحياته كل ذي قسم.

اما عن مجالس الانس ، فحدث و لا حرج! كان اذا حل موعد السهرة و التم المتسامرون من مقربيه و خاصته ،يتصدر مجلسه بانبساط ظاهر ، تعلو شفتيه ابتسامة عريضة تزف ساعة الانس اذ اقبلت بعد يوم طويل.فيرحب جلسائه بانقلابه هذا غاية الترحيب ،فتمتد يده الى عوده وتبدا انامله بعزف يجيده كل اجادة. وتنطلق الايدي بالتصفيق ، و تردد الشفاه مقاطع من اغنيات طروبة..فتنصهر مكنونات الحجرة الضيقة و تموج امواجها في بحر هائل من السُكر و النشوة..

عندما تخطر له تلك الايام الخوالي يستغرقه الشرود ،و يحلو له التأوه فيطلق اهة اذ يأنس غياب زوجه و فروغ الحجرة الا منه و من خطراته و لواعجه . و يتنهد طويلا.. ان كانت كل تلك الايام بعنفوانها و جمالها و عزها قد انطوت وولت الى الابد..فما الذي تبقى لك يا ترى؟ لا شك ان ما هو امامك شيء لا يذكر، و اعوامك السبعين انقضت كلمحة خاطفة ! ليس عليك الا أن تظل راقدا في هدوء و تسليم،تنتطر نهايتك التي تابى ان تحين. فحتى الموت راغب عنك ، حتى الموت موليك ظهره في اعراض . بعد ان كان اسياد الدهر يحنون الهام في حضرتك ! و لكن اين هم الان ؟ لقد رحلوا في عجالة صامتة ، ركبوا تيار السنين السائر بك الى الوراء ..فتلاشت ملامحهم المعروفة لديك معرفة رسمك..و في الصميم منك همساتهم تتنهد فتنكأ فيك الجراح الخامدة..

تلوح منه التفاتة نحو الخوان بجانب سريره فيطالعه ابريق الماء الزجاجي تسبح في بطنه شعاعات من شمس المغيب المائلة . و يلمح الى جانب الابريق هرما صغيرا من علب ادويته فيذكر في غم امراضه و علله المتنامية في جسده نماء النار في الهشيم ! و توصيات الطبيب التي حرمته كل انيس، ان كان للأنس من وجود باق !

سمع وقع خطوات زوجه ، فجر نفسا عميقا محاولا اخفاء ملامح الحزن العميق المخيم على صفحة وجهه..و ابصرها تدخل حاملة صينية العشاء،او سلطانية اللبن التي اوصى بها الطبيب دون سواها..وضعت نعمت الصينية على الخوان و مالت نحو النافذة فشرعت ضلفتيها..و دفق الى الغرفة فيض من الضوء الشحيح الباقي في السماء..قالت و قد تزامن قولها مع صوت بوق ترامى من النافذة لاحد الدراجات العابرة :
 كيف حال سيدي الان؟
 بخير .الشكر له سبحانه و بحمده!
اقتعدت جانبا من السرير بعد ان تناولت الصينية من على الخوان فأومأ بيده بنفور
 لا بد ان تأكل! لقد اكد الدكتور على ضرورة العشاء لصحتك.
 أي عشاء؟ تقصدين سلطانية اللبن!
 هذا ما يسمح به و ضعك الان،و عندما تشفى باذن الله فلك ان تأكل ما طاب لك.
تناول سلطانية اللبن من يدها و راح يشرب مستكرها،بعد برهة طويلة فرغ فناولته حبات الدواء تباعا حتى اذا فرغ من تناولها قال بتبرم ساخط و هو يعيد لها الابريق:
 لعن الله المرض!ما اتناوله من ادوية يفوق طعامي!

شعرت باشفاق جم و هي ترنو الى ترديه و هزاله.و هذا الشحوب في وجهه يخيفها أيما اخافة.ان كان به اسف على نفسه فحزنها عليه اعظم. فهو كل ماتبقى لها تقريبا بعد زواج اولادها و انصرافهم عنها..فجأة بدأ يعلو ضجيج قادم من الزقاق عبر النافذة.. اصوات قوم يتصايحون.و غلمان يتراكضون مهللين،و دوت زغاريد.
 ما هذا بحق السماء؟!
 هل نسيت ان الليلة زفاف منير ابن الحاج فضل.
 نعم تذكرت..

و تذكر بؤسه و حاله الاسيفة ايضا! أي عرس كان يقام في الامس و لا يكون هو في طليعة الحاضرين! في السماء اشتد الظلام و في الزقاق توهجت اضواء المصابيح الموقدة للزفة خصيصا،علا دق الطبول و عزف المزامير، صدحت اصوات المغنين و مرت الزفة في الزقاق مكتظة صاخبة..الزغاريد تسمع من كل صوب و نثار الورد يتطاير فوق السائرين في الزفة..العروس تنفض بيدها الصغيرة نثار الورد في دلال،و بجانبها يسير شابكا ذراعه بذراعها عريسها مزهوا بأناقته و شبابه اليافع.
شاهدت نعمت كل ذلك من النافذة في حسرة و تنهد..و ذكرت في حنين كثير عرسها منذ أربعين عاما و زفتها التي سارت في الزقاق نفسه...أيام عشناها و لم ندرك سر افضالها..كنا دائما الى الغد القادم نروم،حالمين متأملين..لكن بعد هذا العمر..يا ليت الغد لم يأتي ابدا! ، و ظللنا في ماضينا نعيش و نحيا..
فقد بتنا اليوم الى الماضي نروم..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى