الجمعة ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم مروة كريديه

أزمة القيم واختزال المقدس في عصر التعقيدات

" يبدو البشر ،
في مرآة الوعي الذي صفا وتكامل....
كأنهم عاشوا ولا يزالون ،
على الرغم من التقدم الذي أنجزوه ،أشبه بتجمعاتٍ وحشيّةٍ ،
يريد كلٌّ منها، بطريقةٍ أو بأخرى ،
أنّ يُسيطر على هذا الكوكب ،
وأن يمتلكه......
مدخِلاً إيَّاهُ في خُرم عقيدته ، أو منهجه ، أو سلطته....."

أدونيس

تقف الإنسانية اليوم، أمام أزمات متفاقمة ، يصبح الانسان الحليم أمامها حيرانًا،يرقب بحذر "التطور" التقني الهائل، ويرى الأخطار المحدقة فيه، يحاول بحدسه الفطري أن يتلّمس نفحة محبة، ولمسة أمان، ورغبة حقيقية للسلام، يحاول ان يجد بقلبه اليوم مخرجًا للأزمات، وهو يفكِّر بعذريّة كائن لا تختزله العقائد ولا تحتكره الأموال ، مستلهمًا الخبرات الروحية العميقة التي تتعدى الأزمنة والأمكنة والأشخاص ...
لقد حمل هذا العصر الكثير من التعقيدات، التي انعكست على الكائن الانساني، لا سيما فيما يتعلق به من مفارقات تهدد كوكب الأرض ، كما سائر الكائنات بما فيها الإنسان، فأسلحة الدمار الشامل من نووية وذرية ، تجعل كوكب الأرض على كفّ عفريت من جهة، وتقنيات العلوم الجينية من استنساخ وغيره من تدخلّ في تقنيات خلق الكائنات تنذر بولادة كائنات هجينة ، علاوة على التلوث البيئي الذي تسببه الصناعات، وآثاره المدمرة ، خصوصًا بعد صفارة الانذار التي أطلقها العلماء بعد مؤتمر باريس مؤخرًا, حول التغييرات المناخية المحتملة لجهة الاحتباس الحراري وارتفاع مستوى البحار والمحيطات ، الأمر الذي ينذر بكارثة بيئية وانسانية حقيقية لا تبقي ولا تذر .

ويترافق المشهد هذا مع ثورة اتصالات، وغزارة معلومات، نقلت الحضارة الانسانية معها الى طورٍ حضاري لم تشهده من قبل، ووضعت البشرية امام واقع افتراضي ، أربك نظام الاشياء، وجعل من المتعذَّر السيطرة على القوانين، أوحتى مجرد فهم المتغيرات .
إن أزمة اليوم شاملة تطال كافة القيم دون استثناء، بكل توجهاتها، سواء الدينية واللاهوتية منها ، المتنوعة الصور والمشارب والاتجاهات، أو الحداثية بشتى ألوانها وأشكالها، إنه عصر انهيار روح الكائن المسمى إنسانًا بامتياز .
فهل نحن على أبواب عصر(عدمي) يشهد أفول القيم وانهيار الأديان؟؟ أم نحن أمام عصر (النهايات) نهاية التاريخ ونهاية الإنسان ؟؟؟
و يتساءل الانسان بروحه :اين القيم السائدة منها والبائدة ؟؟ ماهي منابعها وماهي مجالاتها ومساراتها من اين نستلهمها من الأرض أم من السماء؟؟هل القيم نسبية ام مطلقة ؟؟كيف السبيل ؟؟ ألا يحق للانسان تقرير مصيره الروحي؟؟ما هي حقوقه ؟ وما هي حدود مسؤولياته تجاه نفسه وبيئيته وتجاه الكائنات الأخرى وتجاه كوكبه ؟؟

إن إشكالية القيم والمقدّسات اليوم، لا تكمن في القيم نفسها أو في وجودها بحدّ ذاته ، بل في اختزال تلك القيمة في بُعدٍ واحدٍ ، وحصر المعنى بمعنى واحد ، واحتكار الحقائق ، وعبادة الأشخاص، الأمر الذي يُسَطِّح الادراك عند الانسان ، فنحن ككائنات وجودية شئنا أم أبينا محكومون بالقيم، ولا يمكننا أن ننفي أو نؤكد حضور "المقدس "،فنحن مدينون للمعنى ، الذي هو المظلّة الرمزيَّة ، والجدار الأخلاقي، والعنوان الوجودي ، وليس الخطورة تكمن في التحولات الحضارية العصريّة السريعة والمفاجئة، بقدر ما تكمن في طريقة التعاطي معها، فنحن مطالبين اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بإعادة النظر في القيم و عالم المعنى من اجل صياغة رؤية منسجمة عن الواقع بكل أبعاده ومستوياته .

إن عملية نقد "المقدّس " وحضوره ، ليس نقدًا لذاتية الفكرة بل نقد للممارسات النابعة عن الاختزال أو الفهم المختزل، فهو نقد موجَّه لما هو قائم موجودٌ الآن، وهوالمقدس المختزل عن التأويل في عالم المعنى ، فعملية تشخيص الأزمة القيمية ومقاربتها من الأهمية بمكان ، لأنها تمسّ وتطال سائر مرجعيَّات المعنى، وأشكال مصداقيته .

فالديكتاتوريات بمعظمها تناهض المقدس الديني ، و ذلك بغرض استبداله بصورة الزعيم والديكتاتور، كما الانظمة التوتاليتارية، والعنصرية، كلها تحاول ان تلغي مقدسات الآخرين،لتثبت مقدسها هي، وتؤكد تفوق عنصريتها.
كما أن التيارات الإلحادية شأنها شأن الملل والنحل والاديان الاخرى، تُسقط مقدس مُختزل لترفع آخر أقلّ او أكثر اختزالاً ، ومشكلة العولمة تكمن في كونها تختزل الانسان بالكائن البيولوجي الاقتصادي المستهلك ، ملتهمة بشكل متواصل لكل ما ينتمي لعالم الروح. وهنا ينبغي علينا أن ندرك الفرق العميق بين العولمة، كفكر يدعو الى الانفتاح لهدف اختزال الواقع ، وبين الفكر الكوني المنبثق عن الوحدة المفتوحة للعالم على الوجود ،في حين ان الانفتاح يتطلب منا أن نعي وقبل كلّ شيئ ان للواقع مستويات عدّة تحكمها أنماط متنوعة من المنطق .

والواقع يشتمل على الذات والموضوع والمقدس وهي كوجوه ثلاثة للواقع ذاته ، وعملية اختزال وجه من هذه الوجوه يؤدي الى خلل مدمر ،فجوهر المقدس إذن هو ذاك الذي يكفل التناغم بين الذات والموضوع ، عند إذن لا يمكن للمرء أن يقع في فخ التأويل الواحد وبالتالي لا يمكن أن يدعي لنفسه حصريّة الحقيقة ، إذ أن الحقيقة ترتبط بالواقع المحيط بها ، فما يبدو صائبًا في لحظته ،في مكانه ، لا يكون كذلك في لحظة أخرى في مكان آخر او في واقع آخر ...

إنه الموقف العبرثقافي والعبر ديني الذي يتحدث عنه بسراب نيكولسكو وهو الذي يتناول كافة االأنساق المؤسسة لكافة المعارف البشرية فيتخللها ويتخطاها في آن معًا كما يتوسطها ويتعالى عليها جميعًا ،ويشير الى ذلك بقوله " الموقف العبر ديني غير متناقض مع أي منقول ديني ولا مع أي تيار لاأدري أو ملحد ، بمقدار ما تعترف هذه المنقولات وهذه التيارات بحضور القدسيّ . وهذا الحضور القدسيّ هو، في الواقع , عبر حضورنا في العالم . فإذا قيّد له أن يُعمم فإنّ من شأن الموقف العبر ديني أن يجعل كلّ حربٍ دينية متعذّرة "
إنه موقف كوني يفتح فضاءات لا متناهية من الحرية الحقيقية،التي توقظ الوعي وتحرره من كلّ ما يُقيده من عبودية الأفكار والأشخاص وقدسية العقائد المغلقة ، لأنَّ الحريّة تغدو عندها تجاوز للثنائيات الضدية الخير والشر الحب والكراهية، فهي تنقل الانسان إلى آفاق معرفة قوامها الحب والمشاركة والتسامح ، وتحول الذات الانسانية الى ذات كونية لا تكتمل إلا بالآخر الذي هو جزء منها يذوب فيها وتذوب فيه، في انفتاحٍ متبنِّيَةً قيمًا كونية ترعى حقوق الكائنات أجمعها من ذرة الرماد والجماد الى البحر والشجر، فيتحلى الفرد برؤيَة عالم في أعماقِه حدس شاعرٍ عابرًا كل الحدود الثقافية والسياسية والدينيّة والجغرافية والتاريخية ، فتصبح القيم مهما كانت مصادرها وكيفما كانت صيغها وإلى من أو ماذا يكون توجهها هي المعبر الأمثل إلى حالة الوجود المتوازن مع الكون .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى