الأفق نافذتي...جديد الشاعر السماوي
في ديوانه " الأفق نافذتي " ، يواصل الشاعر يحيى السماوي احتجاجه ضد برابرة العصر من طواغيت وغزاة محتلين وتجار حروب وأزمات وأصحاب حوانيت سياسية .فمنذ غادر وطنه ، ببراءة البدوي وانتفاضته لكرامة وطنه الذبيح ، وهولا يكف عن الصراخ ،داعيا أبناء شعبه في العراق ـ قبل سقوط الطاغية ـ أن يقوموا بأنفسهم بتحريره، وألآيكلوا أمره للدخلاء والطامعين ، ولم يكن يدورفي خَلده ، على صفاء سريرته ، أن يكون تحريرالوطن شمّاعة يعلّق عليها العملاء والمتاجرون بحرية الوطن ، معاطف أطماعهم ، وأن السياسة عالم أرحب من نقاء ضمير شاعر ينشد الحرية ...
فوجئ السماوي أن الغزاة لم يكونوا أرحم من الحاكم المستبد.. وما كان الذي وقع لوطنه في حسبان شاعرلم يقرأ أبجدية السياسة ولا عرف خبثها .كان السماوي صاحب حلم نبيل ، وكان أدعياء الوطنية أصحاب مشاريع استثمارية في سوق السياسة، فليس غريبا أن بدا الشاعر السماوي في ديوانه هذا ، محبطا يائسا ضائع الخطى ، ولا يملك غير هذه الصفحات وقلمه الذي يجسد حلمه ببراءة البدوي ، فإذا به يكتشف أن القلم الذي ما خط حرفا إلآ لحرية الوطن ، يغدو جزءً من الإعلام السياسي الذي يخدم مصلحة الطامعين ممن يتنشقون رائحة النفط على بعد آلاف الكيلومترات ، وتتخطى شركاتهم كل الحدود لترسم للعالم المستقبل الأسود ...فالسماوي ، في كل دواوينه السابقة ، كان يعتقد أن نظام صدام حسين هو أسوأ الأنظمة ، قبل اكتشافه ، أن الإحتلال هو الأسوأ .
يبدو أن صلة السماوي بالبداوة عريقة النسب ،ولا عجب في ذلك ، فهو ابن بادية السماوة التي احتضنت المتنبي الذي لم يجد في الآفاق التي طوّف فيها بديلا من عرارها ، فوقف امام شِعب بوان ليقول :
مغاني الشعب طيبا في المغانيبمنزلة الربيع من الزمانولكن الفتى العربي فيهاغريب الوجه واليد واللسان
ومثله الشاعر يحيى السماوي في مغتربه يقول :
أ
نا البدوي لا يُغوي صداحيسوى عزف الربابة والسوانيودلّة قهوة ٍ ووجاق جمر ٍتحلّق حوله ليلا صحابيوبي شوقٌ الى خبز ٍ وتمر ٍكما شوق الضرير ِإلى شهاب ِوللبن ِ الخضيض وماء كوزٍوظلّ حصيرة ٍ في حرّ " آب "فطرنا قانعين بفقر ِ حال ٍقناعة ثغر زق بالحبابأب صلى وصام وحج خمساوأم لا تقوم عن الكتابوأطفال ثمانية أنابواعن الدنيا فراشات الروابيوفانوس خجول الضوء تخبوذبالته فيسرجها عتابي
***
بين شعر المتنبي وشعر السماوي رابطة نسب.. فكلاهما أنكر ولاة الأمر في زمانه ، وإن كان المتنبي اكتفى بالتعريض بالملوك الأعاجم دون المقاومة ، بينما حمل السماوي على عاتقه رسالة الرفض والمقاومة والتحريض ، مباركا في سبيل ذلك ، التشرد والغربة وعذاب المنافي .. يقول :
عربٌ إذا نطقوا .. وإن فعلوا فمالهمو سوى خبث اليهود سمات ُولبعضهم طبع الخراف إذا رأتْعَلفا تميل بها له الخطوات ُباع العروبة والعقيدة واشترىدِينا ً رسول حجاه " دولارات "هم صانعو مأساتنا ..فبقاؤهمما طال لولا هذه المأساة ُما زال عصر الجاهلية ماثلافالمال "عزى " والكراسي " لاة "هم في الوعود أئمة .. لكنهمإن حان وقت العزم " حاخامات ُ"
***
وإذا كان " العائدون " من تجار السياسة قد تقاسموا القصور والمناصب وأقاموا امبراطورياتهم المالية ، وأثقلت جيوبهم بعقود استثمارية على أنقاض دمار الغازي ، فإن السماوي يتمنى لو يعود وزاده القناعة بما في بلاد الرافدين من خير ، في عراق آمن مستقل لا ينخره الوباء الطائفي :
أنا أرضى بالذي قلّ ودل ْ:خيمة في وطني دون وجل ْخيمة أغسل باللثم بهايد أمي كلما الصبح أطل ْورغيف دافئ تخبزه" أم شيماء " وكوز من وشل ْوحصير ٌ يُنبض الخوصُ بهعبق َ الأهوار فوحا ً وظلل ْكذب التاريخ ..ما زال علىوطني للشرك "لاة ٌ" و "هبل "وفتاوى للمرائين ترىقاتل الأطفال والورد بطل ْ***
نلاحظ ان السماوي ينطق بلسان أبناء وطنه الشرفاء الذين لا يطلبون سوى العيش الآمن والقناعة بالقليل بعيدا عن استعباد الإحتلال ، ويتمنى جلهم لو لم تتفجر آبار البترول ، ولا تحلبت شفاه الطامعين بخيرات بلادهم ...فلو كانت صحراء للوى الغزاة أعناقهم عنها... فالمأساة تكمن بالخيرات التي وهبها الله للأبناء ،وتأبى طغمة المستغلين أن تترك الوطن يعيش بأمن وسلام .
لم يعد للسماوي بعد مأساة بلاده سوى ما للشاعر المغلوب على أمره.. كان يأمل ويمني نفسه بعودة ظافرة الى عراق حرره أبناؤه..أما وقد أحتل العراق ، فإن الذين يمني النفس بلقائهم ، هم اليوم غرباء في وطنهم ، لا يملكون من أمرهم شيئا .. فهم في الوطن أشدّ اغترابا منه في المنفى ، يترصدهم الموت في كل زاوية في ظل غياب الأمن والفاقة والعوز ، فاختلطت الأوراق والتبست الشعارات ، فلم يعد امام الشاعر غير اجترار الحنين القاتل الى بلده الذي استحال في نظره الى يوتوبيا موعودة..ها هو يقول :
ولولا خشيتي من سوء فهم ٍوما سيقال عن فقدي صوابيلقلت : أحنّ يا بغداد حتىولو لصدى طنين ٍ من ذباب ِلوحل ٍ في العراق وضنك عيش ٍجوار أبي المدثر بالتراب ِجوارَ أخيّة ٍ...وأخ ٍ... وأم ٍوأحباب ٍ يعذبهم عذابي***
ويحمل السماوي على عصره المشؤوم الذي بدّل صورة الوطن ، بعد ان كان ملاذا للأمن والطمأنينةوللسعادة في سالف الزمن ، قبل النظام الشمولي والإحتلال ...فيقول :
على ما يذكر الآباءإنّ الأرض كانت غير ضيّقة ٍوكان الماء أعذب َوالرغيف ألذ ّوالأعشاب ْأكثر خضرة ًو" الخيش " و " الجنفاص " أنعم من حرير اليوم ِحتى فاتنات الأمس كن ّ أرق ّوالخيل القديمة ُلم تكن ترخي اللجام لغير فارسهاولا كان الجبان ُ يصول في الميدان ِ...والأغراب ْلا يتحكمون بقوت ذي سغب ٍونبض رقاب ْويقنع بالقليل من القطيع ِ الذئب ُلا كذئاب هذا العصر ِأذكر أن أمي حدّثتني عن بيوت ٍ دونما ابوابْ
هذه الصورة الوردية عن العراق تقترن لدى الشاعر بصور حياته القاسية في المنفى ، حيث العذاب الروحي ...يقول :
أ
نا الراعي ...وعاطفتيعصاي ...وأضلعي غنميدمي مرعاي ...والينبوعدمعي ...والوجاق فميأنادم في هزيع العمرما أهرقتُ من ديَم ِعشقنا...فانتهينا بينمُتّهَم ٍ .... ومتَهِمِ ...!كلانا نادم ٌ... والعشققد يفضي الى ندم ِلمن نشكو وقاضي العصريشرب من دم الأمم ؟
ويتضخم شعور الشاعر بالغربة، وتختلط أحلامه ، فيرىنفسه يطير بجناحين الى وطنه على صهوة السماء المسروجة بالريح، ويتخيل أحيانا أنه " أبو نؤاس " يعاقر صهباء الحزن من كأس جراحه، وقد يتبلد إحساسه بالحياة فلا يشعر بمرور الأيام وتعاقب الليل والنهار:
متشابهان بمقلتيهطلوع شمسٍ والمغيبُيصبو لليلى في العراقمريضة فهو الصبيب ُكرّتْ عليه الموحشاتُالعسْرُ تقفوها الخطوب ُيبكي "الشمال " بمقلتيهويندب ُ الحال " الجنوب ُ"يشجيه صوت الأبعدينويستبيه العندليب ُ...!
ويطيب للشاعر ان يتذكر تسلله من وطنه هاربا ، وقد دهمه جند الطاغية ، فلا يمهلونه لتوديع أمه ، فيغادرضيعته مع زوجه وطفليه...يجتاز الصحراء ، وكانت تلك آخر صورة للوطن ارتسمت في ذاكرته دون ان تمّحي ...ويقف اليوم يقول :
أقف الانْفي منعطف العمر غريبابين صديق لا أعرفهوعدوّ ٍ يعرفنيحينا تحرقني الأمطارُوحينا تثلجني النيران ْبين عبير زهور الروحِوأشواك الجسد الشيطان ْ
ترى من ينقذ الشاعر من عذاب ذاته ، او يوحّد بين يقين جذوره وظنون اطفاله الذين لم يعرف بعضهم وطنه الأم ؟ ومن منفاه يتابع أخبار الوطن ، ومآسي الظلم التي تفصح عنها رسائل الأصدقاء من داخل العراق..يعترف بجميل المنافي عليه حين آوته :
أ
هلوك أهلي يا ديار فماؤهمخمري وصدق ودادهم أكوابيلا ضاحكتني ما حييت مسرّة ٌلو كنت أنسى ليلة ً أصحابيلولا اشتياقي للديار وأهلهاما كان مذبوح السطور كتابي
ويتطلع السماوي الى أمله بعراق محرر مستقر ، فلا يرى من حلمه غير السراب...فوطنه يشبه حالته في المنفى :
يشقيك يا ليلاي ما يشقينيمنفاي دونك والمشانق دونيبتنا وقد غرّبت مذبوح الخطىمجنونة ً تصبو الى مجنون ِمترقبين بشارة النخل ِ الذيأمسى سقيم السعف والعرجون ِنخفي إذا اصطخب الضحى آهاتنافتنز ّجمرا ً في ظلام سكون ِمن أين أبتدئ الطريق اذا الضحىداج ٍ وقد سمل الهجير ُ عيوني ؟طوت الكهولة والتغرب خيمتيومشت خيول الدهر فوق جبينيأنا ذلك البدوي ... ّتحت عباءتيواحات أشواق ٍ ... ونبع حنين ِغنيت والنيران تعصف في دميعصف اليقين بداجيات ظنون ِ
ويهوله تردي بعض رفاق دربه في المعارضة، وبعض الانتهازيين من ابناء جلدته ، وخيبة امله في مقاصدهم ، بعدما اتضح انهم ينظرون الى كرسي السلطة باعتباره الوطن ، فيقول :
فلا تأمل من القاصي نصيرا ًإذا الداني يريد لك الزوالامضى زمن الشهامة واستكانتضوامره...فأدمنت الضلالاتبدّلت النفوس ... وعفّرتهامطامعها ...فغيّرت الخصالاولوّنت الوجوه فلست تدريأ"معتصما" تحدّث؟أم "رغالا " ؟فتبّا للدليل يقود زحفا ًعلى أهليه ... غيّا ً أو حلالاوتبّا ً للقوي ّ يشن ّ حربا ًعلى وطن الأرامل والثكالىفلا تقنط ...عسى الأرحام يوماستنجب للملمّات ِ الرجالا
وينطلق تفاؤل الشاعر بالمستقبل من ايمانه بقدرة الشعب على تحقيق آماله في التحرر ، وان يتجاوز محنته بقوة الحياة فيه :
فإلى الأمام ِ ...إلى الأمام ْأفليس من طبع الأصيل من الخيولإذا كباشدّ الضلوع إلى قوائمه وقام ْ ؟النخل أبقى من بريق الصولجان ِومن يواقيت الأباطرة اللئام ْسأنام مغتبطا ً على ريش الأمانيحالما بحديقة ٍ أزهارها الأطفالتزحمها أراجيح ٌ ملوّنةوأسراب الحمام ْ
وستظل صيحات الشاعر يحيى السماوي تقرع اسماع الاجيال في سجل الخلود ،وتضع بين ايديهم تجربة ثرة عن المعاناة والصمود، بما حملت من جمال الفن وصدق العاطفة ونبل المشاعر والوطنية الحقة .
عبد اللطيف الأرناؤوط
دمشق
مشاركة منتدى
14 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 10:30, بقلم سوزان عون
ألف مبروك للشاعر والأستاذ المبدع يحيى السماوي، مع مزيد من الإبداع والتألق.