الثلاثاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

طاقة الحلم في واقعية السرد

في نصوصه القصصية ( رقصات مرحة لبغال البلدية ) – عن مكتبة الأسرة / إبداعات معاصرة – يثير الأديب محمد حافظ رجب جدلا ضمنيا متجددا حول إمكانية تناول الحياة و ما فيها من أحداث و ظواهر بسيطة ، بوصفها فنا ، يحمل طاقة الأحلام أو الواقع الفائق من داخل الخطاب الواقعي نفسه .

و منذ بداية الستينيات ، حتى الآن مازالت الحركات الطليعية تطرح هذه الإشكالية ، بوصفها نهاية لحدود الفن الانعزالية ضمن أطره الخاصة ، و من ثم شاع المصطلح the end of art ليعبر عن ممارسات الطليعة الجديدة ، حيث الخروج من الإطار إلى اكتشاف ما هو جمالي في العادي و المألوف بحساسية عالية . و يميز ( ميشيل أورن ) هذا النقاش المحتدم بارتكاز الأعمال الجديدة على سؤال شديد الأهمية و هو هل هناك نقطة محددة لا ينبغي للفن أن يتخطاها حتى لا يتوقف عن كونه فنا ، و يرى أن هذا الأمر وجد على نحو ما في البوذية ، إذ اعتبروا كل ما يحدث في الحياة فنا ، لكنه بدأ بقوة في أعمال جون كيج و مارسيل دوشامب ( راجع – ميشيل أورون – الفن الضد بوصفه نهاية للتاريخ الثقافي – ت – محمد لطفي – الفن المعاصر – عدد:1سنة 2000) . إن حافظ رجب يبدأ برصد المألوف ثم بطريقة غير واعية يحوله فنا صمن الصيرورة الوجودية للسرد حتى يتلاشى ما هو عادي تماما وفق زوايا الرؤية الجديدة التي يضعنا فيها السارد .

في نص ( رقصات مرحة ) يجسد السارد هامشية البطل من خلال وضعه في إطار متصدع يراقب من خلاله العالم ، وكلما أوشك الجدار أن ينهدم تعلو في البطل الطاقة الخيالية المضادة للقهر حيث يتوحد بالصوت المنطلق بلا حدود ، يقول " الطبلة يدق عليها صبي متوحش ، داخل أذني الدقات الهادرة تركض كالبغال الجامحة ، ولد يغني ادلع و ارميني على وش المية .. قطاع الطرق يسدون عين الشمس ، ويل للجميع منهم " ص 16 .
الطاقة الكامنة في النص تشبه العاصفة المصاحبة لصمت الجدار .

هل هو رد فعل راديكالي ضد الهامشية ؟ أم أن الصوت يحتل الذات و يستشرف خبرات المرح من رقص البغال وفق مادة هوائية جديدة ؟ إننا أمام موت دون موت حقيقي لكنه تحول ما هو معروف إلى نغمة جمالية . يدل على ذلك تواتر النماذج اليومية مثل الحاج أمين الذي كان حوذيا لعربة قمامة و علاقته الاندماجية ببغله الراقص و القمامة التي تتحدث و الحركة الموجية للأسقف . هذه الظواهر ترفض وضعها في خطاب واقعي يسمها بالهامشية في حضارة رأس المال . فهي زاهدة في الظاهر لترقى و تحلق مثل البطل المتصدع في آفاق فنية عالية . و في نص ( الزحف نحو الأصفر ) يتعامل السارد مع المدلول الذهني كموضوع ملموس فيذكرنا بواقعية ناتالي ساروت الشيئية ، فمرض الصفراء الكامن في الصبي ولاء يستحيل إلى طاقة وحشية لها حضور خارج عن هيمنة الوعي ، كأنها تجريد صاخب للتكوين الأصفر معزولا عن ولاء ، الأصفر يقاوم العدم الأصيل في مدلوله إذ يحذر الأطباء من زيادة الحركة و الإكثار من تناول العسل و المربى . لكن ولاء بلا وعي يزحف نحو عاصفة الصفراء المجردة فيلتهم ذراع جده و يذبح القطط الجائعة . هكذا يتناقض اللون ذاتيا ، يصير فنا لسلب الحركة من ولاء و إعادة بعثها في الصخب الذي يشبه لون الذهب . ويبدأ نص ( الاختفاء في جيب الجد ) بصراع فانتازي ذي طابع تسجيلي بين الفأر فوزي محروس الذي اختبأ في جيب بدلة صادق البرهومي محاولا احتلال مكانته ، الفأر هنا يمثل طاقة الهامش العنيفة المميزة للهوية الأعلى منها دائما ، فعلى طول النص يظل الفأر محورا تتبلور حوله هوية البرهومي ، و عبر المقاطع السردية نجده يقاوم الموت المحتوم ، و يتراوح بين الحضور و الغياب ، ثم في حركة أخرى ينتشر على موائد الطعام و الاجتماعات و محلات الأحذية مصاحبا رفيقه كأنه خرج للتو من خيالات التناثر والجنون عند البرهومي . البهرهومي يتناثر كفأر .. الفأر لا هوية له .. شبح ..خيال ثوري متمرد على حامله ،

وقد نجده فراغا .. موقعا لصراع محتمل ، فقد كان على البرهومي أن يأتي بقط إلي جيبه ليقتل الفأر محروس . المكان / الجيب أصبح ساحة للاستبدال و قهر الذات من داخل محاولات الخلاص فبأي شيء نميز البرهومي عقب ضياع هويته ؟ قد نرى يوميا نموذج الفأر لكن تحولاته قد عمدت بلا وعي إلي تقويض البطل و تفريغه بالكشف عن كينونته العبثية . وفي نص ( لهثات الجد تعزف نشيدها ) تتحول حكايات الجد المألوفة حول الأنبياء و صراعهم مع الشيطان المنتقم ، إلى عوالم افتراضية يعاد تشكيلها لتؤول واقع سالم و أخته ، فالشيطان يمرح و يرقص في كل مرة يحتد فيها نقاش سالم مع الجد . إن تطورالصورة يخترق طمأنينة الخطاب ، إذ يتخذ وضعا جديدا في سياق السرد ، فنوازع التدمير اللا واعية في سالم تمرح مستحضرة رقص الشيطان ، فيصارع الجد و تتبعثرعظام الأخير في كل مكان إلا المقابر ، ثم يقهقه لمرآها السياح . لقد تحول النزوع إلى التدمير إلى مرح و سخرية من حركة التدمير نفسها ، فعظام الجد ترقص و تبهج المشاهدين دون أن يموت الرجل .

أما العداء المتكرر مع الحفيد فهو صورة جمالية تسعى من خلال الصراع إلى بهجة تحول المألوف من داخله . إن عناصر العالم عند حافظ رجب احتمالية بالأساس ، إلى الحد الذي يمكن أن نكتشف فيه جمالا في الحدث السياسي من خلال علاقته بالواقع الفائق المصاحب له فقد اقترن مرض سالم بالصفراء بتأجيل الوفد الفلسطيني زيارته لأمريكا و صور ناطحات السحاب و دخانها الكثيف ثم حكايات الجد عن الطوفان . تجسدت إذا ملامح التأجيل و ما يصاحبه من صمت في أكثر من صورة تصير كل منها تأويلا سحريا للأخرى فنرى – مثلا – آثار الطوفان المدمرة في خلاص سياسي مؤجل يرى من بعيد كقارب متخيل للنجاة .و في نص ( عصا النبي ) يبرز السارد خطابه الأصلي وفق الأحداث الرئيسية لقصة موسى عليه السلام بدءا من معجزة تحول العصا و ما تلاها من أحداث ، و الجديد هنا أن السارد يكتب نصا آخر خفيا موازيا للأصل و متناصا معه ، حيث تتسع الدهشة ، و يصير التحول أغنية كونية ، يقول السارد " الدهشة تبعثر الكلمات المتعثرة ، الدهشة تجول في النظرات الزائغة .. ماذا أرى .. مذهول أنا ، حية تتحرك ، معجزات ربي تسبي العقول ..

كل هذا يحدث فجأة و لا أضيع و لا أنتهي " لقد استمد حافظ رجب من قداسة المتن قوة للمعرفة النصية التحويلية لما هو بسيط في اتجاه مخالف للنزعة الوظيفية التقليدية ، اتجاه إبداعي في النظر إلى الكون يتجاوز الثبات .و تعلو النغمات المصاحبة لسريالية الصورة الواقعية في نص ( الركض في وحشة البرية ) ، إذ تندمج العناصر المتباعدة في تعاطف فني فريد ، فصديق البائع يدخن خرطوم فيل ، والدخان وحش ، و السفينة تعطل حركة المرور ، كما تمتد بقع اللون الأحمر من البطيخ إلى جسد امراة البائع على هيئة مرض غامض ، لا يمكن شفاؤه إلا من خلال سحر المادة الحمراء الحاملة للموت و الحياة ، إذ ينقسم الدال / لون البطيخة بين الرجل و زوجته حيث لذة الأكل و الرغبة مع ذكرى المرض الأحمر .ويعيد السارد اكتشاف عمليات الاستبدال transference وفق مفهوم فوق واقعي يبدأ من صراع عادي يتولد من أسباب تافهة ، مثل احتقار البطل لنجفة و عائلة شيحا القوية ، ثم رغبة الأخير في احتلال منزل الأول ، وهنا تحضر الصور صاخبة في حركتها التخيلية المصاحبة للقهر ، فالحماسة القتالية تبدو في صوت أجراس يوقظ من في القبور ، و البعوض المتكاثر له خوار جاموس وحشي ، و الماء القذر يدخل من تحت الباب حتي يكتمل تفريغ الهوية المنشود ، لكن الخيال قد أتي على نحو جمالي مضاد لمركزية القتل و ساخرا من قوة شيحا ، فقد شاهد الناس الأخير يضرب برأسه صاحب البيت المجاور فيطير دماغه ؛ لتأكله الحيتان المشوية .

لم تنته الحياة أبدا في تحولات الصورة فالحيتان المشوية تعمل و تنسحب طاقتها للمقتول كأنه يقاوم الموت و البلطجة .و تمتد السخرية من النهايات الدرامية للصراع في نصي ( هجير حريق رداء الصغير ) و ( الذي لعق نهر الدماء ) فحرق قميص الطفل في الأول استدعى هجوم محمود المجذوب على عائلة ريحان .. تمتد حماسته في مادة النار و تستدعي عقاب نسوة ريحان بتعرية صدورهن في الماء .. هكذا بدأ الصراع و انتهى في خيالات المادة ، و في النص الآخر يذبح الغفير كمال منصور سماح الشغالة و يلعق دمها ؛ لأنها أوشكت أن تتزوج و تفارقه ، ولم يأت القتل كحدث موضوعي بسيط إذ حمل دلالة التوحد بالدم المماثل لذات متعالية تظل مهيمنة على القاتل دون نهاية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى