الأحد ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

الاندماج الكوني في حيوانات أيامنا

لمحمد المخزنجي

كان الأديب الدكتور محمد المخزنجي قد نشر نصوصا من كتابه القصصي المعنون ب ( حيوانات أيامنا ) – دار الشروق 2007 – في جريدة أخبار الأدب المصرية عام 2005 ، تحت عنوان ( الغزلان تطير ، و الأفيال ترتوي ) و قد كتبت عنها حين قرأتها مقالا نقديا نشر بجريدة الزمان الدولية في يوليو 2006 ، و في عدد من المواقع مثل دروب ، و الحوار المتمدن ، و إيلاف ، و قد عقب الدكتور المخزنجي على ما كتبت بموقع إيلاف ، بملاحظة أن نصوصه هي كتاب قصصي ، لاحتوائها على رابط داخلي ، و أتفق معه في هذا ، مع إضافة تفسيرية تتعلق بالنص كإمكانية لتكوين وجود كوني ذي روابط مجازية تقع في قلب هذا الوجود و تتحداه بخاصية انعدام الوضوح الكلي .

المخزنجي إذا يكون (معرفة) بالوجود من خلال جماليات الصوت الداخلي المشترك بين الراوي و الحيوان و العناصر الكونية ، ذلك الصوت الذي يتناثر في مجموعة من الانطباعات الحسية و الذكريات و الأحلام ،بحيث يصعب فيه تحديد الشخص المدرك ،فالصوت هنا تمثيل رمزي للوظائف الواعية و اللاواعية للمخزون الجمعي، في هيئة ضفائر تحقق تداخل وعي الراوي مع المهر أو الكلب أو الجندب و غيرها،مما يعزز التساؤل حول الصوت نفسه من خلال انتشار بدائله التي تسائل كينونته الأولى .

وقد وجد هذا التداخل بشكل مختلف في بعض نصوص (أرنست همنغواي) و (ماركيز) و في الرواية العربية عند(عبد الرحمن منيف ) و (إدوار الخراط) و (هالة البدري) و غيرهم ،إلا أن راوي المخزنجي يفتت منطقه و تاريخه برصد الأحاسيس الجزئية للحيوان .و بهذا الصدد يشير (كارل يونج) إلى أن الأبحاث الحديثة في غرائز الحيوان _مثل الحشرات_ تظهر أن لها سلوكا غير واع ، هو من قبيل الوظائف النفسية و الطاقة اللاواعية الموروثة في خافية الإنسان (راجع -يونج-علم النفس التحليلي-ت-نهاد خياطة-هيئة الكتاب2003)؛ فهو يؤكد ملامسة هذه العمليات للإدراك وقدرتها التأثيرية المكملة للصوت البشري المجرد . إن المخزنجي يعيد قراءة بعض الوقائع و الأحداث التاريخية وفق التطور الإبداعي/الدينامكي لأحلام الحيوان و صيرورته اللاواعية في بكارتها المجردة من ثقل الرؤى الشمولية الكبرى؛ و ذلك في اتجاه التسجيل المفكك للصور.

في نص (مهر) يستمد السارد من تكاثر صورة المهر و انتشارها ، قدرة على تمثيل حركية الوجود ، كأنها شعلة متقدة للإدراك في عوالمه الداخلية . لقد أصبحت حدود علم الراوي نابعة من ذاكرة المهر التي تحوي صورا متناقضة من الوعي و اللاوعي لكليهما . فصورة الأب القاسي يختلط فيها الشعور بقداسته مع وحشية الطوطم البدائي ، فذات مرة ضرب أمه و ركلها حتى حمحمت و خرج الدم من شدقيها ؛ كما عذب السائس لتأخره في تجهيز الحصان . هكذا تجردت أصوات الألم في الفضاء مقترنة بعبثية الحرب ، فهل كان المشهد تمثيلا لمعنى الوجود ؟ أم أن بكارة الألم تحول الإحساس بالجسد إلى صوت مجرد؟ صوت يشبه شعور (سوزان سونتاج ) بمعنى الحرب ، أو آلام رامبو و بودلير ؟

ورغم تحقق المواجهة الحتمية بين المهر و صور الجثث و الحرائق ،فيما يؤسس لانعدام التجانس ، يظل صوته أثرا لذات تقاوم آلة الحرب و الدم.
و في نص( جراء) يشكل السارد رؤيته للعالم من خلال حساسية التقاط الجراء لأصوات مئات المعذبين تحت الأرض ،و قد تركهم حراس الطاغية و فروا إثر سقوطه ، إذ تندمج بها و تصدر ما يشبه العويل ؛و يكشف هذا الاندماج عن عبثية الاتصال الإنساني المباشر بالجموع التي تندفع نحو الموت فلا يستجيب أحد للصوت المجرد المتطاول ،كأنه مقطوع الصلة بالجسد ، إذ ينقل نفسه في بديل له و هو عويل الجراء .فهل كان الصوت مسارا وجوديا للكلب ،و رمزا لقداسته عند الفراعنة ؟ أم أنه عنصر تأثيري تولد من غياب الموتى ؟ إن العوالم الداخلية للجراء لتشتعل –في عقل السارد – بالأصوات المذبوحة لتصنع منها تاريخا أو رواية معزولة عن مصدر الألم نفسه.

وتجسد السمكات الأرجوانية الصغيرة المتقافزة صوتا خفيا للشاعر (هو شي منه) – في نص سمكات أرجوانية صغيرة- حيث تختلط الصورة الاحتفالية بالسكون الأبدي فيما يشبه النيرفانا ، و كأن السمك يسمع نداء الحياة في آثار الشاعر و بقايا مجالسه و مسامراته من خلال إحساس الراوي بالصوت الخفي ،حيث التأمل و اللعب و السلام. الصوت إغواء للمتكلم في اتجاه فاعلية الاختفاء الجذابة التي تسائل إغلاق مفهوم الحياة ، بل إنها تشكله حال اندماجه الملتبس بالموت و الحياة معا .

و تصل منظومة (الصوت) إلى ذروتها في نص (جنادب نحاسية) حيث يصير الصوت مادة لتوليد الصور و حركة تداعي الأحداث في النص السردي ، فالجندب النحاسي الذي اشتراه الراوي في (بانكوك) يصدر صوتا رغم أنه معدني ظاهريا . أي يوحي بميل واضح نحو التشيؤ ولكنه يغيب فجأة في الفندق و يستحيل إلى صوت مجرد مزعج ، يجسد الراوي من خلاله التباس التكوين البشري . إنه الوجه الآخر للتشيؤ أو ما بعد التشيؤ ، فالصوت يستبدل موقع الشيء و يتحرك في صور عديدة مثل الفندق الذي يشبه السيرك وتعرض فيه البغايا كالجندب أو المانيكان ، فتخدش صورتهن جمود المكان كما يخدش الجندب الحي غطاءه النحاسي . و يتذكر الراوي بالتداعي صورة عملاء سريين يعملون بشركات طيران ظاهريا ،ليؤكد النزوع نحو الحركة من داخل الصلابة . هل كان الجندب تدميرا لاواعيا لأحادية الهوية ، أم أنه اختلاط العضوي باللاعضوي و فق مفاهيم فرويد ؟ الحياة إذا تنجذب نحو صلابة تؤكد المحو و الوجود معا مثلما تقوم بكشف تناقض عمليات التجسس ضمن بنيتها التي اكتسبت للتو مصير الجندب و احتفاليته الزائفة بالحياة كصوت تجرد من التجسد الحيوي ضمن عمليات الحجب المتكررة .

و قد يحاول الراوي معانقة الظواهر الكونية الفريدة كأنها بدائل لاكتمال ذاته المتخيلة دون أن يصل إلى المدلول الأصلي لهذه الظواهر ، في نص (كان يطارد فراشة في البحر) فقد انبثقت السمكة أمامه ملتبسة بروح الفراشة لتجسد ذلك التداخل و تمزج بين أحلام الهواء و الماء الثقيل في وعيه فقد تخيل أنه يطير وراءها في الماء حتى أحس بابتلاعه ثم هجوم القرش عليه دون أن يمسك بجوهرة الوجود . ويوحي عدم القبض عليها بغياب الصوت الخاص مع قداسته في الرؤية و التشكيل الذي يتقنه المخزنجي إذ يحقق حركة الصورة الفريدة في النص السردي ، فتذكرنا تلك السمكة بالسمكة الذهبية في بعض لوحات ( بول كلي ) فهي تمثيل حي للذات في الوجود.

و في نص (غزلان) تختلط النوازع البشرية بالحيوانية على نحو واضح ؛وقد أدى ذلك إلى تواتر تبادل المواقع و الوظائف في النص فجنود المارينز دخلوا القصر جوعي ، فهجموا على الغزلان و التهموها مشوية ثم تركوا عظامها للأسود صباحا . لقد أقصى الجنود وحشية الأسود إلى الهامش ، فاستبدلوا زئيرها الصامت في الأقفاص . أما الأسود فقد التبست بصورة الفريسة بعدما كانت تلتهم البشر الخارجين . ورغم ارتباط الظباء و الغزلان بالضعف و الرقة ،فإنها تظل مثل رائحة أو ذكرى لونية فريدة تظل قابلة لإعادة التكوين في إحساس الأسود المتجدد بالجوع حتى تصير صورتها كامنة في الأسد حين يواجه مصيرا عبثيا دون مبرر ، لقد خرجت الأسود من مدلولها الثقافي المهيمن ضمن عمليات التأديب الممثلة لمحاكاة القوة دون امتلاك القوة نفسها إلى الهامش الثقافي لقوة أخرى ملتبسة . إننا أمام تفريغ للعنصر المهيمن و سخرية من البديل في آن . وفي نص (الأتن)_نشر في أخبار الأدب عدد534- يواجه الراوي زائرا غريبا يأخذه إلى رحلة يمتزج فيها التاريخ بمنطق النص و الأسطورة فالأتن المستغلة لتقوية الذكورة الكامنة في نساء نيرون تعود لتنتقم بإعادة تمثيل حريق روما ، إذ تصير مصدرا لاتساع الحريق ، فهي تهرب من النار إلى النار لتحيا في أنوثة جديدة للمادة تكتوي فيها سابينا محظية نيرون .فهل هي خيالات النار الأنثوية كما وصفها باشلار؟ أم أنها جذوة الأنوثة الكامنة في البطل ؟ إن المخزنجي يحول التاريخ إلى كتابة مجازية تقوم على جماليات الاندماج الكوني بالحيوان و الظواهر الفريدة .

لمحمد المخزنجي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى