الجمعة ١٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٤
رواية تستحق القراءة
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ حلقة 9 من 18

و حملت الرياح الرد إليها سريعا ، رسالة من تامر و أخرى من سهيل ، فتحت أولا رسالة تامر :

ابنة العم الرقيقة / ريم

عندما يتهمك الغرباء تهمة لا تستطيعين إسقاطها ، يكفي أحيانا أن تهزي رأسك لتقولي بلامبالاة لأنهم غرباء ، يقولون ، و لأنهم غرباء لن يفهموا ما نحن فيه ••

بوسعك دائما أن تجدي ردا ينزل بردا و سلاما على غضبك و سخطك و يحوله رضا و لا مبالاة ، و لكن إذا كانت التهمة من الأقرباء ، من الغوالي ، ممن يهمك أمرهم و تتمنين لو همهم أمرك ، عندها تكون الطامة الكبرى ••

ابنة عمي إننا في غربتنا و لجوئنا بين نارين أستغرب كثيرا تأخرك في الإحساس بهما ، نار الغرباء من الجيل الجديد الذين لا يعرفون عنا إلا ما تبثه وسائلهم الإعلامية و هذه النار لمستها بنفسك •• و نار الأقرباء الذين يحولون حياة البؤس التي يعيشونها في ظل احتلال لا يرحم و فاقة تغل الأعناق و يوميات رعب متواصلة ، يحولون هذه الحياة إلى سياط نقمة على من أفلت منها ، سياط نقمة و غضب على أولئك المترفين الذين ينامون آخر الليل باطمئنان و يعيشون في تبات و نبات في انتظار هادم اللذات الطيب الذي يأتي إليهم في وجبــة دسمــة ، أو نومة هنيـــئة ، أو رحلة متعة •• و هــذه نار لم تلمسيها و لمستها أنا ، بين هذه و تلك يعيش فلسطيني اللجوء ، و ليت الأمــر يقتصــر على الكلام و الضغط النفسي إذن لهانت و استطعنا تحمله ، و لكنه يتحول إلى فعل يتمثل في تعليم عسير و شفاء عزيز ، ووظيفة مستحيلة ، صراع يشبه ما تعيشينه يعيش فيه كل فلسطيني عادي ، قد يخرج منا غولا لا ينتمي إلى قيمة مثلما هو الحال مع كل الشعوب لكن غولنا يصبح صفة عامة تطالنا جميعا و كأننا أصبحنا كلنا غيلان •• أسماء بارزة قد تتحول إلى شياطين و يطالنا في ضعفنا و استكانتنا شرهم فنصبح في العيون و قرارة النفوس شياطين بدورنا •• الفلسطيني في نظر العالم شخص واحد ، و الشخص الواحد إما أن يكون طيبا أو يكون شريرا و قد اختاروا لنا الصفة الاخيرة ووسمونا بها •• اغضبي يا ابنة عمي ، اضربي رأسك في الجدران ، اقتلعي مذياعكم و مزقي صحيفتكم ، لكنك في النهاية ستجلسين في ركن قصي تجترين عذاباتك و لن يرحمك أحد ، أبي مات قبل أسبوع •• مات و شفاهه متشققة تنطق بأسماء الغوالي فنسمع مع أسمائهم صوت تكسرات ذاته ، أصبح الشوق لديه ماردا ، أصبحت اللهفة عنده مرض ، فمات ، كم فلسطيني مات في اللجوء أنت روحه حنينا فلم يتلق أناته قلب واحد تسكنه الرحمة ، كم لاجيء حفظ وطنه ألبوما مهترئا و كيس رمل و ذكريات طالتها العفونة و لم ينس رغم الاتهامات و النيران ••

ابنة عمي •• لن أتوقف عن الكتابة إليك و بدورك لن تتوقفي ، اغضــبي و ثوري و ابكي و لكن لا تتوقفي عن الحب ، عن الانتماء ، عن الأهل ، لا تصومي عن الحياة لآن الآخرين انتزعوا شربة الماء التي تحتاجينها لجوف ملتهب قبل أن تبلغ فاك ، لا تصومي عن الحياة لأن الذي وهبها هو وحده القادر على استردادها ••

ابن عمك تامر عمر القاسم

و بكت ريم ، بكت كما لم تبك في حياتها كلها •• بكت بنشيج مرتفع كان داخلها يعوي ، كانت ذاتها مرهقة متعبة ، كانت الأشباح تسكنها و الرياح تصفر في رأسها ، كان كل شيء أسود ، و غلبها الخوف المريع ثانية ، غلبها الخوف فاجتاحت دقات قلبها المرتفعة المتسارعة كل الأمان الذي كانت تظنه ، كل اللامبالاة التي تعلمتها فوقتها لبعض الوقت من الشعور بالخوف ••
عندما جاءت الأم على صوت البكاء و جاء قاسم و جاءت سمر ، وجدوا الخطاب ملقى على السرير مبلل بالدموع ، ثقيل بما يحمل ، أسود من نبأ الموت الذي فيه ، فهمت الأم و فهم قاسم و جلس على طرف الفراش و قال :

  أخوة أبي يتساقطون تباعا •• لم يبق إلا أبي و عمي بدر ••

صاحت الأم :
 أبعد الله الشر عن أبيكم ••
نظرت إليها ريم و قالت وسط دموعها :
  و هل بقي شر بعد يا أمي •• و هل بقي شر بعد ؟
 
***

حاولت ريم في الأيام القليلة الباقية على امتحان نصف العام أن تبتعد ما أمكنها عن الجميع في الجامعة ، فكانت ترفض بهدوء شديد و بإصرار أي دعوة لتذهب للاستراحة مع زملائها ، و كانت تعتذر للدكتور محمد بأنها مشغولة بالامتحان إذا ما سألها عن أحوالها أو حاول فتح حديث معها ، و ظلت ترتدي اللون الأسود طيلة الوقت و تتخذ لنفسها مكانا منفردا على الأريكة في حديقة الجامعة بين المحاضرات و تغرس وجهها في كتاب أو تنهمك في رسم لوحة لا تنتهي ، لتمنع أي متطفل من اقتحام خلوتها ، و تشاور الأصدقاء في طريقة تخرج بها ريم عن صمتها الاختياري و توجهوا إليها ذات يوم و بادرتها سمر :
  ريم ، نحن لا نستحق منك هذا العقاب الصارم ••

رفعت ريم إليها عينيها و لم تجب و عادت للرسم فقال أحمد :
 فؤاد أخطأ و سيعتذر لك
و قال فؤاد بسرعة :
 نعم أنا آسف ••
و قالت هدى :
 ريم نحن نحدثك ••

لم ترد و اكتفت بحركات عصبية على اللوحة كانت تشويها أكثر منها رسما ، نظر الأصدقاء لبعضهم و قال أحمد :
 اسبقوني على الاستراحة ، سأخبر ريم أمرا ثم ألحق بكم ••
عندما انصرف الجميع و بقي أحمد قال و هو يجلس بجوارها يطالع اللوحة :
  ريم ، أعرف ما تفكرين به ، أعرف أنك غاضبة ، و أنك ترفضين صحبتنا ، و لن نضغط عليك كثيرا ، إلا أنني سأخبرك أمرا قد يعنيك أن تعرفيه •• أنا أشعر بك تماما •• و في ذلك اليوم عندما أخبرتك أنني أحبك لم يكن حديثي من قبيل اللهو ، و لكنه كان حديث نفس ، بالفعل أشعر أنني مرتبط بك بشكل أو بآخر ، أشعر أنك قطعة مني ••
 
نظرت اليه ريم و قالت مقاطعة بغضب :

 أنا لست قطعة من أحد ، و لا أريد أن أسمع هذه العبارات مجددا ، لم آت إلى هنا من أجل الحب و لعب العيال ، لقد جئت لكي أتعلم و أحقق أحلامي و انتمائي الشخصي الذي أريده ، و لا أريد المـزيد عنك أو عن غيـــرك ، و ليتكم تبتــــعدون عني فــأنا لست منـــكم و سأظل وافدة غريبة عنكم إلى الأبد و يحسن أن تتركوني لحالي ••
فوجيء أحمد بنبرتها ، و علا سريعا الغضب محياه و قال و هو ينهض :
 يبدو أنني أخطأت عندما بقيت ••
انصرف بخطوات سريعة ، لكنه لم يذهب إلى الاستراحة بل اتجه لمبنى الكلية •• رأته ريم عندما تابعته بعيونها ، تابعت الرسم و في داخلها بركان ••
استغرقتها الأفكار فلم تتبين الظل الذي أشرف عليها من الخلف ، و لم تنتبه إلا على صوت الدكتور طارق و هو يقول :

 تحت أية مدرسة فنية يندرج هذا الرسم يا ريم ؟
التفتت إليه •• و عادت للوحتها فيما اتخذ لنفسه مكانا بجوارها ، لمحت أحمد يقف بعيدا يراقبهما فعرفت أن الدكتور طارق صديق الطلبة هو رسول أحمد و توقعت ما سيجيء فقالت بهدوء :
  دكتور طارق ، لقد كان لك الفضل بعد الله في التحاقي بالجامعة ، و لهذا فلن أجحدك فضلك و سأستمع لما تريد قوله ••

فقال الدكتور :

 لا شيء يا ريم ، لا أريد أن أقول شيئا معينا ، أريد فقط أن أعرف اسم ما أنت فيه
تنهدت ريم و قالت :
 سمه اليأس إن شئت ••
ابتسم الدكتور و قال :
 حسنا و هو اسم مناسب لهذه اللوحة السريالية التي ترسمينها الآن •• هل قررت تجربة نفسك في هذه المدرسة ، أعرف أنك تنتمين إلى الواقعية ••
ضربت ريم اللوحة عدة ضربات قوية بالفرشـــاة و التفتت إلى الدكتـــور طـــارق و قالت و دموعها تغسل عيونها :

  أنا مهزومة يا دكتور ، مهزومة ، هل تعرف معنى الهزيمة ؟ ، معنى أن ينهار الكون من حولك ، معنى أن تنهار القيم التي ركنت إليها طويلا و شكلت نفسك و كيانك ، قيمة أن تصادق و أن تعطي بإخلاص و أن تثبت للجميع أنك قادر على الحب و العطاء و قادر على الاندماج و التحول مع المجـــموع إلى شيء واحد ••هل جــربت يوما أن يضيع كل هذا فجأة و تجد نفسك شيئا منبوذا ، هل جربت أن يحكم عليك الآخرون من منظارهم الشخصي دون الالتفات إلى صفاتك الشخصية ، هل تعلم مقدار الانكسار الذي يمكن أن يعشش داخلي عندما أفاجأ أنني موضع شــك و غير جـــديرة بالــثقة و ليس من حقي أن أكون كالآخرين و أختار لحياتي ما أريــده وفق ما تربيــت عليه ، إنني في نظـــر الجمـــيع جنسية متهمة و ليس مجرد بنت عادية ، فؤاد قال لي أنني في نظرهم الوافدة الثرية المدللة و أحمد قال لي أن لي وضعا خاصا يجب أن أراعيه ، و ابن عمي سألني كيف لم أشعر بفكي النار من الغرباء و الأقرباء حتى ذاك اليوم ، و عمي الثالث مات و أبي في غربته يقاسي الأمرين و يكافح شوقا و حنينا مضاعفا من أجل تعليمنا و في الوقت نفسه يصر الجميــع على أن كل هـــــذا لا يكفي ، كل هذا لا يسمــــح لي بأن أكون كالجمـــيع و أعيش مثلهم •• أنا لم أقترف ذنبا في حق أحد ، لم أتعد على خصوصية أحد ، لم أمارس معهم لعبة التجريح منذ عرفتهم ، اتخذتهم أصدقاء و اعتقدت أنني صديقتهم ، أنني مخطئة ، منذ البداية مخطئة ، لم أكن منهم يوما و لن يكونوا مني ، لي وضع خاص يجب أن أراعيه في الجامعة مثلما عشت عمري كله أراعيه في المدرسة ، مثلما هجرت طفولتي مجبرة ذات يوم عندما كــــان أولياء الأمور يحتـــــجون على جــــائزة تفــوق تمنح لوافدة و أولادهم لا •• مثلما قبلت أن أعيش في الظل حتى لا ألفت الأنظار ، مثلما عودت نفسي دوما على قياس خطواتي قبل الإقدام عليها ، عــــودت نفسي دوما على حسابـــات المكسب و الخسارة في مرحلة لا يعرف فيها الصغار ما معنى المكسب و الخسارة ••

ببساطة يا دكتور خسرت ••

أمسك الدكتور طارق الفرشاة المجنونة في يدها و أوقفها عن اللوحة و قال و هو يرفع اللوحة الغريبة :

 اسمعي يا ريم •• إذا سلمنا بأن كل إنسان يولد في هذا الكون عليه أن يتعرف على ذاته و صفاته و إمكانياته و يتكيف مع ما منحه الله أو أخذ منه ، لكي يجد له مكانا تحت الشمس ، لعرفنا سر عظمة طه حسين الكفيف ، و أبطال السباحة المعوقين ، و لعرفنا أيضا السر في موت آلاف البشر دون أن يعرفهم أحد •• السر يكمن دائما في ذواتنا ، في قدرتنا على تلمس هذه الذوات بكل نقاط ضعفها و قــوتها و محـــاولة تدعـيــم نقاط القوة و تهميش نقاط الضعف •• لو استسلم كل ذي عاهة لعاهته لأصبح البشر كومة من ذوي العاهات المحبطين و لرجع الكون إلى الوراء و لم يتقدم خطوة إلى الأمام •• قيسي نفسك جيدا ، فإذا رأيت أن جنسيتك هي عاهتك في زمن يرفض العروبة و يمج شعارات الوحدة و يبسط يده مسالما للعدو ، فعيشي ريم الفتاة التي منحها الله موهبة الرسم و القدرة على التقاط أدق الخلجات و تصوير المشاعر و الأحلام ، انجحي في هذا و اثبتي وجودك فيه و لا تتركي المجال للإحباط أن يسكنك لأن نتيجته دائما ستكون هذا التشويه الذي رسمت •• نتيجته تهميشك أنت و فشلك أنت ••
قالت ريم بحزن و ضعف شديدين :

  لكن يا دكتور طارق ، جنسيتي هي كياني و انتمائي ، و إذا رآها البعض عاهة فأنا أراها فخرا و عزة ، و إذا حاول البعض أن يجعل منها نقطة ضعف فهي في نظري سر قوتي •• كيف أتعامل معها كعاهة إذا كان إحساسي بها يختلف عن إحساس الآخرين ، كيف أستطيع التوفيـــق بين ذاتي و ذواتهم و نــحن نــرى الشيء ذاته بنظــرة مختلـــفة و برؤية مغايرة •• كيف يا دكتور كيف ؟

نهض الدكتور طارق و قال لريم مبتسما :

 حددي المعادلة بنفسك ، أنت المعنية بها ، و أنت التي يجب أن تبحثي عن حل لها •• ليس بالعزلة و اجترار الحزن و لكن بالوقوف أمام المجـــتمع ، إما أن يستسلموا لرؤيتك لذاتك و يعترفوا بك ككل و إما أن تستسلمي لرؤيتهم و تعيشي كما يريدون ••
مضى الدكتور طــارق ، ترك ريم غـــارقة في التفكير •• حـــائرة ، تطالع لوحــتها البشعة و تبحث عن الحل ••
و عندما خفق قلبها خفقه الشديد ثانية قررت التوجه إلى عيادة الجامعة ، و بالفعل وصلت الى هناك فوجدت الطبيب منهمكا في تضميد جرح لأحــد الطلاب و ما إن رآها حتى صاح :
 آه •• ريم أخيرا جئت للسلام على الطبيب العجوز ••
 كيف حالك يا دكتور سامي ؟ لقد جئت إليك كمريضة مرة أخرى
 خيرا إن شاء الله ؟
أطرقت ريم قليلا فأنهى الطبيب عمله مع الطالب و أعطاه دواءً و أوصاه بأشياء ، فلما انصرف قال :
 خيرا يا ريم
 أشعر بالخوف ••
 ماذا ؟!
جلست ريم و قالت :
  يوم سفر أبي انقبض قلبي فجأة و داهمني شعور عظيم بالخوف ، ظل هذا الشعور معي قرابة الساعة ، يصحبه دقات سريعة في قلبي و أشعـــر بالعـــرق يخـــرج غـــزيرا مني ، و تراودني مشاعر رهبة ، لا أدري لأي سبب ••رغم أنه لاشيء حولي يخيف ، و هذه الحالة ظلت تتكرر عندي في فترات متقطعة أشعر خلالها أن قلبي يكاد يقف من الخوف ، هكذا دون أسباب ملموسة ، و في الأيام الأخيرة أصبح هذا الشعور يلازمني ليلا عندما أدخل لأنام و صباحا عندما أستيقظ ، كأنني أتوقع شرا دائما •• و اليوم جاءني هذا الشعور قبل قليل •• قلت أستشيرك علك تجد السبب ••خاصة و إنني بت أفيق مذعورة بمجرد أن يوقظني أحدهم •• كأنه يحمل لي الموت ••

ابتسم الطبيب و قال :
 لا يوجد في العيادة كما ترين أدوات و أجهزة تساعدني في تشخيص هذه الحالة ، لابد من عمل رسم قلب أولا للتأكد من أن القلب بخير ، لكنني يمكنني أن أساعدك بطريقة اخرى ••
تطلعت ريم إليه متسائلة فأكمل :
 أشك في أن مشاعرك هذه هي من قبيل الضيق النفسي ، نحن نتضايق أحيانا فنعبر عن ضيقنا بأساليب مختلفة ، البعض قد يصيح و يصرخ و البعض قد يبكي و البعض قد يشعر بالآم عضوية في بطنه أو يديه و البعض تتزايد دقات قلبه و يستشعر خوفا مجهول الأسباب مثلما يحدث معك ، فما الذي يضايق طالبتنا الصغيرة ؟
ابتسمت ريم رغما عنها و قالت :
  المضايقات كثيرة في هذه الحياة يادكتور

فقال الطبيب و هو يجلس قربها :
 نعم ، هذا صحيح ، و لكنك مازلت صغيرة على الشعور بالضيق حد المرض ، و لابد أن تكوني أقوى حتى لا يتغلب عليك إحساسك و يصبح مرضي فعلا ••
تنهدت ريم و قالت :

 و ما المطلوب الآن ، هل تحولني إلى مستشفى الجامعة لأجري رسم القلب الذي تريد ؟
أطرق الطبيب و قال :
  في الواقع يا ريم ، هذا أمر صعب قليلا ، فبالنظر إلى كونك لست مصرية يصعب أداء هذه المهمة لك ••

ارتجفت شــفتا ريم غضــبا و لمح الطبيب بداية شروع في البكاء على ملامحها فأسرع يقول :
 سأرسلك إلى عيادة طبيب خاصة ، هو صديقي و لن يطلب منك شيئا إذا أعطيته هذه الورقة ••
أخرج الطبيب قلمه و هم في الكتابة فاستوقفته ريم و نهضت قائلة :
 لا تكتب شيئا يا دكتور ، لن أذهب لأي طبيب ، إنه أمر عارض بسيط و لا يستحق القلق •• أشكرك على أية حال ••
خرجت ريم بسرعة و لم تلتفت إلى الطبيب الذي كان يناديها •• خرجت و هي تشعر أنها مضطهدة و وحيدة في هذه الحياة •• لم تلتفت إلى أي مخلوق و عندما صارت بقرب باب الكلية وجدت سوسن مع أصدقائها و بادرتها بسرعة :
  ما بك يا ريم ؟

فقالت ريم :
 لا شيء ، سأذهب الى البيت
 و المراجعة بعد قليل ؟
 لن أنتظر
لا تدري ريم بأي اقدام سارت و لا بأي طريقة وصلت إلى بيتها و عندما رأتها الأم افزعها ما على وجه ابنتها من حزن و غضب و ما في عيونها من دموع فحاولت دفعها إلى الكلام و رفضت ريم أن تعبر بأية كلمة ، طلبت فقط أن تتركها لترتاح ••ألقت برأسها على الوسادة و شرعت في البكاء الهاديء الذي يرسم إحباطا و نامت ••

***

عندما دخل سيد غرفة أخته وجدها منكبة على كتبها فقال :
 هل يمكن أن نتحدث قليلا ؟
عرفت سوسن ما يريد محادثتها فيه فقالت :
 هل يمكن تأجيل الحديث إلى ما بعد الامتحانات ؟
فقال سيد :
 لن أعطلك هو سؤال واحد
 ما هو ؟
 لماذا عادت ريم مبكرا اليوم إلى منزلها ، لقد رأيتها تعود بمفردها و كنت أعرف أن محاضراتكم تنتهي في السادسة ، كما أن وجهها كان حزينا و لم تنتبه لأي شيء حولها فماذا حدث ؟
تنهدت سوسن و قالت :
 في الحقيقة يا أخي لا أعرف ، كل ما أعرفه أن ريم في الفترة الأخيرة زخذت تسلك معنا سلوكا غريبا ، ترفض محادثتنا أو الجلوس معنا و تتخذ لنفـسها مكانا منفــردا و ترسم أو تقرأ بدون هوادة ، ربما كان الامتحان القادم هو السبب •••
هز سيد رأسه و قال :
 لا •• هناك شيء ما يضايقها كثيرا ••
هزت سوسن كتفيها و قالت :
 بعد الامتحانات سوف أزورها لأعرف •• أما الآن فلا وقت لدينا لنضيعه ••
أومأ سيد موافقا و خرج ••

***

ابنة العم / ريم

عرفتك عن طريق تامر ، أرسل لي رسالتك الأولى إلى عم عمر يرحمه الله و طلب إلي أن أراسلك ••في البداية رفضت الفكرة ، فأنا لا أعرفك ، و لا أعرف إذا كان الحديث معك مجدي أو لا •• و لكن بعد أن كتب إلي تامر ثانية و اخبرني عن إحباطك في الخطاب الثاني قررت أن ارسل إليك هذه الرسالة ، قررت أن أعـــرفك أكثر •• لقد بدأت تشعرين و تعرفين و هذا هو الطريق الصحيح للوصول للهدف ، للوصول إلى الوطن •• ربما حالت الظروف و الحدود دون زيارته ، لكن الزيارة ليست هي موضوعنا و إنما المعرفة الحقيقية هي موضوعنا ، أنا مهندس كهربائي ، أعمل في الصحراء الليـــبية ، في مشــروع كبير ، و رغم أن الحياة هنا ربما كانت أسهل من الحياة في أي قطر عربي آخر إلا أننا نعاني مثلما تعانون ، و أكثر ما يشغلني هو ضرورة المشاركة في الكفـــاح المسلح في فلسطين ، و لقد حاولت مرارا أن أتسلل إلى بلادي لكنني كنت اكتشف و أعذب بسبب هذه المحاولات و للأسف من عرب مثلنا ••
أسمعي يا ريم سأحاول أن آتي إلى مصر قريبا لرؤيتك ، و سأشرح لك عندها أشياء كثيرة ربما يهمك أن تعرفيها و حتى ذلك الوقت استمري في طريق التعليم و حاربي من أجل النجاح فيه إلى النهاية ••

سهيل سعيد القاسم
طوت ريم الرسالة و تنهــدت ، ها هو قريب آخـــر مازال يحلم بالوطن •• ابتسمت ساخرة و نهضت جالسة لتستقبل أمها التي دخلت بحذر فلما وجدتها مستيقظة و الخطاب في يدها قالت :

 من تامر ؟
 لا ، لقد وصل في نفس اليوم الذي وصل فيه خطاب تامر لكنني لم اقرأه إلا اليوم •• إنه من سهيل ، أحد أبناء عمومتنا ، لا أعرف تحديدا درجة القرابة ، لكنه يعمل في ليبيا ••
 كيف حالك الآن ؟
تنهدت و قالت :
 الحمد لله ، بخير ، لقد كنت متعبة قليلا و كنت بحاجة للنوم ••
 ألن تحكي لي أسباب تعبك ؟
 صدقيني يا أمي لا شيء ، يبدو أنني أتعامل بحساسية مع الأمور أكثر مما ينبغي ، هذا كل ما هنالك ••
نهضت الأم و هي تقول :
 على راحتك ، هل أعد لك طعام الغذاء ؟
 لا أشكرك ، لست جائعة ، صحيح يا أمي ما أخبار الأستاذ سعيد ، لم أعد أراه أبدا ••
قالت الأم و هي تغادر الغرفة :
 لاشيء•• إنه فقط ولد عاقل ••
نهضت ريم ففتحت نافذتها و تطلعت إلى شرفته ، كانت مغلقة مهجورة ، كأنها لم تكن يوما المكان المفضل لسعيد ، منذ أيام و هي تراها مغلقة دوما •• تنهدت و اتجهت للوح الرسم و تطلعت مليا إلى حدوده و قالت :
 منذ زمن لم أرسم •• كأنني انقطعت فجأة عن كل ما أحب ••
أمسكت قلمها الفحمي و شرعت في رسم بعض الخطوط ••

***

بدأت الامتحانات ، امتلأت ساحة الكلية بالخيام الضخمة و اصطفت فيها المقاعد و تحددت اللجان ، و أقبل الطلاب و الطالبات من كل مكان يبحثون عن أماكن جلوسهم وفق الأرقام التي يحملونها •• و توجهت ريم إلى مكانها بعـــد أن ردت باقتـــضاب على كل من حياها ، و عندما دقت الساعة التاسعة كانت الأوراق قد وزعت و احتل المراقبون أماكنهم و بدأ الطلاب في تصفح الأسئلة ، و قبل أن تبدأ ريم في قراءة ورقتها عملت بما أوصتها به الأم فقرأت سورة يس و دعاء سيدنا موسى عليع السلام " رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي " و ما إن قلبت ورقتها و شرعت في قراءتها حتى لاحظ الطلبة جميعهم ثلاثة من موظفي شئون الطلاب و على رأسهم الأستاذ شاكر يتقدمون نحو لجنتهم و يتصفحون الوجوه ثم صاح الاستاذ شاكر بمجرد رؤيتها :

 ها هي ••
توجه الثلاثة إليها و قال المدير :
 ريم •• ليس من حقك تأدية هذا الامتحان ••
كانت ريم تطالعهم منذ دخلوا الخيمة الكبيرة و استشعرت الخوف المجهول يزحف قويا على قلبها و هي تراهم يتخطون كل اللجان و يتجهون إلى لجنتها ، ثم رأتهم و في وجوههم الحزم و الشر يتجهون ناحيتها تحديدا ، ارتجف القلم في يدها و تعالت دقات قلبها و تطلعت إلى الاستاذ شاكر و تمتمت :
 لماذا ؟
مدت الموظفة يدها و سحبت الورقة بعنف و قالت :

 لأنك لم تدفعي المصاريف ••
شعرت أن الارض تميد بها •• وهذه الوجوه الثلاثة التي تحيط بها تحمل الوعيد إليها ، في نظراتهم قسوة غير مسبوقـــة و في كلماتهـــم تجريـــح لا يحتمل و في تصرفاتهم عنـــف و تحفز ••
ترك الزملاء أوراقهم و تابعوا بكثير من الشفقة هذا الموقف ، و لم يتدخل أحد ، و قال شاكر :
 هل تحسبين أنك تستطيعين خداعنا ؟ لقد كتبت إقرارا على نفسك بعدم دخول الامتحان إلا بعد دفع كامل المصاريف ، فأين هي ••؟
و قالت الموظفة :

 هؤلاء هم الفلسطنيون ، الخداع في دمهم •••
نظراتها توسلت إليهم أن يرحموها ، روحها لا تطيق ما يحدث ، الخوف تحول إلى مارد ضخم ، و الغضب إعصار يجتاح روحها و الموقف برمته كان أسوأ ما توقعته في حياتها •• دفعتها الموظفة بخشونة و قالت :
 انهضي ، هذا المكان أولى به مصري ••
و قال شاكر :
 إذا لم تكونوا قدر التعليم فلم تتعلمون ؟

التفتت الموظفة إلى الطلاب و قالت :

 انتبهوا إلى أوراقكم و سنخرج فورا ••
جــذبت ريم من ذراعــــها و أنهـــضتها قسرا ، فنـــهضت مــعها مستسلمة و الخزي يطوقها و المرارة تعتصرها ، و لم تفلتها الموظفة إلا على باب الخيمة و هي تقول :

 إذهبي فأحضري المصاريف و إلا قمنا بشطب اسمك من الكلية تماما •• الكلية ليست مكانا للاجئين ••
و انهارت ريم ، سقطت على الأرض أمام الخيمة و هي تنوح بصوت عالي •• لم يكن الامتحان هو السبب الوحيد لنواحها •• كان الخزي و القسوة و الظلم ، كان الشعور بالاضطهاد و التمزق ، كان الضعف و المذلة •• كان القهر و الحرمان ، ناحت ريم و هي تشعر بشيء أسود يلف روحها و يطمس بصيرتها •• أحست أن كل العيون التي تراقبها عيون متواطئة شاركت في الجريمة ضدها أرادت أن تتنفس فلم تستطع ، أطبق كائن هلامي على صدرها فبلغ الفزع منها كل مبلغ و سقطت مغشيا عليها ••
و عندما أفاقت كانت في العيادة ، كــان في الغرفــــة عدد من الأشخـــاص تعـــرف بعضهم و آخرين لا تعرفهم ، شعرت أنها منهكة للغاية ، لم يكن بوسعها أن تحرك أطرافها و خطر لها أنها شلت ، غير أن لمسة الطبيب ليدها أعادت إليها الإحساس بها فحركت أصابع قدمها و كانت بلا حذاء فاستجابت لها ، تنفست بعمق و أغلقت عيونها فسقطت دمعة من بقايا الموقف كانت لازالت عالقة ، جاءها صوت الطبيب و كأنه يأتي من عمق سحيق كان يقول كلاما مشجعا و يوجه بعضه لها و بعضه لمن حولها ، الذين ارتفع لغطهم مستنكرين ما جرى معها •• كانت تريد أن تعرف الوقت و هل انتهى وقت الامتحان أم مازال لم ينته •• رفعت رأسها فأحسته ثقيلا ووجدت الطبيب يعيدها إلى الوسادة بسرعة قال:

 اهدئي يا ريم •• ابقي كما أنت ••
فتحت عيونها فغزا شعره الأبيض مجال رؤيتها ، كان يغرس حقنة في وريدها ، شعرت بشكة الإبرة فتأوهت ، ثم استكانت مستسلمة لما يحدث ، اقترب من فراشها وجه لا تعرفه ، كان شابا أشقر الشعر وسيم الملامح ، له شارب كث يشبه شارب أبيها ، مد يده ووضعها على يدها المستكينة للحقنة و همس بصوت عميق :
 سلامتك ••
هزت رأسها ، فأكمل و هو يبتسم مشجعا :
 لقد تركنا اللجان تضامنا معك ، و هناك من يحدث العميد باسمنا في شأنك و عما قليل يصلون ••
قرأ في عينيها السؤال فأجاب فورا :
 نحن الطلبة الفلسطنيين في الجامعة ، جئنا من مــختلف الكليات عندما وصلنا الخبر ، و الزميل بسام يتحدث الآن مع العميد و اعتقد أنه سيعود إلينا بعد قليل و معه نتيجة المحادثة ••
ربت على يدها و قال :
 آمل أن تكون كما نتمنى ••
هزت ريم رأسها و قالت بضعف شديد :
 لا فائدة ، لا فائدة ••
ربت بقوة على يدها يهدئها و قال بثقة :
 لايأس مع الحيــاة يا ريم ، كلنا مررنا بما تمرين به ، و إن هي إلا لحظات و يسوى الموضوع ••
جاء بسام ، كان شابا طويلا نحيفا أسمر البشرة في ملامحه قوة و في صوته حزم قال بمجرد دخوله :
  سوي الأمر يا أصدقاء •• كيف حالها ؟

أفسح له الشاب مكانا فوقف بجوار فراشها و قال :
 إنك ضعيفة كأنك لست فلسطينية ، هل أثر عليك أخوالك يا بنت ؟
ابتسمت رغما عنها فأكمل :
 أنا بسام •• رئيس رابطة الطلبة الفلسطنيين في الجامعة ، طالب في السنة النهائية كلية التجارة ، لقد تركت الامتحان من أجلك •• الجميع ترك الامتحان من أجلك ، ذهبت للعميد و تفاهمت معه ، لا بأس ستدخلي الامتحان بقية الأيام و سيخفون النتيجة حتى تدفعي ••
مال عليها و قال باسما :
 لكننا سنستطيع على أية حال معرفة النتيجة فلا تبتئسي ••
تنهدت و همست :
 لا فرق ••
فقال :
 لا يا ريم ، هناك فرق ، أنت ستصنعينه ، حاولي أن تعطي أفضل ما لديك في الأيام المتبقية ، نحن لا نقبل بأقل من الامتياز ••أليس كذلك يا خالد ؟
تقدم خالد و كان هو الشاب الأشقر فقال برفق :
  ريم قادرة إن شاء الله على إثبات ذلك ، أساتذتك يثنون عليك ، في الحقيقة الجميع مستاء من أجلك ••

قال بسام :
 حسنا نتركك الآن و نراك يوم الثلاثاء القادم ، أليس امتحاناتك سبت و ثلاثاء ؟
هزت رأسها إيجابا فقال :
 حسنا يا أصدقاء هيا بنا •• ريم هذه المادة التي ضاعت عليك لن تعفيك من مسئولية الامتياز في باقي المواد •• اعتبريه أمرا وجب عليك تنفيذه ••مفهوم ؟
هزت رأسها مبتسمة رغم أنه لم يكن يبتسم ، و عندما خرجوا قال بسام لخالد :
  كنت على إستعــداد لتحـــويلها لقضية سيــاسية كبـــرى ، لولا تــدخل الدكتــور طـــارق و تحذيره الصـــريح للعمــيد من تدخل الصحافة •• يبدو أن العميد يكترث كثيرا للصحافة ••

قال الطبيب لريم و هو يبتسم بحنان :
 أجـــمل شيء أن يشعر الإنـــسان أنه ليس وحيـــدا في هذا العالم ، و إذا كــنت قد قابلت و تعرضت لبعض السخفاء فإن لــديك عدد ا لا يستهان به من الأخيار الذين يتألمون من أجلك ••
همست ريم بوهن :
 آخر ما كنت أحلم به يا دكتور سامي أن أكون محل شفقة من أحد ، أنا لا أشحذ ، و لست طالبة صدقة ، أنا عربية لأم مصرية و أعيش في مصر و فيها ولدت و كنت أعتقد أن هذا كافي ، لكنه غير كاف بالمرة ••
دخل أحمد الغرفة ، كان يمسك بقلمه و مسطرته ، وقف قلقا على الباب فدعاه الطبيب للدخول و قال :
 تعال يا أحمد ، ريم بخير الآن ••
نظر إليها بكثير من الشفقة و قال بغضب :
 وددت لو قتلته ••
هزت ريم رأسها و ابتسمت بمرارة و هي تقول :
 لا داعي لأن تشعر بالغضب ، هو موظف و ينفذ قانون و لا لوم عليه ، اللوم على الظروف و هذه ليست بيدي و لا أملك تغيرها ••
اقترب أحمد من فراشها و قال برفق :
 هذا الموقف جعلني أفهم الكثير ، عرفت من خلاله ما لم أكن أعرف ، و فهمت أحاسيسك أكثر و عرفت لماذا اتخذت ذلك الموقف منا ، عندك حق •• إنني شديد الخجل أن يكون فينا مثل الأستاذ شاكر ، و لكن صدقيني ليس الجميع هو الأستاذ شاكر ••
أومأت ريم برأسها موافقة ، و أغمضت عيونها إيذانا بعدم رغبتها في مواصلة الحوار •• فأنصرف أحمد ••


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى