الأحد ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

الرواية السياسية والتخييل السياسي

1- مفهوم الرواية السياسية:

نعني بالرواية السياسية Roman politique تلك الرواية التي تنصب على مناقشة الأفكار السياسية وبرامج الأحزاب النظرية والعملية، وتحديد تصورات المذاهب السياسية وتبيان مواطن اختلافها وتشابهها، مع رصد جدلية الصراع بين الحاكم والمحكوم و العامل مع أرباب وسائل الإنتاج، واستجلاء الفكر النقابي والنضال السياسي وما يستتبعهما من اعتقال وقمع وقهر وحبس للمواطنين والمناضلين في الزنازن وسجون التعذيب والتطهير. كما تقوم الرواية السياسية باعتبارها نزعة روائية "على أطروحة الدعوة إلى أفكار سياسية معينة وتفنيد غيرها مما يفسح المجال أكثر لحوارات تتخذ شكل مجادلات سياسية على حساب التقليل من أهمية العناصر السردية الأخرى. وتنزع هذه الرواية ذات المنحى السياسي نحو نوع من الواقعية القرارية، ولاتتميز عن غيرها من الروايات إلا بتأكيدها على الحدث السياسي. كما أن الرواية التي" يتمكن كاتبها من تقديم رؤيته السياسية كقضية من قضايا الواقع السياسي من خلال معالجة فنية جيدة هي رواية سياسية."

هذا، وتركز الرواية السياسية غالبا على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقطرية والقومية لمعالجتها ضمن توجهات مختلفة ومحاور متعددة مستوعبة المراحل المتنوعة التي مرت بها القضية مع وقفات عند أحداث معينة لها خصوصيتها المتميزة. كما تنبني هذه الرواية على تبئيرالسلطة والحكم مصورة الاستبداد ومصادرة حقوق الإنسان والزج بالمعتقلين السياسيين في سجون الظلم والقهر. وبذلك يتم التأشير على الخطاب السياسي والعقيدة الإيديولوجية والرؤية السياسية إلى العالم وعلاقة الإنسان بالسلطة ومنظوره إلى واقعه الضيق أو الواسع.

ومن النقاد الذين عرفوا الرواية السياسية نجد جوزف بلونترBlotner في كتابه الرواية السياسية The Political Novel الذي نشر سنة 1955م، والناقد الأمريكي إيرفنج هاوIrving Howe في كتابه: السياسي والرواية Politics and the novel الذي صدر سنة 1957م.

ينطلق بلوتنرBlotner في تعريفاته للرواية السياسية من رؤيته للمجتمع الغربي فبقول:" إذا حصرنا الرواية السياسية في نشاط بعض المؤسسات كالكونگرس أو البرلمان، فهذا يعني أن نراعي بذلك الطابق العلوي للبناء السياسي، ونتجاهل الطابق الرئيسي والقاعدة التي تسانده". وهذه القاعدة التي ينبغي أن تخوض الصراع السياسي هي طبقات المجتمع، خاصة الطبقة العاملة التي ينبغي أن تضطلع" بأدوار سياسية أو تتحرك في وسط سياسي".

ونظرا لديمقراطية المجتمع الغربي، يرفض جوزيف بلوتنر الروايات السياسية التي توظف الأقنعة التراثية والمجازية والتاريخية للتعبير عن القضايا السياسية ، بل يفضل الرواية التي تقدم الخطاب السياسي مباشرة. وهكذا يبعد بلوتنر الروايات التي تعالج القضايا السياسية بشكل مجازي أو رمزي، ويرى " أن الرواية السياسية هي كتاب يصف مباشرة ويفسر ويحلل ظاهرة سياسية".

بيد أن هذا الرأي لايمكن استحسانه في عالمنا العربي الذي مازال لم يتخلص بعد من أنظمة القهر والاستبداد والعنف العسكري وطغيان جهاز المخابرات وانعدام حقوق الإنسان، فلابد من اللجوء إلى استعمال الرموز والأقنعة والعودة إلى التراث أو اتخاذ التاريخ ذريعة للتعريض والنقد. وهذا الاستخدام الرمزي لما هو سياسي موجود اليوم حتى عند كتاب الولايات المتحدة الأمريكية التي صارت تحارب الديمقراطية والعدالة وتسكت كل من يقف في وجه الحق وينادي بالمشروعية الدولية ، كما تفرض ضغوطاتها على وسائل الإعلام وتقتل الصحفيين في كل بقاع العالم و مناصري الشعوب الضعيفة والمغلوبة على نفسها كما حدث مع العراق ويحدث دائما مع الشعب الفلسطيني والأفغاني. ويرى جوزف بلوتنر أن " هناك أهمية لموضوعات بعينها في الرواية السياسية مثل: الحروب- التي يعتبرها امتدادا للسياسة- والأعمال المحرضة على الفتنة، وسياسات المجالس النيابية، والموضوعات المتعلقة بالانتخابات...". ولابد لكاتب الرواية السياسية أن يكون معايشا للأحداث، ذا رؤية واقعية محنكة بالتجارب والأحداث السياسية، وأن يكون متصلا " بالأدوار التي تلعبها الشخصيات، وأن يكون معهم على نفس خطوطهم في الحديث وغاياتهم التي يهدفون إليها، وإستراتيجيتهم التي يستخدمونها".

أما إيرفنج هاوIrving howe فيعرف الرواية السياسية بأنها تلك:"الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي، بيد أن توضيح كيفية التحكم تبدو ضرورية؛ لأن كلمة تحكمي تحتاج إلى تحديد، وربما كان من الأفضل القول بأنها الرواية التي نتحدث عنها لنظهر غلبة أفكار سياسية أو وسط سياسي. إنها رواية تظهر هذا الافتراض دون صعوبة أو تحريف." . ويضيف إيرفنج بعض المواضيع التي تتناولها الرواية السياسية إلى جانب ما قاله بلوتنر من حروب وفتن سياسية ومجالس نيابية وانتخابات ، وهذه المواضيع هي الأفكار السياسية أو البرامج السياسية والأحزاب السياسية أو ما يسمى أيضا بالأوساط السياسية.

وإذا كانت الرواية مجموعة من التقنيات والأدوات الفنية والجمالية تساهم في إثراء التعبير الإنساني عن الأفكار والمشاعر وتجارب الواقع والذات، فإن مصطلح السياسة يعني عند داڤيد إستون" مجموعة من التفاعلات التي من خلالها تتوزع السلطة، وتتخذ القرارات الأساسية في أي مجتمع من المجتمعات... وهو بذلك يعد مجموعة من الأدوار السياسية التي يقوم بها الفاعلون في إطار بناء سياسي يحدد العلاقات بين الحكام والمحكومين. وبذا تبدو السياسة- باعتبارها نسقا اجتماعيا- عملية معقدة، تقوم على تصورات نظرية أكثر شمولا واتساعا من الفهم التقليدي لها، كما أنها لم تعد تهتم بقضية بعينها، وإنما اتسع إهابها ليتناول كل مكونات النسق السياسي مثلك أسلوب الحكم، وطريقة تشكيل الحكومة، وصنع القرار السياسي وكيفية تنفيذه، وموقف الهيئة الحاكمة من القوى المعارضة...الخ. أما على مستوى الممارسة العملية، فتبدو السياسة عملية أكثر تعقيدا وشمولا؛ لأن حياة الفرد داخل نسق اجتماعي أصبحت حياة" مسيسة" على كافة المستويات ، بل إن بعض المجالات التي قد تبدو – في الظاهر- بعيدة عن دائرة البناء السياسي، هي في حقيقة الأمر خاضعة لقرار سياسي مثل: أسلوب توزيع الثروة الاقتصادية ونظام التعليم وحركة القوى العاملة وقوانين الإسكان...الخ، بحيث يمكن القول: إن السياسة تتدخل في كل أمور الحياة المعاصرة... وهكذا تبدو السياسة باعتبارها نسقا اجتماعيا ذات هيمنة شاملة على كل أنساق الحياة المختلفة. ونتيجة لذلك فإن الأدب حين يعكس رؤية تقدمية للواقع فإنه يعد ممارسة سياسية بمعنى من المعاني. ولاريب أن الأدب الجيد ملتزم بالضرورة والالتزام يقوده- طبعا لذلك- إلى صف المعارضة".

2- مرتكزات الرواية السياسية:

لقد أصبحت السياسة محورا فكريا في الرواية المعاصرة ، مهما تنوعت مواضيعها، وتعددت أبعادها الاجتماعية والواقعية، وجنحت إلى الحداثة الشكلية والتنويع الفني. فإن الرواية تعبر عن الأطروحة السياسية إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة. لذلك نقول: إن السياسة حاضرة في كل الخطابات والفنون والأجناس الأدبية. وتتمظهر بجلاء ووضوح في فن الرواية التي تعكس نثرية الواقع وصراع الذات مع الموضوع والصراع الطبقي والسياسي والتفاوت الاجتماعي وتناحر العقائد والإيديولوجيات والتركيز على الرهان السياسي من خلال نقد الواقع السائد واستشراف الممكن السياسي.

وتستند الرواية السياسية أيضا إلى بلاغة الإقناع والدعاية والتحريض والالتزام وتبليغ الأطروحة المقصودة بشتى الوسائل لأن الغاية تبررها وتعضدها . كما تنبني على بلاغة التكرار لتحريك الشعور السياسي والإيهام الثقافي. وتلتجئ هذه الرواية إلى السرد التفصيلي والحوار التسجيلي والمنحى الواقعي لتسجيل المعطى وتهويله وتصويره سلبا أو إيجابا. وتشحن الرواية ذات الأطروحة السياسية بتعاليم تنزع إلى توضيح حقيقة عقائدية وسياسية، وتصبح هذه التعاليم العقائدية السياسية بؤرة تعكس مفهوم الأطروحة في الرواية.

ويضطر الروائي في هذا النوع من الروايات إلى اختلاق شخصيات متصارعة وتهيئ برامج سردية ذات مواقف متطاحنة خدمة منه للأفكار والولاءات السياسية آو الإيديولوجية للقارئ. وتتأرجح الرواية السياسية بين الجانب الروائي والجانب الأطروحي. وتزدهر هذه الرواية " من خلال ارتباطها بسياق تاريخي وطني مليء بالصراعات الإيديولوجية التي تلزم كل روائي بالخوض فيها... ويظهر من خلال كل هذا ارتباط رواية الأطروحة السياسية بوظائف تلقينية وعقائدية ومنولوجية. وهي وظائف تمتلك سلطة إنتاج الأمر والتلقين والمعرفة نازعة باستمرار نحو أحادية المعنى في معاكسة لتفجر النص في الرواية المعاصرة".

3- ببليوغرافيا الرواية السياسية:

لقد اهتم كثير من الباحثين والدارسين في الغرب والشرق بالرواية السياسية تنظيرا وتطبيقا ومن بينهم:
1- سبير M.E.Spear في دراسة بعنوان" الرواية السياسية"؛
2- جوزيف بلوتنر في" الرواية السياسية" The Political Novel سنة 1955م؛
3- إيرڤينج هاو في " السياسة والرواية" Politics and the novel سنة 1960م؛
4- أحمد محمد عطية: الرواية السياسية، دراسة نقدية في الرواية السياسية العربية، مكتبة المدبولي، صدرت سنة 1981؛
5- فيصل دراج: الواقع والمثال، مساهمة في علاقة الأدب والسياسة، دار الفكر الجديد، بيروت، ط1، 1989؛
6- الدكتور حمدي حسين: الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1 سنة 1994؛
7- طه وادي:( السياسة والفن في الرواية العربية المعاصرة)، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة،مصر، العدد1، المجلد 50، مايو سنة 1990؛
8- أحمد فطري: الأدب السياسي عند عبد الكريم غلاب، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1982؛
9- حسين مروة:( علاقة السياسة بالأدب في المجتمع العربي)، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد كتاب العرب، دمشق، العدد171، تموز 1985م؛
10- صالح سليمان عبد العظيم: سوسيولوجيا الرواية السياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1 ، 1998م؛

إلى غير ذلك من الدراسات الأدبية والنقدية التي يصعب ذكرها أو حصرها من خلال مجهود بشري فردي. ولا ترتبط السياسة بالرواية فحسب، بل تتعداها إلى فنون أخرى.

4- سيـــــاق الرواية السياسية وحيثياتها:

أ‌- الرواية السياسية في الغرب:

ظهرت الرواية السياسية في الغرب نتيجة للصراعات الإيديولوجية والأهواء السياسية المتطاحنة. وكان الصراع السياسي حادا بين الرأسمالية والواقعية الاشتراكية . كما تغنت هذه الرواية بموقع الإنسان الغربي ومصيره في ظل أنظمة الحكم الغربية المعاصرة حتى إن السوسيولوجي لوسيان گولدمان يعرف الرواية الغربية بأنها بحث البطل الإشكالي عن القيم الأصلية في مجتمع متدهور يتسم بالتشييء و الاستلاب و الاغتراب و ضياع الإنسان وهيمنة القيم الكمية و معايير السوق والتبادل السلعي والإنتاجي ، بينما جورج لوكـــاش يرى أن الرواية لم تظهر في الغرب إلا لتفرز تناقضات المجتمع البورجوازي و تصوير صراعه ضد الطبقات الاجتماعية المعارضة الأخرى.

و من أهم الروايات السياسية الغربية نجد (الأم) لمـاگـسيــم گـوركــي، و(الدون الهادئ) لشولوخــوف التي تمجد صراع و نضال الطبقة العاملة والفلاحية لبناء الاشتراكية، و (الجريمة و العقاب) لدوستفسكــي التي تدين الواقع السائد الطافح بالتناقضات(الفقر – البؤس – الربا – الاستغلال...).

و عرفت فترة العشرينيات و الثلاثينيات من القرن العشرين – بعد نجاح الاشتراكية والقضاء على النظام الإقطاعي- روايات تدافع عن النظام الجديد و تلتزم بتصوير إيجابياته على الرغم من وجود روايات معارضة لهذا النظام الذي استهدف اضطهاد المثقفين و قمعهم.
و سار على غرار شولوخــوف ألكســي تولوستــوي بروايته(دروب الآلام)، كتب الجزء الأول سنة 1921،بينما كتب الجزء الثاني في سنة 1941. و من كتاب الرواية السياسية الآخرين نذكر: موپاســان وإرنست هيمنگــواي في روايته الرائعة (لمن تقرع الأجراس؟)، و مالــرو، ورومــان رولان، و جــاك لنــدن.

وقد واكب الأدباء الغربيون كل الهزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة داخل النظام الرأسمالي، وهناك من الكتاب السياسيين من شارك في النضال المستميت جسديا و سياسيا مثل:مالــرو وهيمنگــواي آملين في تغيير فردي و جماعي.

ب‌- الرواية السياسية العربية:

لم تظهر الرواية العربية السياسية حسب حسين مروة إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية " مع انطلاق حركة القرار الوطني وانحسار المد الاستعماري التدريجي"

و قد رصدت الرواية السياسية العربية عدة قضايا و ظواهر مجتمعية وسياسية كواقع الاستعمار و الاستقلال و الفترة السياسية ما بعد الاستقلال والصراع الإيديولوجي و الحزبي و الحروب العسكرية والسياسية (حرب أكتوبر، والحرب اللبنانية...)، و النكبات و الهزائم (نكبة 1948، والعدوان الثلاثي على مصر، وهزيمة 1967)، والصراعات القومية (الصراع العربي/ الإسرائيلي)، والثورات المناصرة و المضادة، ناهيك عن موضوعات أخرى كمصادرة حقوق الإنسان العربي ورصد ظاهرة السجن العربي أو المعتقل السياسي واستبداد السلطة و انعدام الديمقراطية و عدم مشروعية الانتخابات بسبب التزوير و التزييف و موالاة الأحزاب السياسية اليمينية للسلطة وموالاة الأحزاب اليسارية للمصادر الأجنبية.

و يقول صالح سليمان عبد العظيم بأن اهتمام الرواية العربية بالسياسة انعكس على " طبيعة القضايا التي تناولتها، حيث اهتمت بالعديد من القضايا السياسية مثل: العدالة الاجتماعية، و حرب أكتوبر، والحرب اللبنانية، وأساليب القهر السياسي، و الإرهاب الفكري، و التعذيب المادي و المعنوي، بما يعني أنها تناولت و بشكل أساسي – إذا استثنينا قضية الصراع العربي الإسرائيلي – المشكلات الناشئة عن ظلم النظام السياسي و الاجتماعي" . و تناول الدكتور حمدي حسين في كتابه (الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر (1965-1975) محاور سياسية مركزة تتمثل في (قضية) الصراع مع العدو من خلال هزيمة 1967 م، و حرب الاستنزاف، و نصر أكتوبر 1973 م، والحرب في اليمن، و قضية فلسطين، و قضية الديمقراطية من خلال التناقض بين الشعار و الممارسة و العنف السياسي، و أخيرا، قضية العدالة الاجتماعية سواء في القرية أم المدينة .

و يمكن حصر الرواية السياسية العربية في ثلاث رؤى:
1- الرؤية السياسية المحلية (ما يتعلق بإقليم محلي معين أو جهة أو جماعة).
2- الرؤية السياسية الوطنية.
3- الرؤية السياسية القومية.

و هذه الرؤى ما هي إلا توجهات نقدية لتعرية الفساد السياسي والفساد الاجتماعي، و الفساد الاقتصادي، و الاستلاب الثقافي، و محاربة البيروقراطية و الفساد الإداري و الفساد الأخلاقي و التنديد بالتسلط والاستبداد و الدعوة إلى الديمقراطية و حقوق الإنسان.

و قد بلغت تجربة الرواية العربية السياسية " شأوا عاليا في مقاربة قضايا المجتمع العربي الحساسة و الساخنة كقضية الحرية و السجن والسلطة و التحزب و المشاركة السياسية و سواها، بل إن تقصي معالجة الروائيين العرب للموضوعات السياسية تفضي إلى اليأس و الخذلان".

وقد لاحظ سماح إدريس في دراسته المهمة "المثقف العربي و السلطة" ، " أن استغراق الروائيين العرب في الموضوعات السياسية قد آل إلى إخفاق ذريع و أنه ليبدو لي أن ثمة وعيا متزايدا لدى المثقفين – كما تصورهم الرواية العربية – باستحالة تحقيق أي تغيير حقيقي في الوضع العربي الراكد باللجوء إلى سلاح الفكر وحده"

هذا، و قد اتخذت الرواية العربية السياسية مسارا وطنيا يتمثل في مجابهة الاستعمار الذي استهدف تغريب المجتمع العربي و استغلاله وتجهيله (عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، طاهر وطار..)، كما اتخذت مسارا قوميا للدفاع عن القضية الفلسطينية و مناصرة التجربة الناصرية والدعوة إلى الوحدة العربية الإسلامية. وقد أصبح الموضوع القومي هو مدار تجارب روائية برمتها لبعض أبرز الروائيين كنجيب محفوظ و فتحي غانم و عبد الرحمان الشرقاوي و جمال الغيطاني و يوسف القعيد و صنع الله إبراهيم في مصر، و صدقي إسماعيل وأديب نحوي و هاني الراهب وحيدر حيدر و نبيل سليمان في سوريا، و الطاهر وطار و واسيني الأعرج في الجزائر، و عبد الكريم غلاب و مبارك ربيع في المغرب، و إلياس خوري في لبنان، و مؤنس الرزاز في الأردن...الخ، و اتخذت هذه الرواية السياسية كذلك مسارا واقعيا انتقاديا و حقوقيا و ذلك بنقد الواقع والتاريخ والآخر.

و أهم موضوع انصبت عليه هذه الرواية بالمعالجة و الدرس والتحليل هو موضوع السلطة و الاستبداد و مصادرة حقوق الإنسان، وخير من عبر عن هذا الموضوع عبد الرحمن منيف و عبد الرحمــن مجيد الربيعي في روايته (الوشم)، و صنع الله إبراهيم في (اللجنة)، و جمال الغيطاني في (الزيني بركات)، والطاهر وطار في (الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي)، و عمرو القاضي في (البرزخ)، و بنسالم حميش في جل رواياته و خاصة في (بروطابوراس يا ناس!، و (محن الفتن زين شامة)، و حيدر حيدر، وهدى بركات في (حجر الضحك)،...الخ.

و قد كانت هزيمة العرب في 1967 م وما بعد ذلك حتى نصر عام 1973م الذي آل إلى ما يشبه الهزيمة سببا موضوعيا لظهور الرواية السياسية الجديدة التي ركزت على تأمل الذات بقسوة و شرح الواقع السياسي المرير، والتعبير عن خيبة أمل الإنسان العربي بقراءتها للأخطار المحدقة به التي تتمثل في سلب الإنسان حريته و كرامته و مصادرة حقوقه الفطرية و المكتسبة، بل وحتى لقمة خبزه و حقه الطبيعي في الحياة، بعد أن كانت الرواية السياسية الكلاسيكية تجسد صراع الوطنيين ضد الاستعمار الغربي أو الصهيوني.

و يرى الدكتور عبد الله أبو هيف" أن غالبية الإنتاج الروائي العربي بعد هزيمة عام 1967 يتناول الذات العربية المغيبة أو المفسدة أو المعذبة، و أن محاولات تحقق الهوية قد واجهت معوقات في التطور السياسي والاجتماعي اللاحق المشوه بتأثير خطب إيديولوجية سادت بتبني أنظمة عربية لها، ثم لم تورث إلا المزيد من الهزائم الذي توج بالانهيار الكبير مع حرب الخليج الثانية وما بعدها"

و برع روائيون من مختلف الأقطار العربية في تشخيص الواقع السياسي المعاصر، و تصوير أمراض السلطة و الحكم البرگماتي والانتهازية الوصولية وانتهاك حقوق الإنسان و الزج به داخل السجون والمعتقلات السياسية ومارستانات المجانين و البهاليل. و سخروا كذلك من أنظمة الحكم العربية القائمة على الحكم الفردي و التسلط و الاستبداد "والتفرعن"، و ثاروا على الواقع العربي بفضاضة قاسية. و انتقدوا الذات بوقاحة، حتى أصبحت الرواية السياسية المعاصرة لا تهاب الرقابة و مقص السلطة، و تخترق "الطابوات" السائدة في معاينة مجتمعاتنا، مثلما نجد في روايات عبد الرحمان مجيد الربيعي (الوشم 1972) و (الأنهار 1974) و(القمر و الأسوار 1976) و (الوكر 1980) و(خطوط الطول....خطوط العرض 1983)، و روايات الطاهر وطار (اللاز 1971) و ( الزلزال 1974) و (عرس بغل 1978) و (الحوات و القصر 1980) و (العشق والموت في الزمن الحراشي 1980) و روايات صنع الله إبراهيم في (ذات ، و تلك الرائحة 1966 ، و نجمة أغسطس 1974 ، و اللجنة 1981 وبيروت بيروت 1984)، و روايات عمر القاضي ( البرزخ ، و الطائر في العنق...) ، و روايات حيدر حيدر (مرايا النار- وليمة لأعشاب البحر 1984)، علاوة على روايات عبد الرحمن منيف، و جمال الغيطاني وبنسالم حميش.

وتشهد الروايات السياسية بكل صدق على تعفن الواقع العربي وترديه على جميع المستويات ولاسيما المستوى السياسي نظرا لغياب حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية و فشل التجارب السياسية المستوردة و تفشي ظاهرة البيروقراطية والانتهازية و الوصولية و التسلق المنفعي على حساب المبادئ والقيم الكيفية، وتوالي هزائم العرب و فشل الوحدة العربية واغتصاب الصهاينة لفلسطين ومرارة حرب الخليج الأولى و الثانية وانتشار القمع بشكل مستمر. كل هذا جعل الرواية السياسية الجديدة تعكس هذا الواقع مباشرة أو غير مباشرة بطريقة بارودية ومحاكاة ساخرة قائمة على السخرية و النقد و الفضح و الهجاء وتعرية الذات والموضوع معا. ويقول أستاذي محمد منيب البوريمي في دراسته القيمة عن الفضاء السياسي في الرواية السبعينية " عندما نصل إلى روائيي العقد السبعيني: (جمال الغيطاني/ يوسف صلاح عيسى/ إسماعيل فهد إسماعيل/ نبيل سليمان/ شريف حتاتة و غيرهم)، أي جيل ما بعد هزيمة يونيو 1967، فإننا نجد الفضاء الروائي عندهم يتخذ شكلا آخر، و بعدا آخر مغايرين تماما ، يتميز بالعداء عموما (فضاء مراكز الشرطة، و المخابرات، وفضاء القلاع و السجون، والغرف الحمراء، و دهاليز الاحتجاز، و الإذلال وساحات الإعدام و قضبان الانتظار، وعتبات القلق الممض و الحيرة الناهشة)، إنه الفضاء السياسي الواقعي بكل كوابيسه الدموية اليومية. هذا الفضاء المعادي أصبح يسيطر على راهن الرواية العربية كتابة و قراءة وتمثلا. إنه فضاء نمطي، أو هو في طريقه إلى التنميط، يطمح أن يختصر(بكل مكوناته الواقعية و الرمزية) عذاب الإنسان المستلب والمقموع في أي بقعة من بقاع العالم الثالث – عبر صراعه في المجتمع – ضد إحباطاته الذاتية و ضد قمع السلطة و عدوانية الآخرين".

و ظهرت روايات خاصة بفضاء السجون و المعتقلات السياسية ومارستانات الجنون التي زج فيها المثقفون العضويون- بمفهوم أنطونيو گرامشي- و المناضلون السياسيون و زعماء الأحزاب و أعضاؤها و أتباعها، بل زج فيها حتى المثقفون الوصوليون والانتهازيون و المهادنون للسلطة عقابا لهم على أطماعهم وطموحاتهم "التسلقية" و المصلحية. و تنبني هذه الروايات كذلك على تصوير الزنزانة، و مراحل السجن، و الاعتقال السياسي و كيفية الاستقبال في الزنزانة و التحقيق و التعذيب و الإيداع في الزنزانة الجماعية.

هذا، وقد طرحت روايات سجن الاستعمار عددا من صور السجن السياسي أبرزها ست صور هي:
1- السجان.
2- الجلاد.
3- السجين و السجن.
4- الصامد و الخائن.
5- الاتصالات السرية.
6- الفرار.

ويحاول الروائيون" عن طريق هذه الصور تحديد طبيعة السجن السياسي الداخلية، بعد أن حددوا الطبيعة الخارجية عن طريق الصور الخاصة باعتقال السجين السياسي، و استقباله، ومراحل السجن التي مر فيها. و من الواضح – أيضا – أن صور السجن الست تحاول التكوكب حول السجين السياسي في علاقته بالآخرين، و في أحاسيسه الداخلية، في حين انصرفت الصور السابقة إلى محاولات السلطة التأثير فيه".

ونسجل بكل جلاء أن السجن السياسي مظهر من مظاهر غياب الحريات الإنسانية و الديمقراطية في المجتمع. و من ثم فهو جزء من القهر، و شكل من أشكال علاقة السلطة بالإنسان العربي، تلك العلاقة القهرية التي تسعى السلطة من خلالها تطبيق ظاهرة التسلط و الرضوخ.

و لايمكن أن يتألق الإنسان العربي أبدا في جو القمع والقهر ومصادرة حقوق الإنسان، " و لا يستطيع نبذ التخلف، والاقتراب من الحضارة، ما لم ينل حرياته العامة، الاجتماعية والسياسية. فإذا لم يستطع الإنسان العربي التعبير عن رأيه بحرية، و إذا لم تستطع السلطة الوطنية الوصول إلى مرحلة احترام الرأي الآخر المخالف لها، فان الإبداع العربي سيبقى عاجزا عن أن يخطو خطوات حقيقية نحو الحضارة الحديثة".
و يمكن تقسيم السجن داخل العالم الروائي السياسي إلى:
1- سجن الاستعمار السياسي.
2- سجن الاستقلال السياسي.

وإذا أردنا أن نستحضر كتاب الروايات السياسية المتمحورة حول سجن الاستقلال فلابد من ذكر: الدكتور شاكر خصباك في (الحقد الأسود)، و نبيل سليمان في رواية (السجن)، وفاضل العزاوي في روايته (القلعة الخامسة)، وعبد الرحمان مجيد الربيعي في ( الوشم)، وإسماعيل فهد إسماعيل في رواية (المستنقعات الضوئية)، و نجيب محفوظ في (الكرنك) الذي يطرح العلاقة بين الشعب و الثورة في الفترة الممهدة لنكسة حزيران 1967 و في أعقاب الهزيمة، و حسن محسب في روايته (وراء الشمس)، و عبد الرحمن منيف في روايته السياسية (شرق المتوسط)، و شريف حتاتة في ( الهزيمة)، ورفعت السعيد في روايته (البصقة)، و فارس زرزور في (الاجتماعيون)، و فيصل حوراني في روايته (المحاصرون)، و صنع الله إبراهيم في (نجمة أغسطس)،و غالب هلسا في (الخماسين).

وتعمل الشخصية البطلة في هذه الروايات على"الدفاع عن القيم الإنسانية الخيرة و المثل العليا، و معالجة مشكلات الشعب، و بخاصة القضاء على الظلم والفساد، و بناء المجتمع الاشتراكي الحديث الخالي من التفاوت الطبقي

اللاز الطاهر وطار مثلا

، و قبر الملكية الخاصة والنزاعات البورجوازية، و الالتزام بحرية الإنسان و النضال في سبيل تحقيقها".

و يقول الروائي عبد الرحمـن منيف عن روايته السياسية بأن هدفها الحقيقي هو تحقيق الديمقراطية " و هي تحاول أن تعتبر هذا الهدف هاجسها الأول تبحث عنه و تسعى إليه. و لو أن الجو كان ديمقراطيا لكانت طريقة التناول الروائية مختلفة. لكن ضمن هذا الحيز الضيق، فمن غير المسموح للرواية أن تتواصل مع الآخرين. و لذلك تجد أن كل روائي هو رقيب على نفسه في الوقت ذاته، و من ثم فإن الحرية المتاحة لا تعطي إمكانية كبيرة للتعامل مع المادة وصياغتها روائيا. لكن، مع ذلك، تحاول الرواية أن تستفيد و توازن أمور عديدة من أجل أن تصل إلى الناس، و مع ذلك، أيضا، نلاحظ أن هناك كما كبيرا من الروايات الممنوعة و الملاحقة. فعلى سبيل المثال، معظم رواياتي ممنوعة في شبه الجزيرة، بل أصبح موضوع رواية (مدن الملح) عبارة عن تهمة تجر إلى نتائج معينة في بعض المناطق، إذن، لا شك أن المناخ الديمقراطي عامل مساعد، لكن كثيرا من الروايات كتبت في مناخات لم يكن الجو فيها ديمقراطيا، و ساهمت في خلق المزيد من الوعي و التحريض من أجل الوصول إلى هذا الهدف".

و يرى عبد الرحمن منيف أن الرواية هي المسلك الوحيد للتعبير عن تجربة المنفى و مصادرة حقوق الإنسان و غياب المناخ الديمقراطي و التنديد بالاستبداد و التسلط العربي و السخرية من هزائم العرب المتوالية و خنوعهم المتسلب و تواكلهم الذي طال أمده و أصبح ميسما و عارا يطبعهم أينما حلوا وارتحلوا. و يقول عبد الرحمن منيف عن الرواية السياسية التي يكتبها رغبة في إرساء مجتمع ديمقراطي عادل: " لم تعد لي علاقة بالعمل السياسي بمعناه اليومي أو التنظيمي، منذ وقت طويل، لكن هذا لا يعني أنني غير مهتم بالسياسة أو ليست لي قناعات سياسية. يمكن التعبير عن الاهتمام بالسياسة و عن القناعة السياسية، أو عن أي منهما، من خلال الرواية و من خلال السلوك و من خلال المواقف التي يلتزم بها الكاتب. ربما يطول الحديث عن العلاقات السياسية المباشرة أو عن الالتزامات التنظيمية، لأن هذا الجرح الذي نزف خلال فترة كاملة، خلال فترة ماضية، و كاد أن يندمل، نلاحظ جزءا من نتائجه الآن من خلال الانهيارات التي تقع و الخيبات التي تدوي و من خلال الاستسلام الذي شمل معظم أو كل الحركات السياسية. لقد كنا في وقت سابق نتعامل مع السياسة بمعناها المباشر واليومي، كما يتعامل الأطفال بألعابهم، و هذا ربما ما دعاني في وقت مبكر لهجر العمل السياسي و الالتفات إلى الرواية.

و إذا كانت رواياتي تتصف بالهموم السياسية فلأني أتصور أو أفترض أن السياسة بمعناها المغير المكتشف، لها أولويات معينة و جديدة ومختلفة عن المناورات أو المزايدة. و من هنا فإن أي كاتب و حتى أي إنسان لابد و أن يكون له موقف سياسي و أن يكون سياسيا بمعنى ما. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه امتداد لحركة سياسية أو أنه مضطر للعمل في السياسة اليومية".

كما يرى عبد الرحمن منيف في مقام آخر بأن الرواية مرآة صادقة عن الواقع، و أنها الأداة الفضلى و المتميزة في توعية الجماهير و تنويرهم وتحريضهم على التغيير و تفهم واقعهم من أجل الارتقاء به إلى عالم أفضل. وليست مهمة الأدب أو الرواية تحديدا " تقديم برنامج سياسي، وليس الأدب ترديد لشعارات أو مواقف. الرواية، كما أفترض، هي قراءة حقيقية و صادقة للواقع مع كمية من الأحلام و الرغبات في الوصول إلى واقع أفضل، إلى حياة أقل شقاء. ولذلك، فإن مهمة الرواية هي أن توصل كما من المعلومات و الوقائع و أن تجعل الناس أكثر قدرة و وعيا لواقعهم وأن تحرض أقوى ما فيهم من المشاعر، من أجل أن يكونوا بشرا فاعلين. إن الرواية - أو أي عمل أدبي – لا يمكن أن تغير الواقع. إن الإنسان هو من يغيره، الإنسان حين يكون أكثر إدراكا و أكثر حساسية يكون بالنتيجة أكثر فاعلية، و مهمة الرواية أن تساهم في خلق هذا الإنسان. "

5- الفرق بين الرواية السياسية ورواية التخييل السياسي:

ويمكن التمييز نقديا بين الرواية السياسية و التخييل السياسي، فإذا كانت الرواية السياسية تقدم الأحداث كما هي في الواقع بطريقة مباشرة أو عبر المرآة الجدلية لتصوير فضاعة هذا الواقع و فضاضته المأساوية باستعمال أسلوب سردي تقريري يقترب من أسلوب الأطروحة الشعارية أو أسلوب الروايات الإيديولوجية الحرفية ذات البرامج السياسية لقراءة الواقع الراهن المتردي على جميع المستويات، فإن التخييل السياسي يتعامل مع المادة السياسية من خلال الأقنعة الرمزية و الاستعارية، أي بطريقة غير مباشرة متكئا في ذلك على التاريخ و استنطاق التراث و الموروث الشعبي و صيغه اللغوية و الأسلوبية، مستهدفا بذلك الحوارية و الإسقاط والتماثل بين الماضي و الحاضر. و يعني هذا أن التخييل السياسي يتعامل مع الموروث الإنساني بصفة عامة، و العربي بصفة خاصة بطريقة سياسية مقنعة تارة، أو مباشرة تارة أخرى، يتجادل فيها الحاضر والماضي. و يكون إعمال التخييل السياسي في إطار المحتمل و الممكن، وذلك لملء البياضات الكثيرة في النص السياسي الموروث. كما أن لوحات التخييل السياسي متداخلة و أوعية متواصلة توحي كلها بأزمنة متقاطعة وليس بزمن واحد محدد كما هو الشأن في الرواية السياسية التي تصور الظاهر و السطحي والمباشر. بينما التخييل السياسي يرصد الممكن والمحتمل و الباطن و اللاشعور السياسي و أمراضه و عقده السيكولوجية وانعكاسات كل ذلك على شخصيات الرواية من خلال صيغ أسلوبية كالمقارنة و المعارضة و السخرية و الباروديا واللعبية و المحاكاة الساخرة. و يستند التخييل السياسي إلى التوهيم و مخادعة المتلقي وتخييب أفق انتظاره و تضليله بصدق المعطى و تشويق القارئ بحقيقته الواقعية لتدارك تعذر الخبر أو عجز الروائي عنه و تزيين الحكاية المروية.

ويروم المبدع من هذا التخييل تقريب الهوة بين الحدث و الخيال و بين الواقع و الممكن، و ذلك عبر الافتراض القريب إلى الاحتمال و الذوق السليم، أي إلى المعقول البعيد عن التخريف و التداعيات الاعتباطية.

فإذا أخذنا على سبيل المثال رواية بنسالم حميش ( محن الفتن زين شامة أو الهجرة في معمور الموت)، سنجد ملامح التخييل السياسي حاضرة في هذه الرواية التراثية على الرغم من شطاريتها [البيكارسكية]؛ لأن الرواية عبارة عن حفريات في المجتمع العربي المعاصر وخاصة السياسي والمدني انطلاقا من تصور سوسيولوجي. وتبعث الرواية من محيطنا العربي صورا متقاطعة متكاملة حول الذهنية السياسية و محن الحب و حقوق الإنسان و المواطن ومصادرة حرياته الخاصة و العامة. لكن هذا طبعا يمر كله بعيدا عن كل أطروحة شعارية إيديولوجية أو خطابية سجالية أو تقريرية سياسية على مستوى الحكي، أي يعتمد الكاتب على السرد الإيحائي و الحكي المتواتر و التخييل القائم على المفترض والممكن و سبر اللاشعور السياسي و الوجودي.

و إذا كانت روايات طاهر وطار سياسية محضة، فإن روايات جمال الغيطاني، و بنسالم حميش، و مبارك ربيع (بدر زمانه)، تشتغل على التخييل السياسي مستغلة في ذلك الموروث السردي الفلسفي و التاريخي والأسطوري والصوفي.

استنتاج تركيبي:

إذا كانت الرواية السياسية سواء الكلاسيكية منها أم المعاصرة تنصب على الحاضر و تعالج الراهن بطريقة سياسية مباشرة أو رمزية لتصوير غياب الديمقراطية و انعدام حقوق الإنسان و نقل عذاب الإنسان في السجون والمعتقلات السياسية و مارستانات التعذيب و "التجنين" و "التحميق"، و ما يتعرض له السجين من نفي و إقصاء و تصفية و تنكيل وقهر من قبل السلطات الحاكمة أو السلطات المستعمرة، فان أغلب هذه الروايات سقطت في أدب الدعاية و أحادية الإيديولوجية و رفع شعارات التحريض و الثورة و محاكاة الواقع بطريق سطحية مما أوقعها في الابتذال و التجاوز الفني لها، ناهيك عن سقوطها في التقريرية وأدب الوثائق والبرامج السياسية مما جعلها بعيدة عن الخلود الفني و المتعة الجمالية وإثارة المتلقي إقناعا و إمتاعا و تأثيرا.

أما رواية التخييل السياسي فقد حققت نجاحا كبيرا في التأثير على القراء و تمتيعهم، إذ اعتمد كتابها على استلهام التراث التاريخي و الفلسفي و الصوفي والسياسي للتعبير عن الحاضر بطريقة فنية جميلة قائمة على التهجين، والباروديا (المحاكاة الساخرة)، و الأسلبة، و المفارقة، و التناص، و المعارضة، و محاكاة المصادر و استعمال المستنسخات. فنقل أصحاب هذه الرواية القرار إلى استغوار اللاشعور السياسي و اكتشاف مكبوتات التسييس و تجلياته في "الطابوات"، كما رحلوا به إلى أجواء التراث الوسيط بالخصوص و الزمن الماضي لمعايشة الأجواء السياسية وتناقضات المجتمع و صراع الإنسان مع السلطة القاهرة ليقارنوا ذلك بعصرهم المكهرب الذي يعيشون فيه، كما تخيلوا حاضرهم سياسيا و ذلك من خلال الموروث الرسمي أو الشعبي.

1- الهوامش:

- - د. سعيد علوش: المصطلحات الأدبية المعاصرة، مطبوعات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، ط1 ، 1984، ص:60؛

- د.حمدي حسين: الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر(1965-1975)، ص:18؛
- نفسه، ص:19؛؛
- نفسه، ص:19؛
- نفسه، ص:20؛
- نفسه، صص:20-21؛
- نفسه، ص:23؛
- نفسه، ص:23؛
- د. طه وادي:( السياسة والفن في الرواية المعاصرة)، مجلة كلية الآداب، مصر، جامعة القاهرة، العدد 1، المجلد 50، مايو سنة 1990، ص:59؛
- د. سعيد علوش: (رواية الأطروحة والرواية المغربية)، الأقلام، العراق، العددان: 11/12، 1986،ص:60؛
- أ- المسرح:

1- أحمد العشري: مقدمة في نظرية المسرح السياسية، طبعة الهيئة المصرية للكتاب، سنة 1989م؛
2 – عبد العزيز حمودة: المسرح السياسي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971.
3 – أمين العيوطي:( المسرح السياسي)، عالم الفكر، الكويت، المجلد 14، العدد 4، 1984، ص 79-98.
4- أحمد العشري (المسرح التحريضي: الإثارة و الدعاية)، عالم الفكر، الكويت، المجلد18، العدد 1، 1987، ص103-134.
5- نادية بدر الدين أبو غازي: قضية الحرية في المسرح المصري المعاصر ( 1953-1967)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989.
6- فاطمة يوسف محمد: المسرح و السلطة في مصر 1993، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ب- السينما:

1- عصام العراقي: (السينما و السلطة في مصر)، مجلة القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 28، 1985، ص 27-29،
2- صلاح أبو سيف: ما هي السينما؟ مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، القاهرة، ط1، 1990، ص 56-71.
3- لوسيـــان گولدمــان و آخرون: الواقع و الرواية، ترجمة رشيد بنحدو، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1988، ص71-72.
4- لوسيـــان گولدمــان و آخرون: البنيوية التكوينية و النقد الأدبي، ترجمة محمد سبيلا و آخرين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1، 1984، ص107-108.
5- جورج لوكاتش: نظرية الفن و تطورها، ترجمة نزيه الشوفي، دمشق، ط1، ص 15.

- حسين مروة :(علاقة السياسة أديب في المجتمع العربي)،الموقف الأدبي، دمشق،سورية، كتاب العرب، العدد 171) 1985، ص 18.

- صالح سليمان عبد العظيم: سوسيولوجيا الرواية السياسية، ص 31.

- حمدي حسين – نفسه ص 430-432.

- سماح إدريس: المثقف العربي و السلطة، دار الآداب، بيروت، 1992، ص 288.

- نفسه ص 288

- نفسه ص 288؛
- عبد الله أبو هيف: نفسه، ص:230؛
- محمد منيب البوريمي: الفضاء الروائي في الغربة، ص 32-33؛

- د. سمير روحي الفيصل: السجن السياسي في الرواية العربية – جروس برس ، طرابلس ، لبنان، ط 2 – 1994، ص 45؛

- نفسه، ص: 5؛
- نفسه، ص:133؛
- د. عبد الرحمان منيف: الكاتب و المنفي: هموم و أفاق الرواية العربية، دار الفكر الجديد، 1992، ص 354.

- نفسه، ص:358-359؛
- نفسه، ص: 359؛

2- لائحــة المصــادر و المراجــع

1- حسين مروة: (علاقة السياسي بالأديب في المجتمع العربي)، الموقف الأدبي، سوريا، دمشق، اتحاد كتاب العرب، العدد 171، 1985.
2- د. حمدي حسين: الرؤية السياسية في الرواية الواقعية في مصر(1965-1975 )، مكتبة الآداب، ط 1، 1994م، القاهرة، مصر.
3- د. سعيد علوش: (رواية الأطروحة و الرواية المغربية)، الأقلام، العراق، العددان: 11-12، 1986.
4- د. سعيد علوش: المصطلحات الأدبية المعاصرة، مطبوعات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1984.
5- د. سماح إدريس: المثقف العربي و السلطة، دار الآداب، بيروت، 1992.
6- د. سمير روحي الفيصل: السجن السياسي في الرواية العربية، جروس برس، طرابلس، لبنان، ط2، 1994.
7- صالح سليمان عبد العظيم: سوسيولوجيا الرواية السياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1998، مصر.
8- طاهر وطار: الولي يعود إلى مقامه الزكي، روايات الزمن، العدد1، الطبعة الأولى، 2000، المغرب.
9- طه وادي: (السياسة و الفن في الرواية المعاصرة)، مجلة كلية الآداب، مصر، جامعة القاهرة، العدد1المجلد 50، مايو سنة 1990.
10- د. عبد الله أبو هيف: (أزمة الذات في الرواية العربية)، عالم الفكر، الكويت، المجلد 24، 1996.
11- د.عبد الرحمن منيف: الكاتب و المنفى: همومه و آفاق الرواية العربية، دار الفكر الجديد،1992م.
12- محمد منيب البوريمي: الفضاء الروائي في الغربة: الإطار و الدلالة، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1، 1984.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى