السبت ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم مليكة حفان

النظم القرآني وعلاقته باللفظ والمعنى عند الباقلاني

تقديــم:

كرس الباقلاني جل جهده في كتابه (إعجاز القرآن) للدفاع عن القرآن الكريم، أمام كيد الكائدين ومزاعم الملحدين والمغرضين، التي يريد بها أصحابها الغض من شأن كتاب الله العزيز، الآية الكبرى الدالة على صدق النبوة، كما كرس جهده للرد على أصحاب الفرق الإسلامية المخالفة وخاصة المعتزلة، الذين عللوا الإعجاز القرآني بالصرفة وبما فيه من وجوه بلاغية وألوان بديعية.

ولا يكون هذا الدفاع مجديا إلا إذا أثبت أن القرآن الكريم هو معجزة النبي ، وأظهر تفوق الأسلوب القرآني والبلاغة القرآنية، على أسلوب العرب وبلاغاتهم، لذلك اعتبر الباقلاني البحث في إعجاز القرآن، والكشف عن أسراره أهم وأولى من البحث في العلوم اللغوية أو النحوية أو الاشتغال بعلم الكلام، لأن "أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما، وعلى صدق نبيهم ص برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، ولاسيما أن الجهل ممدود الرواق*، شديد النفاق، مستول على الآفاق"(1).

وقد كانت قضية التحدي مثار اهتمام الباقلاني وهو بصدد الدفاع عن القرآن الكريم لأنه إذا وقع التحدي وثبت العجز، فإن ذلك دليل قاطع على صحة النبوة، وأن القرآن الكريم كتاب الله المنزل على رسوله ص، وأنه معجزته الخالدة التي تحدى بها الإنس والجن. وقد ثبت أن الله تعالى قد تحدى العرب أن يأتو بمثل القرآن(2) في علو أسلوبه وبالغ حكمته فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مماثلة له في النظم وما استطاعوا، ثم ردهم من عشر سور إلى سورة واحدة من مثله، تماثله في لفظه ونظمه وفصاحته وأسلوبه مبالغة في التحدي وتصغيرا للشأن، بالنزول عن التحدي من مثل القرآن كله إلى سورة واحدة، بل آية واحدة فعجزوا وما استطاعوا ذلك، ليسجل القرآن في نهاية المطاف هزيمتهم في باب البلاغة والفصاحة فقال تعالى في سورة الإسراء ﴿قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾(3).

وإذا ثبت عجز العرب على عهد النبي ص عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله، فغيرهم أعجز لقصورهم عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وفي القدرة على صياغة الكلام نظما ونثرا، ولأن "فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم، فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا"(4).

أما غير العرب فلا يمكنهم معرفة إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا عجز العرب عن الإتيان بمثله. فهل مع هذا التحدي المستمر المثير يصدق منصف أن القوم لم تكن لديهم رغبة في المعارضة، وأن الله صرف عنهم دواعيها مع قدرتهم عليها؟ إن القول بالصرفة ضرب من العبث ينبغي على المتكلمين عامة، والمعتزلة خاصة، أن ينزهوا عنها أنفسهم وعقولهم، إذ كيف يطلب الله من العرب الفصحاء الإتيان بمثل القرآن أو بشيء منه تحديا لقدرتهم البيانية، في حين يسلبهم القدرة على المعارضة والإتيان بمثل القرآن. فالعكس هو الصحيح، إن القرآن الكريم آثار فيهم تلك الدواعي، وهيج نفوسهم لها، ليبذلوا أقصى ما عندهم في الإتيان بمثله فلم يستطيعوا. ولو كانت "المعارضة ممكنة -وإنما منع منها الصرفة– لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه"(5). فحقيقة إعجاز القرآن عند الباقلاني أنه لا يقدر عليه العباد لأنهم لو قدروا عليه لبطل الإعجاز.

1- ثنائية اللفظ والمعنى

حين اعترض الباقلاني على الرماني تفسيره لإعجاز القرآن بما تضمنه من وجوه البلاغة وصور البديع، أشار إلى ناحية بلاغة النظم التي تعتمد على وحدة النص والالتحام الموجود بين عناصر النص، وهذا يعني أن الباقلاني كان يهدف إلى دراسة قضية الإعجاز القرآني بمنهج جديد، فيه مباينة واضحة لما كان سائدا عند الدارسين في عصره وخاصة المعتزلة، وذلك بالاستفادة من آراء ومبادئ المذهب الأشعري، يقول الباقلاني "الذي ذهب إليه عامة أصحابنا – وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه – إن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أم طويلة، أو ما كان بقدرها، قال فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت سورة الكوثر فذلك معجز"(6).

فالإعجاز لابد وأن يتحقق في كل آية من آيات القرآن طالت أم قصرت، لأن البلاغة لا تتبين بأقل من السورة أو ما كان بقدرها. أما هذه الوجوه البلاغية التي ذكرها الرماني فلا اعتبار لها في الحكم على إعجاز القرآن أو عدمه، لأنها توجد في بعض الآي دون بعض، ثم إننا لو سلمنا بأن إعجاز القرآن يظهر بهذه الوجوه، فإن ذلك يعني مساواة كلام رب العالمين بكلام البشر، لأنه يجوز أن "يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة تباين جميع ديوانه في البلاغة، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه، ولا يعرف سبب ذلك البيت ولا تلك القطعة في التفصيل، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط لم يجد إلى ذلك سبيلا"(7). وهذا ما يرفضه الباقلاني وأصحابه من الأشاعرة، لأن أسلوب القرآن الكريم مباين لسائر كلامهم، "وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد"(8). لذلك وجدناه منشغلا بالبحث عن نظرية جديدة يتفاضل على أساسها الكلام، وتتحقق في الآيات جميعها، وتنطبق على القدر المعجز في المذهب الأشعري، فاختار فكرة النظم.

والحقيقة أن فكرة النظم عرفت قبل الباقلاني وذكرها بعض علماء الإعجاز قبله، فقد ألف الجاحظ في القرن الثالث الهجري كتابا أسماه (نظم القرآن)، لا يستبعد أن يكون قد ضمنه كثيرا من لمحات القرآن المعجز عن طريق النظم، وبسبب ضياعه لم يبق لنا من ذلك الكتاب إلا الإشارات المبثوثة بين كتبه المتبقية. والجاحظ يرى أن إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه وفي ذلك يقول "وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها من جاء به"(9).

ويقول في موضع آخر من كتابه بعد أن تحدث عن صرف الله سبحانه وتعالى للبشر عن أشياء كانت في مقدورهم، "ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه"(10).

وكذلك الشأن مع الخطابي حين عرف الإعجاز بقوله "واعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني"(11). فاعتبر النظم أحد الأركان الثلاثة التي يقوم بها الإعجاز إلى جانب الألفاظ والمعاني، ولم يجعله الركن الوحيد للإعجاز، وذلك لأن الكلام بوجه عام يقوم على أشياء ثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم. وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا هذه الأمور منه "في غاية الشرف والفضيلة، حيث لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعومتها وصفاتها"(12).

ولاشك أن الباقلاني قد أفاد من هذه الدراسات القرآنية التي ارتضت النظم وجها للإعجاز القرآني، واقتنع بهذا الرأي اقتناعا كاملا، فاعتبر أن إعجاز القرآن في نظمه الخارج عن المعهود من كلام العرب. يقول الباقلاني "والوجه الثالث أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه".(13)

إن من يمعن النظر في كلام الجاحظ والخطابي عن النظم القرآني يجده كلاما عاما ومجملا، فهل سيستطيع الباقلاني أن يصوغ للنظم مفهوما دقيقا يترادف مع مفهوم العلاقات والترابط العضوي بين الكلمات؟ أم كان على نظرية النظم أن ننتظر مجيء عبد القاهر الجرجاني ليصوغها صياغة ناضجة متكاملة على أساس معاني النحو وأحكامه؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، لابد في البداية من تحديد معنى النظم ومفهومه لغة واصطلاحا. جاء في لسان العرب (مادة نظم) "النظم: التأليف، ونظمه نظما ونظاما ونظمه فانتظم وتنظم ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك...وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته"(14).

ويطلق اصطلاحا على نظم الكلام ويستوعب كل تلك المعاني، فهو عملية تأليف الكلام على نمط خاص بجمع الكلم التي هي الألفاظ وضم بعضها إلى بعض، وقرن أول لها بآخر على نسق وترتيب خاص وفق قواعد اللغة والنحو وغيرها. يقول صاحب التعريفات "النظم في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك، وفي الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مترتبة المعاني متناسبة الدلالات، على حسب ما يقتضيه العقل، وقيل الألفاظ المترتبة المسوقة المعتبرة دلالاتها على ما يقتضيه العقل"(15). من خلال هذين التعريفين تتبين الصلة الوثيقة بين المعنى اللغوي للنظم والمعنى الاصطلاحي. فالنظم هو الضم والجمع، وهو يشبه الخيط الجامع للؤلؤ، و في مجال الكلام هو مادة اللحام الجامعة للألفاظ مع المعاني داخل الآية أو العبارة.

وإذا كانت نظرية النظم تقوم على ثنائية اللفظ والمعنى والالتحام الموجود بينهما، وإذا كان الأشاعرة يرون أن إعجاز القرآن في معانيه وفي ترتيب ألفاظه بطريقة مخصوصة، وتركيبها بما يتناسب وحال الخطاب وموضوعه، وأن مزية النظم في معانيه دون ألفاظه، إذ ليس الغرض "بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"(16). فإلى أي حد استطاع الباقلاني الالتزام بمبادئ وأصول الأشاعرة في تفسيره لإعجاز القرآن، وفي تصوره لثنائية اللفظ والمعنى؟ وإلى أي حد سيتمكن الباقلاني من توجيه عنايته للمعاني وتقديمها على الألفاظ؟

2- مفهوم النظم عند الباقلاني

لاشك أن الباقلاني قد انطلق من مبادئ الأشاعرة في تصوره لنظرية النظم، وخاصة عقيدتهم في كلام الله، فقد رأينا في المبحث السابق شدة تقيده بالمذهب الأشعري وتمسكه بأقوال وآراء الإمام أبي الحسن الأشعري. فللأشاعرة موقف خاص من كلام الله، فهو مركب من الكلام القديم القائم بذاته تعالى، ومن الحروف المنظومة والأصوات المقطعة التي هي عبارة عن كلام الله ودلالات عليه وأمارات له. يقول الباقلاني "فالكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس، لكن جعل عليه أمارات تدل عليه، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم...وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان"(17).

إن هذه العقيدة الأشعرية في كلام الله القائمة على الكلام النفسي كانت توجه مواقف الأشاعرة في بحثهم لثنائية اللفظ والمعنى، وتحدد مفهومهم للإعجاز. فالنظم حسب هذه العقيدة، نظم واقع في المعاني وترتيب للكلام النفسي أو المعاني النفسية، لذلك وجه الاشاعرة عنايتهم للمعاني بحكم سبقها وأصالتها. أما الألفاظ فهي خادمة للمعاني وتابعة لها، وتتنزل في النطق بحسب ترتيب معانيها في النفس، فمزية النظم في معانيه دون ألفاظه. يقول الباقلاني "فليس الإعجاز في نفس الحروف، وإنما هو في نظمها وإحكام رصفها، وكونها على وزن ما أتى به النبي ، وليس نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة في الوجود، وليس لها نظم سواها، وهو كتتابع الحركات إلى السماء، ووجود بعضها قبل بعض، ووجود بعضها بعد بعض"(18).

إذا كان النظم كما يقول الباقلاني هو المادة العضوية الرابطة بين الألفاظ والمعاني، فما هو سبب هذا الارتباط؟ وبم يكون؟ وعن أي شيء يحدث؟ وما هي الأمور التي تقوي الارتباط بين أجزاء العبارة؟

لعل الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في النص السالف ذكره على لسان الباقلاني الذي كان يفهم النظم على أنه تأليف العبارة وبناء النص بناء تراعى فيه العلاقات، وملاءمتها لمواضعها التي وضعت فيه، فتحدث عن التقديم والتأخير وتتابع الحركات، لكنه لم يستطع أن يبين عن شيء من هذا المعنى، أو يقدم مفهوما واضحا له، فربطه بالأسلوب الذي صار به القرآن معجزا فقال "ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقبيل عند النظير متخلص"(19)، ويقول أيضا "وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب يختص به، وتمز في تصرفه عن أسليب الكلام المعتاد"(20).

إن هذا الوصف المجمل لمفهوم النظم غير كاف لأنه لا يحدد ما يقصده بالنظم الذي صار به القرآن معجزا تحديدا دقيقا واضحا، ومن شأن هذا الوصف المجمل أن يحجب عن الناظر الجهة التي تعرض منها المزية وفهمها على وجهها، وهو العيب الذي وقع فيه الباقلاني حين ربط إعجاز القرآن بنظمه من دون أن يفسر هذا النظم، ويعطيه مضمونا ملموسا يتبين به أثره في بلاغة النص، إذ "لا يكفي أن تقول إنه خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها مع بعض، حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبينوها وتذكروا لها أمثلة"(21).

ورغم كل هذه الملاحظات، فإننا لا يمكننا التقليل من جهود الباقلاني. فبتفسيره للنظم على هذا الوجه، يكاد يقترب من مفهوم عبد القاهر له "فقد انضبطت دلالته لدى الباقلاني في ما يمكن أن يوصف بالعلاقات، وطرق ضم الكلمات بعضها إلى بعض دون أن يتسنى له تحديد أساس عميق للضم"(22). ولعل غياب الأساس اللغوي أو النحوي عن تصور الباقلاني جعلت جهوده لا ترقى إلى تأسيس نظرية في النظم تقوم على أسس نحوية وترتكز على أصول الفكر الأشعري، وهو الأمر الذي سيتولى إنجازه خلفه الأشعري عبد القاهر الجرجاني، الذي اكتملت على يديه، وتحددت تحديدا واضحا حيث يقول "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك، علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم، ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس...وإذا كان لا يكون في الكلام نظم ولا ترتيب، إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه، وكان ذلك كله مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء، ومما لا يتصور أن يكون فيه ومن صفته، بان بذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس"(23).

فمفهوم الجرجاني للنظم يتمثل في أنه تعليق للكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، وتوخي معاني النحو بين الكلام حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام، وأن ميزة النظم البلاغية تكمن في المعنى الذي تحدثه الألفاظ إذا ألفت على ضرب خاص من التأليف، ورتبت ترتيبا معلوما، بحيث يقع ترتيب الألفاظ في الكلام على حسب ترتيب معانيها في النفس.

إن المشكلة الحقيقية عند الباقلاني والأشاعرة على وجه العموم تكمن في هذه الثنائية بين الكلام النفسي القائم بذاته تعالى وهو الكلام الحقيقي، وبين العبارة عنه من خلال الحروف المنظومة والأصوات المقطعة. فإذا كان إعجاز النص في نظمه وتأليفه، فما هو هذا النظم أو التأليف الذي وقع به الإعجاز؟ أهو الحروف المنظومة؟ أم الكلام القائم بالذات؟ أم غير ذلك؟

يقول الباقلاني "لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد، ولا نقول أيضا أن وجه الإعجاز في نظم القرآن من أجل أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله  معجزات في النظم والتأليف، وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك، وكذلك يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها وقد ثبت خلاف ذلك"(24).

إن القول بأن القرآن معجز في نظمه وتأليفه من حيث كونه عبارة عن الكلام القديم، يعني أن التوراة والإنجيل معجزات لأنها عبارة عن الكلام القديم، وقد علمنا أن معجزة هذه الكتب السماوية في غير النظم والتأليف، وأن معجزتها بأمر خارج عنها، فمعجزة موسى عليه السلام في العصا واليد البيضاء، ومعجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه وإحياء الموتى بإذن الله، ومن ثم لم يصح القول بأن القرآن الكريم معجز من حيث كونه عبارة عن الكلام القديم.

لذلك انشغل الباقلاني بمحاولة التوفيق بين الاعتقاد بأن القرآن غير مخلوق وبين الاعتقاد بأنه معجز، فالقرآن قديم قدم ذاته تعالى وإعجازه واقع في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه، وإلى مثل هذا الكلام وقع التحدي، لأنه الكلام الذي يقع فيه التفاضل والتفاوت. أما الكلام القديم فلا يصح فيه التحدي لأنه لا يقدر عليه البشر. يقول الباقلاني "الذي تحداهم به، أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمها متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها، ولم يتحداهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له، وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه ودلالات عليه وأمارات له"(25).

يكون الباقلاني بهذا القول متفقا مع المعتزلة في تصورهم للإعجاز، فهو عندهم في الكلام المؤلف من الأصوات، وفي الصورة السمعية للكلام، ولذلك فإن انتصار الباقلاني للمعاني على حساب الألفاظ يعد باهتا في ثنايا كتابه، اللهم بعض العبارات من مثل قوله "أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر"(26).

ولا نذهب بعيدا إذا قلنا إن الباقلاني قد استقى كثيرا من آرائه في الإعجاز من تلك الإشارات التي وردت على لسان بعض علماء المعتزلة، فهو لا يبعد كثيرا في مفهومه للإعجاز عن رأي الجاحظ والرماني. فقد رأينا في المبحث السابق، أن الوجه الثالث من وجوه الإعجاز البلاغي عند الباقلاني يتمثل في أن نظم القرآن "خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد"(27).

وهذا الحكم يتفق مع رأي الجاحظ في الإعجاز، فالمشهور عنه أنه كان يرى الإعجاز في نظم القرآن وتأليفه، وأن نظمه يخالف جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وأن نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج(28).

ونقرأ في رسالة الرماني رأيه في إعجاز القرآن حيث يقول "أما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس"(29). ويقول الباقلاني عن القرآن واصفا إياه في كتابه (إعجاز القرآن) "أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه"(30).

ليس ثمة تعارض كبير إذن في موقف الباقلاني ومواقف المعتزلة من الإعجاز، بل هو الموقف المذهبي الذي يقبل ما يتفق معه، ويرفض ما يتناقض مع مبادئه. هكذا كان الباقلاني بدافع غيرته على آراء الأشاعرة يعرض بآراء المعتزلة وينتقص منها، وقد وجد بغيته في كتاب الجاحظ (نظم القرآن) فوصفه بالقصور قائلا "وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه عما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى"(31).

ولم يسلم الرماني من تحامل الباقلاني على المعتزلة والتعريض بهم، فوصفه بقوله "إن من قدر البلاغة في عشرة أوجه من الكلام لا يعرف من البلاغة إلا القليل، ولا يفطن منها إلا لليسير"(32). وقد يكون هدف الباقلاني من مهاجمته للمعتزلة، صرف الأنظار عن آراء ومبادئ الفكر الاعتزالي التي جثمت بكل ثقلها على شتى مناحي الحياة السياسية والفكرية والأدبية، وتحويلها صوب نظرية في النظم تستمد أصولها من المذهب الأشعري، وتصلح لإثبات إعجاز القرآن. إلا أن الباقلاني وهو في مرحلة البحث والتأسيس "لم يستطع وضع نظرية أشعرية في الإعجاز، تقوم على أساس تصور النظم القرآني تصورا مطابقا لمذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى، ولنظريتهم المتميزة في الكلام النفسي، وفي قدم المدلول القرآني وحدوث دلالاته"(33).

3- علاقة اللفظ بالمعنى عند الباقلاني

تناول الباقلاني ثنائية اللفظ والمعنى ودورهما في صياغة الكلام من خلال نظرية النظم التي تعتمد على وحدة النص، والالتحام الموجود بين أجزائه. ويتوخى الباقلاني بالنظم معنيين اثنين هما:
المعنى الأول: الأسلوب والطريقة في التعبير، فنظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه "خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد...وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن وتميز حاصل في جميعه"(34).

المعنى الثاني: إنه يريد بالنظم التأليف، وضم الكلام بعضه إلى بعض على طريقة مخصوصة حيث يقول "فإن قالوا كيف يكون القرآن معجزا، وهو غير خارج عن حروف المعجم التي يتكلم بها الخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة قيل لهم، ليس الإعجاز في نفس الحروف، وإنما هو في نظمها، وإحكام رصفها، وكونها على وزن ما أتى به النبي ، وليس نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة في الوجود، وليس لها نظم سواها، وهو كتتابع الحركات إلى السماء، ووجود بعضها قبل بعض، ووجود بعضها بعد بعض"(35).

ولعل أول ما يقع في خاطر المطالع لكتب الباقلاني العالم المتحمس للمذهب الأشعري والمدافع بشدة عن آرائه ومبادئه، أن يجده ملتزما في تصوره للعلاقة القائمة بين الألفاظ والمعاني، ولوظيفة الألفاظ وقيمتها، وللنظم وإعجاز القرآن، بعقيدة الأشاعرة في كلام الله تعالى، تلك العقيدة التي قررت أن "المدلول القرآني صفة أزلية قديمة ودلالته حادثة، وتلك الدلالات تابعة في نظمها وترتيبها لذلك المدلول القديم، والنظم القرآني – حسب هذه العقيدة – هو نظم واقع في المدلول، هو ترتيب المعاني في النفس، وترتيب الألفاظ في النطق تابع لترتيب المعاني في النفس"(36).

غير أن ما يستغرب له، أن الباقلاني لم يتأثر كثيرا بهذه العقيدة، ولم يكن متحمسا للدفاع عنها كما كان متحمسا في نفي السجع والشعر عن القرآن، وربما لم يكن الباقلاني– كما قال الدكتور أحمد أبو زيد- قادرا وهو في مرحلة التأسيس والتمهيد وضع نظريته في (النظم والإعجاز) تستمد أصولها من المذهب الأشعري.

ويبدو أن الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن)، يرى أن المهارة في نظم الكلام وفي تأليفه، تعود إلى الألفاظ والمعاني على حد سواء، وإلى توافقهما وانسجامهما، فلا نص صريح في كتابه يدلنا على أنه يفضل المعنى أو يفضل اللفظ. فإذا كان الكلام موضوعا للإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس "وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب للدلالة على المراد وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع ولا مستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام، أو يمتنع بتعويص معناه عن الإبانة"(37).

والذي نفهمه من هذا الكلام، أن الباقلاني يهتم بالألفاظ بقدر اهتمامه بالمعاني، فكلاهما من عناصر الأسلوب، تجمعهما وحدة عضوية داخل النظم. من هنا يأتي إلحاح الباقلاني على مراعاة التوافق بين الألفاظ ومعانيها، فتأتي المعاني معبرا عنها بألفاظ تماثلها في الحسن، وتساويها في القدر والجودة، ويراعى فيها مقتضى الحال. يقول الباقلاني "فإذا برع اللفظ في المعنى البارع على ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه بأن التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعاني، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم"(38).

واضح أن الباقلاني رغم أشعريته، لم يستطع التخلص من سيطرة الفكر الجاحظي على الثقافة العربية الإسلامية، لأنه يردد ما قاله الجاحظ، من ضرورة المناسبة بين الألفاظ والمعاني، مع مراعاة مقتضى الحال إذ يقول "وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام، يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات. فمن الكلام الجزل والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا"(39).

والحقيقة أن الباقلاني قد تأثر كثيرا بالجاحظ وبالمعتزلة عموما في تصوره للإعجاز القرآني، ولثنائية اللفظ والمعنى، فعلى الرغم من أنه يصوغ للنظم مفهوما يكاد يترادف مع مفهوم العلاقات، إلا أنه يظل مشدودا في تصوره للنظم القرآني بآراء الجاحظ. وفكرة النظم عند الجاحظ فكرة لفظية تعتمد على حسن الصياغة اللفظية، وكمال التركيب ودقة تأليف الألفاظ وجمال نظمها. ولا عجب فقد كان شغوفا بجودة اللفظ وحسنه وبهاء رونقه حتى قدمه على المعنى في عباراته المشهورة "المعاني مطروحة في الطريق". ولا يبعد تصور الباقلاني للإعجاز عن رأي الجاحظ، فالقرآن معجز لأنه جمع وجوه الحسن وأسبابه، من تعديل النظم وسلامته وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول. يقول "فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه من تعديل النظم وسلامته، وحسن بهجته، وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان، ووقعه في النفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة"(40).

وقضية التلاؤم بين الألفاظ والمعاني شرط قد سبق إليه المعتزلة، واعتبروه شرطا من شروط البلاغة، بل لقد عده الرماني وجها من وجوه الإعجاز القرآني. فمن أراد أن يكون كلامه بليغا، فعليه أن يختار من الألفاظ أخفها على اللسان وأعذبها في الأسماع، فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى، حاز مرتبة البلاغة والبيان. وإلحاح الباقلاني على ضرورة تحقيق التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وتحقيق البراعة في كليهما دليل قاطع على إيمان الباقلاني بأن المزية في الكلام تعود إلى الصياغة والنظم. يقول "والتلاؤم حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب، وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي، والمتنافر كالخط القبيح، فإذا انضاف إلى التلاؤم وحسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات، ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطباع وبصيرا بجواهر الكلام"(41).

فالباقلاني من أنصار الصياغة اللفظية التي لا تعطي للفظ مزية على المعنى، ولا للمعنى مزية على اللفظ، فكلاهما عنصر من عناصر الأسلوب، وأي فصل بينهما يعني "فصل للجسم عن الروح، والروح عن الجسم، وذلك لأن جمال الألفاظ في تعلقها بالمعاني، وحسن المعاني في وجودها في تركيب"(42). ويتبدى كمال الائتلاف في علاقة اللفظ بمعناه في نظم القرآن المعجز للإنس والجن، فالنظم هو الصورة التي يرى فيها الإعجاز، وهو مادة اللحام الجامعة للألفاظ مع المعاني داخل الآية أو العبارة. وهذا الأمر يتجاوز النكت البلاغية المحدودة المعزولة عن سياقها التي ارتضاها الرماني وجوها للإعجاز. فالنظرة التكاملية "كانت موجودة عند الباقلاني في تحليل العمل الفني كله، ملاحظة التحام الكلمة بالمعنى، والعبارة بالمضمون، والفكرة بالأسلوب، لكنها تتوه في ركام الجدل المنطقي، وسيطرة من الأفكار المسبقة"(43).

ولعل أهم ما يسترعي الناظر في دراسة الباقلاني لإعجاز القرآن، اعتباره للوحدة الفنية فيه، وإشادته بقيمتها وبقدرتها على الإبانة، لذلك يرفض فكرة الإعجاز البلاغي التي تتعرض للتحليل الجزئي للعبارة، والبحث فيها عن ضروب البيان والبديع، ويرى أن إعجاز القرآن يرجع إلى نظمه وبيانه، وذلك منصب على القرآن جميعه بوصفه وحدة متكاملة جملة لا تفصيلا، ويتضح هذا من تناوله بالتحليل سورة بتمامها يتدرج فيها ليظهر ما تنطوي عليه من خصائص، "فيحللها من ناحية النظم متعرضا لألفاظها ومعانيها، وتآلف الألفاظ والمعاني في نظم رائع، وصلة الفاصلة بالنظم. ويقوم بتقريب معاني الصورة وشرح مواطن الجمال فيها، ويكشف عما قد يخفى على القارىً العادي وبذلك يقوم بدور الوسيط بين النص وقارئه، متمشيا مع الصورة من مطلعها، متقلبا مع معانيها، مختلفا بين فنون التعبير فيها"(44).

ولاشك أن هذا المنهج في التحليل هو الذي أكسب دراسة الباقلاني للإعجاز عمقا وأصالة حيث لفت أنظار العلماء إلى البحث عن منشإ جمال النظم القرآني، وجمال العمل الفني بصفة عامة، ونقل بحوث النقد من النقد الموضوعي الجزئي إلى دائرة النقد الشامل العام، بعد أن سيطرت "المعالجات الجزئية على العمل الفني، من جراء المنهج اللغوي، فظهر البيت الشاهد، أو الآية القرآنية التي تثبت قاعدة أو تنفي قاعدة، وضاعت النظرة الكلية إلى العمل الفني، فافتقد أخص مقوماته وأهم مميزاته"(45).

وإدراك الباقلاني لسمة الوحدة في النظم القرآني يبرز بشكل واضح في تحليله لسور القرآن الكريم، ففي كل سورة وحدة موضوعية مترابطة، وفي كل سورة بديع نظم وعجيب تأليف. ونقدم مثالا لتحليلات الباقلاني التي تعكس مدى دقة تفكيره وتعمقه في مباحث البلاغة والكلام، وما قدمه من جهود بلاغية متقدمة لإظهار إعجاز القرآن وكشف أسراره، ومواطن الجمال فيه، وبيان مخالفة أسلوبه لأساليب كلام العرب. ففي سورة النمل مثلا، يبدأ الباقلاني تحليله بالدعوة إلى تأمل السورة التي يذكر فيها النمل والنظر في كلمة كلمة، وفصل فصل فيقول: ثم وصل بذكر قصة موسى  وأنه رأى نارا فقال لأهله ﴿امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون﴾(46)...ثم قال ﴿فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين﴾(47). فانظر إلى ما أجرى له الكلام من علو أمر هذا النداء، وعظم شأن هذا الثناء، وكيف انتظم مع الكلام الأول، وكيف اتصل بتلك المقدمة، وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية، وما دل به عليها قلب العصا حية، وجعلها دليلا عليه ومعجزة تهديه إليه. وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة، ثم ما شفع به هذه الآية، وقرن به هذه الدلالة، من اليد البيضاء – عن نور البرهان – من غير سوء. ثم انظر في آية آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها مما تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها(48).

هذا نموذج من تحليل الباقلاني لسور القرآن الكريم، وهو يعكس موقفه من ثنائية اللفظ والمعنى، فالإعجاز يكمن في حسن النظم مع ائتلاف الألفاظ والمعاني، فلا وجود للفظ إلا بالمعنى، ولا وجود للمعنى إلا باللفظ، حيث ردد عبارات من مثل (وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة) وكذلك قوله (فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غابة وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها)، لقد أدرك الباقلاني مكانة العلاقة بين اللفظ والمعنى، وقيمة اللفظ ودروه في التعبير ونظم الكلام وفي إبراز المعاني، غير أن ما يؤخذ عليه كما – قلنا سابقا – أنه غالبا ما يترك آراءه حول اللفظ والمعنى دون تعليل علمي لها، بل يحيل جل القضايا إلى الذوق والإحساس، فهو المعيار الصحيح في نظم الكلام.

وفي الختام يمكن إجمال أهم الخلاصات والنتائج التي سبقت الإشارة إليها في ما مضى كما يلي:

أولا: إن كتاب الباقلاني (إعجاز القرآن) من أهم البحوث الرائدة حول قضية الإعجاز القرآني، وأثرها في ثنائية اللفظ والمعنى، إذ أسهم بدور أساسي في تحديد فكرة الإعجاز، وتطوير مفهومها ومناهج بحثها بصورة أثرت في كل من جاؤوا بعده من علماء البلاغة والدراسات القرآنية.

ثانيا: لاشك أن كتاب الباقلاني، قد أسهم بدور أساسي في نشأة البحث البلاغي وإثرائه، إذ شكل مناخا مناسبا لنموه وتطوره، فارتبط الدرس البلاغي بالقرآن الكريم وخدمته وإثبات إعجازه. فالبلاغة هي الوسيلة التي عملت على إبراز ما في القرآن الكريم من وجوه الجمال، ومن خصائص أسلوبية كانت وما تزال أساس التحدي ومناط الإعجاز.

ثالثا: الإعجاز عند الباقلاني في النظم والتأليف على طريقة مخصوصة، وليس شيئا خارجا عنه، وأن الوجوه البلاغية ليست أصلا في الإعجاز، وإنما تدخل في مقدماته من حيث إنها دعامة في بناء الأسلوب أو النظم الرفيع، والقرآن إنما أعجز العرب بهذا الوصف دون ما سواه. وهو رأي جدير بالقبول، فإعجاز القرآن ليس في وجوه البلاغة وحدها، وإنما يرجع إلى عدد كبير من الخصائص التي يصعب حصرها ويشق تعدادها.

رابعا: من الواضح أن الباقلاني قد اندفع في مواقفه من قضية الإعجاز القرآني وأثرها في ثنائية اللفظ والمعنى، متأثرا بموقف أصحابه من الأشاعرة في البلاغة وإعجاز القرآن. فهو أحد أعلام الأشاعرة الذين نافحوا عن المذهب بما عرف عنه من سعة الثقافة والعلم وحب الجدل والمنطق. وكان طبيعيا من رجل هذه ثقافته وتلك نزعته، أن يكون كتابه صورة لتفكيره، ومما كان يدور في تلك الحقبة من اتجاهات عقلية وفلسفية.

خامسا: القضية الأساس التي شغل الباقلاني بإثباتها على امتداد كتابه (إعجاز القرآن) هي انفراد القرآن بأسلوب مباين لأساليب كلام العرب، من ناحية تصرف أسلوبه في تناول المعاني والتعبير عنها.

سادسا: نستطيع أن نقول إن قضية اللفظ والمعنى، وطبيعة العلاقة القائمة بينهما، من المسائل الكبرى التي استأثرت باهتمام الباقلاني، وارتبطت عنده بخدمة النص القرآني والبحث عن مواطن الإعجاز فيه. فقد أدرك ما للألفاظ من دور في صنع العبارة، وما للمعاني من مكانة في التعبير، فلكل واحد منهما وظيفة يؤديها، لكن ليس منفردا، وإنما باعتبار ارتباطه بالآخر، فهو من أنصار الصياغة اللفظية حسب ائتلاف المعاني مع الألفاظ. وهي نظرة لغوية جديدة ثاقبة في اتجاه لغوي جديد للربط بين اللغة والفكر.

سابعا: لم يلتزم الباقلاني في تصوره للعلاقة القائمة بين الألفاظ والمعاني بعقيدة الأشاعرة في كلام الله، تلك العقيدة التي كانت توجه مواقفهم في بحثهم لهذه الثنائية للاعتناء بالمعاني بحكم سبقها وأصالتها. أما الألفاظ فهي تابعة لها وهي تترتب في النطق حسب ترتيبها في النفس، وعلى العكس من ذلك فإن الباقلاني قد تأثر بآراء الجاحظ والرماني فأولى الصورة السمعية للكلام عناية كبيرة، فالقرآن عنده معجز لأنه جمع وجوه الحسن وأسبابه من تعديل النظم وسلامته، وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان(49).

الهوامش:

(1) الباقلاني: إعجاز القرآن: 3- 4. تحقيق أحمد صقر، دار المعارف مصر، الطبعة لخامسة.
* الرواق: الفسطاط/ النفاق: الرواج

(2) مليكة حفان، قضية الإعجاز القرآني وأثرها في ثنائية اللفظ والمعنى خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، ص: 87 وما بعدها. أطروحة لنيل الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس، المغرب 1425هـ/2004م.

(3) سورة الإسراء، الآية: 88.

(4) الباقلاني، إعجاز القرآن: 250.

(5) المصدر نفسه: 30.

(6) المصدر نفسه: 254.

(7) المصدر نفسه: 286.

(8) المصدر نفسه: 35.

(9) الجاحظ، الحيوان: 4/89. تحقيق عبد السام محمد هارون، دار إحياء التراث.

(10) المصر نفسه: 2/30.

(11) الخطابي، بيان إعجاز القرآن: 27. ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،
تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف مصر، الطبعة الرابعة.

(12) المصدر نفسه: 27.

(13) إعجاز القرآن: 35.

(14) ابن منظور، لسان العرب مادة (نظم): 12/570. دار صادر بيروت،1374هـ/1955م.

(15) الجرجاني، التعريفات، مادة (نظم): 242. تحقيق جماة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت لبنانن الطبعة الأولى،1403هـ/1983م.

(16) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز: 49-50. تحقيق محود محمد شاكر، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة الثانية،1410هـ/ 1989م.

(17) الباقلاني، الإنصاف: 94. تحقيق محمد زاهدين الحسن الكوفي، مكتبة نشر الثقافة الإسلامية،1369هـ/1950م.

(18) الباقلاني، التهميد: 177-178. تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى،1407هـ/1987م.

(19) إعجاز القرآن: 159.

(20) المصدر نفسه: 35.

(21) دلائل الإعجاز: 36.

(22) الأخضر الجمعي، ائتلاف اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم بيئات المتكلمين والفلاسفة: ص:273. أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة الجزائر، 1988م.

(23) الجرجاني،دلائل الإعجاز: 55-56.

(24) الباقلاني: إعجاز القرآن: 47.

(25) المصدر نفسه: 260.

(26) المصدر نفسه: 36.

(27) المصدر نفسه: 35.

(28)الجاحظ، البيان والتبيين: 1/383. تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل بيروت لبنان،1410هـ/1990م.

(29)الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 75.ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف مصر.، الطبعة الرابعة.

(30) الباقلاني: إعجاز القرآن: 35.

(31) المصدر نفسه: 6.

(32) المصدر نفسه: 300.

(33)أحمد أبو زيد، مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن،: 94. دار الأمان الرباط، الطبعة الأولى،1409هـ/1989م.

(34) الباقلاني: إعجاز القرآن: 35.

(35) الباقلاني: التمهيد: 177-178.

(36) نظرية النظم بين المعتزلة والاشاعرة، د. أحمد أبو زيد :350. مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية عدد خاص: 4 سنة: 1409هـ/1988م.

(37) الباقلاني:الإعجاز القرآني: 117.

(38) المصدر نفسه: 42.

(39) الجاحظ: البيان والتبيين: 1/144.

(40) الباقلاني: إعجاز القرآن: 276-277.

(41) المصدر نفسه: 270.

(42) عبد الفتاح لاشين، البديع في ضوء أساليب القرآن: 21. مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة،1986م.

(43) منير سلطان، مناهج في تحليل النظم القرآني: 80-81. منشأة المعارف الإسكندرية، مصر.

(44) محمد زغلول سلام، أثر القرآن في النقد العربي:287-288. بدون طبعة.

(45) منير سلطان: مناهج في تحليل النظم القرآني: 75.

(46) سورة النمل،الآية: 7.

(47) سورة النمل، الآية: 8.

(48) الباقلاني: إعجاز القرآن: 189-190.

(49) المصدر نفسه: 276-277.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى