الأحد ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد نبيل

حلاق للكلاب فقط

البارحة، رغبت في أن أكتشف بنفسي كيف يحلم الألمان خارج بيوتهم المعتمة. تذكرتُ الكثير من الأصدقاء و من بينهم الجميلة كاترين،عندما كانت تترك كل الزبناء بمقهى بالزاك وتأتي لتروي لي قصة طلاقها من مارك وحبها الجنوني لرياضة اليوغا. كانت دوما تعبر عن حبها لكلبيها هاسو و ريكس.

هذا الصباح، أعتقد أن كاترين تريد أن تلحَّ علي من جديد كي أرافقها في خرجتها اليومية مع كلبيها... نادتني بلقبي الذي لا يعرفه إلا من اكتوى بنار الرحيل. كانت الضحكة ترتسم على وجهها المحمر دوما. وقبل أن تسألني وضعت يدها على ذراعي الأيسر:

ـ أما زلت خائفا من كلبيَّ؟

ـ لا أعتقد...

ـ متى سترافقني...؟

كظمت خوفي وحكايتي المريرة مع الكلاب،وقلت لها:

ـ لا أظن أنه لدي الوقت الآن...

تنهدت كاترين قائلة:

ـ أريد أن أعرض عليك فكرة جديدة و رائعة...

ـ أه، من لعنة العروض ولو كانت...!

ـ سأزور حلاق الكلاب قريبا و أرغب في مؤانستك...

كاترين تريد فقط أن أكون قريبا منها لأحدثها عن يوميات الشيوخ والمتقاعدين في وطني و كيف يقتلون الوقت يوميا وهم بجانب الأسوار، يحكون عن أحلامهم المطمورة و غرامياتهم الممزوجة برائحة الغضب... لا مجال هنا للحديث عن الحب، ولكن لا أظن أن كاترين تعشق رجلا مثلي... خاطبتها كالعادة بعدما سكتُّ لحظات:

ـ أنا مستغرب جدا لطلبكِ...كيف أتخيل دخولي إلى محل فيه حلاق خاص بالكلاب فقط! شيء مثير!

ـ لا داعي للاستغراب بهذه الطريقة الجنونية!

ـ الغربة و الاغتراب و كل أنواع الاندهاش أصبحت جزء مني، لكن ما العمل؟

ـ لا تندهش، كل شيء أصبح ممكنا في هذا العالم. لقد قررت أن أزور حلاق الكلاب الأسبوع القادم. ما رأيك؟

ـ لماذا هذه السرعة يا كاترين؟

ـ سنرى معا الحلاق...إنه شاب لطيف وله دراية كبيرة بنفسية الكلاب. فهو محترف في اختيار تسريحة الشعر المناسبة لكلبيَّ، كما له أسلوب متميز في التعامل مع الكلاب.

كاترين من مواليد برج الحمل و يبدو أنها تحب من يداعبها و ينصت إليها بالرغم من أنها في بعض الأحيان لا تُطاق. فهي تعيش وحيدة منذ طلاقها الذي وقع قبل أكثر من عشر سنوات.العزلة أثرت على نفسيتها كثيرا... أردت أن أسألها، لكن اندهاشي المفرط و كلماتي الألمانية التي لا تخرج بسهولة من فمي، دفعتها إلى التقرب أكثر من جسدي النحيف. لمسَت ذراعي مرة أخرى وطرحت عليَّ السؤال:

ـ أليس عندكم كلاب كما هو الشأن عندنا؟

ـ لدينا كلاب كثيرة: كلاب غير مرئية و أخرى نستطيع العثور عليها بسهولة في الشوارع و الأزقة و في كل المزابل...

ـ أعتقد أن تربية الكلاب شاقة فالكلب في حاجة إلى النظافة المستمرة وإخراجه إلى الفضاءات المفتوحة و أداء الضريبة عليه وكذلك الحلاقة...

ـ حكايتي مع الكلاب طويلة و سأحاول كتابتها على الورق و أعطيها لك هدية في عيد ميلادك قبل أن نزور صديقك، حلاق الكلاب...

ـ رائع. أنا مسرورة لمعرفة ما ستخططه يداك حول عالم الكلاب عندكم!

كاترين ورطتني. لقد أصبحت عاجزا عن الكلام. على الأقل، يخلصني الورق من المتاعب و الدموع و الصراخ و كذلك السقوط في حبال الانهيارات النفسية المتكررة.

مرت أيام قليلة و تذكرت الكثير من الأشياء. كنت طفلا صغيرا،نائما في حضن أمي، أحاول تلذذ الدفئ وشم رائحة جلدي، عندما عضَّني جَرو الجيران. تذكرت،كيف كانت جارة أخرى يلقبونها ب «قوادة الدرب»، تصرخ في وجهي قائلة:

ـ يا الشيطان، ابتعد عن الكلاب، إنها مسعورة...!

كان لدي اعتقاد راسخ بأن كل كلاب الدنيا مريضة و تعضُّ قبل أن أقرأ في إحدى النصوص القديمة، أن الكلاب التي تنبح لا تعضُّ. آه، من الخوف الذي يسكن النفس ويكبر مع الإنسان حتى يصبح قطعة منه. كلام كاترين قلَّب عليَّ المواجع و الآهات.لم أنس قاتل الكلاب الذي أصبح يثير الفزع في بلدتنا. لقد تحول إلى رمز للفشل و الانهزامية.

ماذا سأقول اليوم لصديقتي كاترين؟ لقد بدأت في كتابة يومياتي حول بؤس كلاب ترفض الموت. سأحكي عن كلابنا التي ليست ككلابهم. كلابنا ضائعة، ليس لها الحق في الوجود، و لا تتوفر لا على طبيب أو حلاق أو حتى من يداعبها حتى تنام في هدوء وطمأنينة مثلها مثل العديد من الحيوانات. لقد قررت أن أواجه كاترين بالحقيقة و أقول لها أن كلابنا ضالة تنبح طيلة حياتها القصيرة جدًّا قبل أن يقتلها رصاص قاتلها ذائع الصيت أو الجوع أو يطاردها الأطفال والمجانين في كل مكان. كلابنا لا ترقص إلا تحت وابل الحجارة التي تسقط عليها كل يوم. سأروي لكاترين عن نخوة كلابنا وكبريائها، عندما يتبع العشرات من الكلاب كلبة واحدة في الطرقات و الأزقة، فنجدها تتربص بالأسوار،تلحس الأرض و لعابها يسيل من كثرة التعب و من فرط السهر. لكن في النهاية،الكلب القوي و الذكي، هو من يفوز بالكلبة ليلتصق بها كما تلتصق البراغيت بجلد الآدميين. هذا المشهد يوحي لي بملذات الحياة وبالشهوة التي تجبرنا على ممارسة أفعال حميمية لا تحمل أي معنى في حد ذاتها.

سأصف لكاترين،كيف تُحرم الكلاب الخنوعة و المنبطحة من غذاء الغريزة، وتصبح مجرد كائنات تتفرج على غبنها الذي يظهر على عيونها اليتيمة. سأرسم الكلاب عندما تعود حزينة، تبكي ليلها في انتظار قدوم كلبة أخرى. كلابنا لا تقدر على الوقوف لمواجهة عجزها. إنها ليست وفية، فهي تأكل ما تجد أمامها بدون استئذان ولا تفكر في الآخرين، بل تنهش الآدميين وتنتقم ممن يتخلى عنها. لم أنس أن أشير في مسودتي إلى أن كلابنا تحتاج إلى نسيم الحياة ولغة العطف.

المهم، عندما أنهيت المسودة الأخيرة ليوميات كلابي المغتربة، كنت أمام باب بيت كاترين قبل أن أسلمها الهدية. وقفت أكثر من خمس دقائق، وقلت في نفسي: أنا لا يهمني ردود فعلها أو مدى اعتقادها بما كتبت عن كلابي المتحسِّرة. المهم هو ألا أكتب عن قصة مسعود وكلامه عن الكلاب. أعرف كاترين جيدا، إنها لن تصدق أن مسعود، المواطن المغلوب على أمره و الذي استسلم أمام المسدس الذي وضع فوق رأسه،يفضِّل أن يكون كلبا يزور الحلاق والطبيب، يتجول في المساحات الخضراء بحرية، تدافع عنه منظمات الرفق بالحيوان، ويدفن بعيدا عن الماكرين، بدلا من صفته الحالية المحسوبة عليه بلا معنى!

لقد فكرت في عدم تسليم هذه الأوراق إلى كاترين و لا حتى نشرها على صفحات أكبر الجرائد الدولية، لكن قررت أن أضعها على رفوفي المطلية بالمداد، فكاترين لن تفهم اكتئابي الجميل،لذلك عليَّ أن أعود من حيث أتيت و أنتظر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى