الخميس ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم رشيدة عدناوي

صوت من وراء الأضواء الكاشفة

لفظني كمضغة غير سائغة ثم اختفت أقدامه خلف الباب ذي المربعات الزجاجية...
لا شيء يميز هذا الفضاء الطحلبي. مكتب متآكل يتوسط الغرفة، تناثر عليه نزر أوراق وقصاصات، وعلى يساره طاولة صغيرة حبلى بآلة كاتبة تنتمي لعهود ما قبل العولمة، ومصباح مكشوف لم
يشتعل بعد، تدلى من قلب السقف الحائل كعلامة استفهام مبهمة.

ينفتح الباب فجأة، لينفث رجلاًً اعتقدت في البداية أنه الضابط، لكنه كان يسير كمن يحمل نعشاً أو يخفي نبوءة. يجلس على الهامش إلى آلته يراشق حروفها الجامدة قبل الاشتغال عليها. لم يثره وجودي، ولم يكلمني، فكل زبنائه على ما يبدو متشابهون، يرددون كلمة "بريء" وهم متهمون، أو ربما يعترفون غير مكترثين بما سيؤول إليه حالهم... اختار خمس ورقات عذراوات، وضع بين كل منها ورقة كاربون أسود أو أزرق؛ لم أتبين ذلك من موقعي؛ صففها بشكل متواز. ضربها برفق على الطاولة، قبل أن يدخلها في كماشة الآلة المتعبة، ويديرها حول نفسها بثقة.

بالخارج هرج وجلبة تقترب حثيثا، وطنين مفاتيح أو أصفاد يسري في فضاء المكان كالفحيح. ساورني شعور بالاختناق حد الموت، وتحجرت عيناي على عتبة الباب. وحينما دخل بقامته السامقة الجانحة للامتلاء وحاجباه معقوفان فوق نظراته الحادة، وصرخ في وجهي، تأكد لي أنه هو... هو من حدثني الشرطي عنه...

قال لي - وهو يقتادني الىمكتبه-: أحسن لك أن تعترفي، فإن وقعتِ في يده لن يرحمك، علاقته بالنساءغريبة، حتى إن زوجته ضاقت ذرعاً به، فغادرت المنزل إلى غير رجعة، أخذت كل ماله واختفت عن الأنظار.

 الله أكبر... جلسة لي مع راسك، ومرتاحة لي على الكرسي... الوقوف، لسنا بمقهى خمس نجوم...
عبثاً كنت أحاول اتقاء نظراته الشزراء، وهي تتفحص بازدراء كل ذرة من جسدي؛ حذائي البني، بنطالي ومعطفي المظلمين، سلسلة ذهبية تحمل آية الكرسي، تسريحة شعري المتواضعة، وحقيبة يدي ملتصقة بكتفي.
أزاح نظره متبرما، وأخذ يقلب فيما وضع أمامه... فتح درج المكتب بمفتاح صغير استله من جيبه، وأخرج طابعين وقلم. وحين حدست أنه لا مناص سيطلب بطاقة هويتي... فتشت بتؤدة بين تلافيف
الحقيبة، لكن سدى، اتسعت حدقتاي وشريط أحداث هذا اليوم المشؤوم يمرق أمامي، كنجمة شرقية
تنداح مياه ثلجي الداخلي، قبل أن تنكسر أمام أولى الحواجز...

حركات الأيدي تحلق كعصافير الموت أمام محياي، تصفع الهواء من حولي، فأحسه على وجنتي حاراً جافاً كالبراكين... شفاه زوجي تتحرك وتتمطط لترسم سمياء الحروف... ويتطاول اللفظ المريع وتثقل العبارة / بلهاء أنتٍ / ترهاتك مللتها / ألاتثقين بي؟ / اشربي البحر أو انطحي الجدار / ثم إن هذا المكان سوق / أنا لا أرتاد إلا سوق رأسي / وهو على العموم مكان غير ملائم للعشق / كيف تصدقينها؟ / تسلخ الألفاظ عن ذاتها سحر البلاغة وتتجرد عن سحر البيان إلى بيان السحر، تكشر
عن نابها الأزرق لتجرح و تدمي، وتوغر أحياناً فيّ... فيجر الكبرياء أذياله عبر أدراج الخيبة...
يصفق الباب خلف كل محاولات التواصل لرأب صدع صار موغلا في التداعي كساعة رملية...
هكذا كنت أركض بعيدا كفرس جامحة، انفلتت من عقال الصلف المميت! صفقت الباب ورائي،
تركت كل شيء حتى ابني- لم أشأ ايقاظه– حملت حقيبة يدي دون تفقد محتوياتها، لعله يعتقد أنني
سألجأ الى بيت والداي، على مرمى حجر من منزلي، لكني سأكذب توقعاته...
أكره أن يراني الآخرون في لحظات ضعفي...

كانت الإهانة تستقر في حلقي وتنز من عيني.. وددتُ لو صرختُ عاليا... لو بكيت على صدر أمي.. لو.. لو... لكنني لا أستطيع الساعة... جدار سميك يحجب أحاسيسي عارية عن الآخرين.
آثرت أن أسير.. حين يصحو غضبي تتعطل حواس الكلام.. وتتعثر الكلمات في حلقي.. ينضب
الحبر وتخنقني الجدران... كنت أسير على هدي قدمي المسرعتين من شدة الانفعال... وبدون
وعي أومأت لسيارة أجرة أقلتني إلى محطة القطار.

ليتني ما فعلت!.. كيف أتهور وأضع نفسي محل شبهات؟.. من سيصدقني الآن وليست لي هوية لأثبت براءتي مما نسب إليّ؟ كان عليّ أن أتفقد محتويات الحقيبة، لكنني لم أفعل... لم أفعل.

انفجر صوت الضابط في وجهي ثانية... لعله أدرك شرودي وأفعوانات الخوف الزاحفة تحت جلدي...
 كيف تلقين برضعيك تحت مغسل القطار، وتحاولين خنقه؟
 لم أحاول خنقه، ولا لمسته، ولا سبق لي أن عرفت عنه شيئا؟
 وهذه البحة في صوته؟
 لا أدري. قلت للشرطي: أنا بريئة من كل هذه التهم، كل ما في أمري، أنني شعرت بالاجهاد في
العربة.. كل الركاب كانوا من الرجال، أنا المرأة الوحيدة الجالسة بمحاذاة باب المقصورة... كل العيون ترصدني... حسبتها تقرأ أفكاري، فبدا عليّ الحرج قليلاً... بعض الأطفال جعلوا من حذائي ممرا آمنا لهم.
فقلت أريح نفسي... وألطف بشرتي بقليل من الماء البارد. تخطيت أمتعة بعض الركاب الذين لم يجدوا لهم مكانا بالعربات بسبب اكتظاظ القطار، ودخلت دورة المياه... سمعت حشرجة عند قدمي، فاكتشفت العلبة التي تضم الرضيع، ودون تدبر أو تركيز، فتحت الباب، أبحث عن جابي القطار لأعلمه، لكن...
 لكنك في حقيقة الأمر، فررتِ بعد أن ارتكبتِ فعلتكِ الشنعاء.. كيف تنامين قريرة العين؟! فاجرة، لو كان الأمر بيدي لأعدمتك الآن!.
 أرجوك سيدي الضابط ... أنا بريئة، يمكنك أن تسأل المسافرين الذين شاركوني العربة.
 كل المسافرين الذين استجوبناهم رأوكِ تجرين هاربة.
 لم أهرب سيدي... صدقني. كنت أبحث عن أحد جباة القطار.
 وهل تعرفين منهم شخصا بعينه؟
 لا... قلتها، وقد انكسر صوتي، وخارت قواي.
فتابع الضابط متهكما:
 بريئة... كلكن بريئات... حين تمارسن العشق تحت أقبية الظلام... بريئات، وبطونكن تتخمها الشهوة العمياء... _ بريئات، وأنتن تقتلن الأزواج والأطفال لتتسترن على جرائمكن.
أتاني صوت زوجي صاخبا في أذني : ألاتثقين بي؟ ألا تثقين...؟ ألا تث...؟
استأنف الضابط قائلا:
 بطاقتك؟
 أعتقد أنني لم أحملها معي...
قهقه وقهقه وقال ململماً رذاذه المتتطاير، ومستعيدا حالة التقطيب والعبوس التي كان عليها:
 وهذه تهمة أخرى تنضاف لرصيدك الاجرامي! وحقيبة اليد هاته أليست خزان الأوراق السرية
والمناديل السرية... والعلب السرية...؟ الصباح لله! أتركي لي رقم هاتف أحد أفراد أسرتك وابتعدي، مساعدي سيأخذ أقوالك، ويصحبك لغرفة التمريض لاجراء الفحوصات...

أخذت القلم، وكنت على وشك تدوين رقم هاتف أخي الأكبر لأن إقامته، التي كنت أقصدها، أقرب
نقطة لهذه المديرية، لكني تذكرت نظرة التشفي في عيني زوجته، ومركزه الحساس...
كيف أخبره بما حدث ويحدث لي، وهو لا يكاد يعرف عني، أكثر ما يعرفه الضابط نفسه...
فكرت ملياً، ثم وضعت رقما هاتفيا على مكتبه وابتعدت، وأوامره ترافق خطواتي نحو هامش مساعده: - حينما تنتهي الفحوصات، أنزلوها إلى الزنزانة، حتى نتمم التحقيق..

آخر مرة دخلت فيها مخفر الشرطة، كنت شاهدة لا متهمة، وشتان بين الأولى والثانية، زميلتي بالإعدادية التي كنت أعمل بها، تولول وتولول متألمة، وهي تمسك بأرنبة أنفها، والدماء تنفلت من بين أناملها النحيفة وتتمتم: هرس لي نفي... هرس لي نيفي... سألني المحقق حينها بعد أن استجوب التلاميذ الذين عاينوا الحادثة:
 هل صفعته الأستاذة فعلاً، كما ادعى في محضر الضابطة؟ فأكدت له أنها اكتفت باسترجاع ورقة
تسلمها من زميل يجلس أمامه في قاعة الامتحان، بعد أن رفض أن يقدمها لها عن طيب خاطر، فلم يستسغ الحركة، ارتفع قليلاً في شبه قومة من الطاولة، يوجه لأنفها ضربة من رأسه، حاولت منعه من مغادرة القاعة، لكني رأيت شرراً في عينيه على وشك الانفجار، فأخليت له السبيل مكتفية باخطار الإدارة التي أخبرت بدورها الشرطة... وقعت على المحضر، ثم انصرفت لحال سبيلي.

والآن أنا في ورطة لا أعلم كيف سأخلص نفسي منها... كم هو ممل هذا العمل الروتيني، الذي يقوم به مساعد الضابط... لا شك أنه في قرارة نفسه يشعر بالضجر...
أخيراً... اقتادني إلى غرفة باردة كالموت. لم أفهم في البداية لماذا طلبت مني الممرضة أن أكشف لها عن صدري، إلا حين ضغطت بشدة على حلمة ثديي الأيمن، فانبعث الحليب ساخناً كسفود عاجي... حينها فقط أدركت خطورة ما أنا فيه... ليس مهماً أن تقتنعي ببراءتك أنتِ، عليكِ أن تجعلي الآخرين
يقتنعون... أحسست بفراغ فظيع يبتلعني، نبست في هلوسة الفاقد للإدراك:
 كيف أفعل هذا بطفلي الوحيد؟ كيف أحرمه هذا النبع الإلهي... لا شك أنه الآن جائع... وجائع جداً... كنت أسمع دق نبضي يتضخم، كما لو كانت مكبرات صوت تحمله إليّ من بعيد... انقشعت كل الأضواء بقاعة التمريض أمام ناظري، واستحالت إلى سماء تسبح بها نجيمات... وفجأة خبت كل النجوم، وبدا لي كأن السماء سقطت...

أحسست بوقع يدي على جبيني... لكن هذه الكف الكبيرة ليست كفي... أشم بها رائحة تبغ أعرفه... وهذا المصباح المشتعل فوق هامتي؟... النظر باتجاهه يؤلم بؤبؤي.
قلت بصوت مسموع لا تأكد أنني لا أحلم :
 هل أنا بالسجن؟! وهذا الصوت، وهاته المناغاة هي لطفل ليس بصوته بحة! حركت يدي بشكل
لا إرادي لعلي أمسك بيدي ما عجزت عيني عن التقاطه، وكدت أمزق الشريان الذي غرز به أنبوب
السيروم.

أجابني من وراء الأضواء الكاشفة صوت أعرفه، أو هيئ لي أنني أعرفه:
 لا تخافي... أنا هنا... انظري... إنه سهيل... سهيل جائع... وغاضب منكِ، لأنكِ لم تأخذيه معكِ، وتركته وحيداً معي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى